24-11-2010
قراءة في قصة: ليل ونهار وسرير واحد لميسلون هادي
بلاغة العين المزدوجة:رؤيا الداخل والخارج معاً
إسماعيل غزالي. كاتب من المغرب
قصة ليل ونهار وسرير واحد، للقاصة الرفيعة ميسلون هادي، تحدث في غرفة. علي نافذة غرفة بالأحري. حيث النافذة هنا عين علي الداخل والخارج معا. فالمشهد الداخلي الأول يفصح عن:
أختان وافدتان علي بيت الطالبات، تفتح لهما امرأة سوداء غرفة بسرير واحد ليقضيا الليلة، بانتظار أن تنقلهما في الغد إلي غرفة ذات سريرين. الأخت الكبري تختار الوقوف علي حاشية النافذة وتتيح لأختها الصغري النوم في السرير الذي لايتسع لاثنين. بذريعة أنها نامت علي طول الطريق في الحافلة التي أقلتهما وهذا يعني أنه سفر وليس مجرد تنقل داخل المكان نفسه.
نافذة الغرفة الخاصة ببيت الطالبات تطل علي مشهد خارجي يكشف عن بناية هي مدرسة. المشهد موسوم بالوحشة:
” كانت موحشة والمساء قد هبط “. ” بدد ظلمة الساحة ولكنه لم يبدد وحشة المدرسة “
هذا المشهد الأولي الخارجي الذي يبدأ من الثامنة مساء. مؤثث بشخصيتين مركزيتين هما:
ــ الحارس المسن الذي يسند ظهره إلي جدار المدرسة موقدا مصباح زجاجته.
ـ طائر صغير ذيله مشطور كمقص وهذا ما يحيل علي أنه سنونو. كان قد ارتفع في الفضاء قبل رجوعه الي عشه.
بعد هذا المشهد الخارجي، تأخذنا القصة إلي مشهد داخلي ثان. ليس داخل الغرفة كما سبق في المشهد الداخلي الأول، بل هو داخل الشخصية، الأخت الكبري التي أضاعت أثر الحارس، لأن ذاكرتها قامت بحركة استرجاعية وهي تستعيد لحظة حلمها برجل يقود حافلة في ظلام دامس، هذا الذي كان ينظر اليها بين الحين والاخر علي طول الطريق لسفرها إلي هنا أي بيت الطالبات.
وهذا ما يستدعي سؤالا أكيدا بصدد هذه الازدواجية:
هل يكون الرجل سائق الحافلة الذي حلمت به هو نفسه الرجل الذي كان يسوق الحافلة التي أتت بها وأختها إلي بيت الطالبات ؟ أم يكون سائقا آخر غير سائق هذه الحافلة ؟ وعمليا تكون حافلة الحلم غير تلك الحافلة التي أقلتها…
بظهور الحارس من جديد مع آذان العشاء في المشهد الخارجي وهو يقصد وجهة المسجد تنصرف الأخت الكبري لداخل الغرفة، وتلتفت للطعام أولا ثم تغطي أختها الصغري الغارقة في نوم عميق.
يتواصل المشهد الخارجي بظهور الحارس مجددا قريبا من موقده الصغير وهو يتناول وجبة عشاء، وهو يشرب شايا ويدخن أيضا، ثم وهو يمسح وجهه بمنديل مستلقيا علي سجادة.
يستغرق الزمن الفاصل بين المشهد الخارجي هذا وما سيأتي ثلاث ساعات. إذ سينتفض الحارس من نومه مجهشا بالبكاء وهو ما سيلفت انتباه الأخت الكبري مرة أخري فتمد رأسها من النافذة لتشاهده يبكي بصوت عال ووجهه مدثر بمنديله، تزامن هذا واذان الفجر الذي سيقطع عليه نوبة البكاء لينصرف إلي الوضوء ويقصد وجهة المسجد.
عندها تغفو الأخت الكبري. وتستغرق في نوم طويل توقظها من غيابته الأخت الصغري ليتناولا وجبة الفطور ويتبادلان المواقع.
الأخت الكبري تنام مكان أختها في السرير والأخت الصغري تأخذ مكانها علي حاشية النافذة.
عكس المشهد الخارجي الذي استغرقت فصوله في زمن الليل مع الأخت الكبري، يتحول إلي النقيض أي مع زمن النهار وهذه المرة مع الأخت الصغري.
