طريق الشعب حين نذكر عبارة تحولات السرد؛ فهذا يعني المتغيّر في النسق. وفي ذكر نص معيّن, فهذا يؤكدأيضا ً أن المبحث معني بما كان عليه النص وليس بغيره. لذا يمكن القول أن هذا النص القصصي للكاتبة ذات العطاء المتواصل قصة ورواية, قد اختار له نمطاً من السرد, يمكن الاصطلاح عليه بالسرد البطيء, من باب دراسة حركة الشخصية المرتبط بالتاريخ الشخصي لها. كما ويمكن التأكيد أيضا ً على أن هذا التاريخ لا يبتعد أو ينفصل عن التاريخ العام, بل أنه نتاج له. لذا كان تعامل القص مع الشخصية يُساير فعل الحفرية في هذا التاريخ, ووصف المؤثرات, من أجل أن تستكمل المشهد البانورامي التراجيدي لها. وأرى ــ وأنا متابع لما تكتبه المؤلفة ــ أن هذه الانعطافة تكاد تدخل في مشهدها السردي من باب التحول الذي تطلبته طبيعة الشخصية. ذلك لأني تلمست الاقتدار والحرفة في ما هو محرر سرديا ً عن الأنموذج الإنساني هذا. وقد توقفت على: التعاطف الإنساني مع الأنموذج, ثم تحول السرد إلى نمط الشعر في استقراء دواخل الشخصية, كذلك كشف الخاص من منطلق العام. لذا يمكنني القول أنه نص الاستجابة الزمنية ــ العمرية المتقدمة ــ التي تحرث في التاريخ والحس البشري, وهو من متطلب استرداد القيمة الإنسانية. وهي التفاتة كان القاص (مهدي عيسى الصقر) قد تنبه إليها من خلال قصته (حيرة سيدة عجوز). لكن لكل قاص حقله في الكتابة, يبذر فيه ما استطاع من بذوره الخاصة, فتُنتج عطاء مغايرا ً. صحيح أني وجدت علامات في القصتين كالقطط مثلا ً, لكن المهم هنا ليس الرمز, فهومشاع, فقط المهم كيفية التعامل معه من باب الاستدلال إلى دواخل الشخصية. إن المؤثرات متوفرة في الحياة, كالريح والعواصف, والسجون على سبيل المثال, لكن ذات الكاتب هي التي تـُميّز هذا عن ذاك. وبالمناسبة كنت قد أنجزت قصة حول امرأة كنت أزورها في الطفولة, ولم تكن تمتلك سوى القطط وتعتبرهم أبناءها, ولم أنشرها للآن. هنا أؤكد على قول أحد الشعراء من أن القصائد لم نبتكرها بل هي موجودة من حولنا, فما على الشاعر الموهوب إلا أن يستدعيها ويضعها على الورق. هكذا يمكن التعامل مع نص (ميسلون هادي) هذا, والذي أسفر العنوان فيه عن الإشارة لظاهرة تكشف ظواهر, كما قرأت هذه الثريا محكمة البنيان فعبارة (تجلس في الصف الأخير) يعني أنها كانت سابقا ً تجلس في الصف الأمامي. بمعنى كان لها تاريخ. وهذا تقابله أسئلة القاري: ما ذا حدث فكان سببا ً لهذا التحول في الجلوس..؟ وكيف كانت هذه المرأة في حياتها..؟ ما الذي حوّلها هكذا..؟ وغير ذلك من ألأسئلة. أما عبارة (تخرج قبل النهاية) وهذا دليل على المحجوب الذي لا تريد أن تكشفه العجوز أمام الآخر. وهذا أيضا ً يُحيل إلى التاريخ الشخصي, الذي حاولت أن تـُبقيه في نظر الآخر كما هو, دون أن تـُعكره في ما هو متوفر على قسماتها ربما, أو الإشارة إلى وهنها. من هذا أجد أن العنوان موفق إلى حد كبير, لأنه يُشير إلى متن النص كما أرى. أما السياق الذي اعتمدته الكاتبة, فهو سياق اعتمد البطء في استقراء دوخل الشخصية. أي أنها توفرت على الفعل وردّة الفعل في ما هي تحاول عكسه في المتن السردي هذا. فالاستهلال يمنحنا قوة التلخيص للتاريخ الحالي للشخصية, بعبارات مقتضبة دالة, تبتعد الكاتبة عن الوصف المجرد كما اعتادت, لأنها هنا تمزج بين الوصف للمشهد, وحالة الشخصية ذاتيا ً. فحين تذكر عبارة (صباح الخير تقولها أم الخيطان من دون أن يسلم عليها أحد) تـُلحقها بعبارات أخرى لها نفس الوقع. غير أن هذا الاستهلال يقود إلى كشف المستور, ولكن ليس بتقريرية تاريخية, بقدر ما كان يمتلك التحكم الأسلوبي الذي لا يُفرّط بشعرية العبارة, وموثوقية التاريخ في آن واحد. وهي كالآتي (كما لو كان فعلا ًهناك أحد في البيت تـُسلـّم عليه.. تتحدث معه عن حقها القديم, عن خريطة آسيا.. عن مسمار الحائط.. عن تاريخ العالم.. عن مربى التين.. عن شادي وفادي.. عن أحد ظلمها ولم ترد عليه أين.. وكيف..؟) ولو تمعنا في هذه العبارات الاستهلالية, لأدركنا من خلال هذا الاقتضاب الكثير من التاريخ. فهي تدّخر حق قديم كان قد صودر, وكان لها تصور سياسي بدليل خريطة آسيا, ثم دلالة مسمار الحائط على الأزمنة وتاريخ العالم وهنا نتوفر على رؤية مكينة للشخصية في علاقتها بالكون وحراكه. أما مربى التين فهو رمز أسطوري دال على ما لشجرة التين من قدسية مثيولوجية. ويأتي أسما شادي وفادي ليؤكدا على العلاقة التاريخية بالعالم من خلال هاتين الشخصيتين الغائبتين. ما نـُريد أن نقوله أن العنوان مدخل سردي أعطانا مجموعة تساؤلات, ومنحنا قدرة تعريفية بعالم العجوز الذي سيفضي به المتن. لعل نداءات العجوز والدوران ثم الحصول على الجائزة, كان كل هذا نمط من المعالجة الدالة على وقع الشخصية وشدة تأثير تقادمها في العمر, فهي نداءات وتصورات لا تنحو إلى فتح الكوة لكي يدخل منها الضوء, بقدر ما كانت محاولة لاسترداد القيمة في الوجود, فالفراغ الذي تعيش داخله الشخصية لابد أن ينفتح وتـُسد ثغراته. وهنا كانت التصورات للعجوز خير ما يملؤها. فنداء : (يا شادي.. تعال تعال.. يا فادي.. تعال تعال) فيه من الترجيديا الكثير المؤلم والمثير للشجن, فهو أسلوب ينطوي على حالة تصوف أولا ً, ثم حالة يأس ثانياً, وشكل من أشكال السرد البطيء ثالثا ً. فهو نداء للغائب الميؤس من عودته. لقد حاولت الكاتبة أن تزن عباراتها بشكل دقيق, تحتاج إلى وقفات, لكنني سأقتصر على بعضها من باب معالجة نص قصصي واحد له ثراء لغوي مثل هذا. فعبارات مثل (لا تكرر أخطاءها.. لأنها لا تخطيء.. الكرسي المحدد هو مكانها الذي لا تفارقه.. يتذكر الجميع اسمها ولا تتذكر اسم أحد.. تغلط كثيرا بالأسماء ولكنها لا تدري أنها تغلط بالأسماء.. ليس الأقرباء وحدهم من تغلط بأسمائهم, ولكن الجيران والقطط والبلابل. ولا تنسى الفلاح الذي تناديه بعشرة أسماء في الزيارة الواحدة) هذه العبارات تمتلك خزينا معرفيا ً بحياة المرأة من حيث وضعها الصحي والنفسي والعمري, لكن السر في هذا كامن في عدم استخدام عبارات من قبل الساردة تـُعطي هذا المعنى, فالتشفير اللغوي كان هو المعيار الكاشف لذلك. لذا أؤكد على عبارة نقدية أطلقتها على جُهد الصقر وأنا أنجز كتابا ً عن سردياته, مفادها ؛ العلاقة بين الجملة السردية والمشهد, وقد طبقتها على سرديات (محمود عبد الوهاب) وها أني أقولها في حضرة سرد السيدة (ميسلون هادي) في كونها توجز العبارة وتـُبقي مكمنها اللغوي مكينا ً للإشارة إلى ما ترمي من خلاله وصف الشخصية. إننا بعبارة موجزة, يمكننا أن نمنح القارئ موجزا ً تقريريا ً عن الشخصية, لكن موهبة الإبداع تتطلب اتباع كل الطُرق لتقديم درس السرد, وحسنا ً فعلت الكاتبة. نأتي على وجهات النظر التي احتوتها القصة, وضمتها إلى رؤية الشخصية, لتثبت كونها لم تكن امرأة عادية في حياتها, بل مؤثرة وذات رؤى كما هو في عبارة تساوقت مع حالة النسيان التي ابتلت بها الشخصية. لكنها هذه المرة تـُشير إلى نوع من السخرية السياسية المرّة:(الزعماء وحدهم هم من لا تغلط بأسمائهم) وهنا قد يتوقف المتلقي قليلا ً ويسأل : لِمَ الزعماء فقط..فتجيب العبارة (لأنها تـُعيد خطاباتهم وتحفظ أجزاءً منها..) لكنها لا تبوح في العبارة سوى بوجهة النظر عن تلك الخطابات كونها ( كلها كذب.. يقولها رجال كذابون كورق القوبيا.. مقابل نساء نادرات من أول الشهر حتى نهايته.. تسمع شيئا ً وتـُفكر بشيء آخر لحين انتهاء الخيط الأزرق من تثبيت الأزرار البيضاء على الثوب الأسود..).فقد قدمت الساردة مشهدا ً غزيرا ً بالمعلومات, لكنه مثير للسؤال في من تكون هذه المرأة يا ترى. ولكي تـُبقي الكاتبة نمطها أو نسقها السردي على أكثر دقة تذكر (ملهى ليالي الصفا الذي جاور مدرستها الثانوية, كانت مكانا ً للتخيّل والتسكع, تجلس في الصف الأخير وتخرج قبل النهاية, وتقطع الخيط الأزرق بنابها المتبقي فوق ناب سفلي.. فتذكرها رائحة الورد بليالي الصفا، تذكرها بسليمة باشا تـُغني (يا نبعة الريحان حنـّي على الولهان.. فأين ذهبت يا لولو..؟) إذ من الملاحظ أن العبارات مختزلة حد الانقطاع, لكن تواشج النسق ربط المعنى بالتاريخ, مما كشف البنية الحياتيةــ التاريخية ــ والذاتية للشخصية. غير أن الساردة حاولت أن تـُحكم المشهد بعبارة دالة على تردي الزمن والوجود الحالي في حياتها بعبارات مثل: (الجرس عاطل والهاتف لا يرن.. ترن ترن ترن.. ولا أحد يرد.. ترررن ترن ثم ترد على نفسها ــ منو. ــ آني ). هذه العبارة مكتنزة بالتراجيديا المرّة, لأنها تكشف عن الوحدة والانقطاع التي تعاني منها العجوز. وقد درستها القاصة بدقة استدراج مكين وذكي. لقد قدمت لنا القاصة أنموذجا ً محتشد بمفردات الذاكرة, التي لا تبوح بتفاصيلها سوى تلك الإيماءات والإشارات التي تحكي تاريخا ً طويلا ً عن الشخصية التي آل بها العمر إلى المقام الانفرادي, تتصور كل شيء ولا ترى أي شيء, تسمع الأصوات ولا ترى مُطلقها, حتى يصل بها الحدس إلى كونها تمارس حياتها مع الآخرين ليس على وهم, بل على يقين كما يصنع لها تصورها هذا. هذه التصورات تقودها كما منحتها الساردة لها من خلال التكرار الجميل كلقائها بالآخرين الذين تـُحبهم في الماضي, وما كانت تمارسه من أفعال من باب الحرية الشخصية, والتلقائية التي تعكس عدم تلقائية أفعال الواقع الذي هي فيه. هذه الرؤى تكشف عن متوالية سردية تمارسها العجوز, لكي تبقى أسيرة الوحدة في هذا العالم الموحش والمربك للحياة. إن القاصة لم تذكر عبارة واحد بحق تحولات الواقع مثلا ً كما فعلت في روايتها (حلم ورديّ فاتح اللون) بل أبقت العبارة ما يُشير إلى الظواهر حتى تصل بالشخصية إلى حشد التصورات المرتبطة بجرس البيت العاطل وشادي وفادي الذين تنادي عليهما, وغياب الفلاح الذي ترك عشب الحديقة يزحف على كل شيء. وتلخص الساردة كل المشهد الذي سيدوم طويلا ً مع العجوز ما بعد النص, لأنه تسجيل عن مجموعة مشاهد وتأجيل للأخرى, إذ تذكر في نهاية المطاف, بعد رحلة مضنية في كل ما يُحيط بالعجوز: ( في نهاية الأمر.. دار شادي وفادي حول العالم, ولم يفز بالفاكهة أحد سوى النمل…. قطعت الخيط بثلاثة أسنان وراحت تعد البلابل التي حطت بالقرب من حبات العنب.. إنها سبعة بلابل تأكل من عشر حبات عنب وفي يدها نصف برتقالة).ولعل هذا جزء من الرؤيا المماثلة لرؤيا السجين مع يوسف النبي في سجون مصر، سوف تنبئ بخير وفير..!!! إشارة قصة ( تجلس في الصف الأخير.. تخرج قبل النهاية ) نُشرت في صحيفة تاتو العدد ( 27 ) في 15 آيار 2011 ، وهي منشورة لاحقاً في مجموعتها أقصى الحديقة. |