المشهد النهاري الأول الذي تلتقطه عين الأخت الصغري مؤثث بأكثر من شخصية مركزية:
ــ طلاب يصخبون قبل أن يصطفوا ليؤدوا أناشيد حماسية ذات مضمون وطني وتربوي..
ــ رجل مربوع القامة كان يلقي تلك الاناشيد، يبدو من توصيف الساردة أنه مدير المؤسسة .
ــ رجل عكس مواصفات الأول، نحيف وطويل يتلو أسماء الطلاب في لائحة ليسجل قائمة الحاضرين والغائبين ويبدون من توصيف الساردة أنه معلم بالمؤسسة.
ــ طائر السنونو الذي يحلق ذهابا ومجيئا بين عشه وشجرة عزلاء في باحة المدرسة.
لم يكن غائبا عن المشهد الليلي المألوف في المشهد النهاري الجديد إلا حارس المدرسة الذي اختفي.
يستغرق الزمن الفاصل بين هذا المشهد المرسوم بعين الأخت الصغري والمشهد الاتي ثلاث ساعات. إذ ستستيقظ الأخت الكبري مع ضجيج الطلاب المتدافعين حول حوض الماء في خروجهم أيضا من باب المدرسة.
في المشهد الداخلي الموالي الأخت الكبري ترتب السرير وفي الوقت ذاته يعود الحارس إلي المشهد الخارجي الموالي ويبدو راجعا من المسجد حيث أدي صلاة الظهر.
تزامن هذا ولحظة غذاء الأختين حيث ترجع المرأة السوداء التي أغلقت عليهما الباب في مفتتح القصة، لتفتحه في نهاية القصة.
النهاية التي تختتمها القصة بحوار بين الأختين وهما علي أهبة الإمتثال لنداء المرأة السوداء وهي تطرق باب الغرفة.
في الحوار تخبر الأخت الكبري الصغري عن الحارس الذي شاهدته يبكي وتسأل الصغري عن حقيقة بكائه وعن كيفية معرفتها بأنه يبكي حقا. فتؤكد لها ذلك عبر سماعها لبكائه بصوت عال.
تكتفي الأخت الكبري بذكر الحارس وحالة بكائه من كل رؤية المشهد الليلي فيما تخبر الأخت الصغري الكبري برؤيتها للطلاب ومدير المدرسة وصغير السنونو الذي يطير أول مرة. فتسأل الأخت الكبري الصغري عن كيفية معرفتها بأنه يطير أول مرة، وتؤكد لها الصغري بأنه كان يحلق مع أمه من العش الي الشجرة حيث بدا خائفا ومترددا.
تمهر القصة تجربة محكيها بمشهد مزدوج أخير وهو خارجي وادخلي:
ــ المشهد الخارجي الأخير بعين الأختين معا هذه المرة علي النافذة وهما يشيعان بنظرتهما الحارس الجالس قرب حوض الماء وصغير السنونو المتطاير جهة الشجرة.
ــ المشهد الداخلي الأخير وهو مزدوج بدوره، أي في داخل الغرفة حيث نهضت الأختان للمغادرة وداخل الغرفة دائما تنصرف القصة إلي داخل الشخصيتين معا، حيث الأخت الكبري تفكر بالرجل المسن الذي كان يبكي مع الفجر والأخت الصغري تفكر بصغير السنونو الذي تطاير لأول مرة في حياته.
كان هذا جردا مكثفا لمجمل الكتابة المشهدية التي سلكتها القاصة البديعة ميسلون هادي في نصها القصصي، كملمح خاص أو طريقة خاصة سبق أن جربت وجوها مماثلة لها أو قريبة منها بالأحري في إحدي قصصها ضمن مجموعة: (رومانس).
فالاشتغال التقني بارز في خلفية كتابة النص، مما يجعل القصة محبوكة بدقة، تنحو فيها اللغة منحي توصيفيا مركزا، لاتنحرف فيه الصور إلي ذات المؤلفة بل جاءت حريصة علي نقل التفاصيل بكل أمانة سردية تنتصر لروح القص دونما انفلات ودون الافراط في قول الاشياء بمعني أنها لم تخرج عن طور تكثيف الإحداثيات التي تعني جوهر قصتها والقصة لاغير. وتحاشت تماما السقوط في فخ الزائد واللاطائل منه كلاما ووصفا وشكلا.
يمكن القول أن تقنية العين إلي الداخل والخارج هنا التي اعتمدتها القصة والتي تجسدها النافذة هي نفسها عين سنيمائية، حيث أن الكتابة المشهدية الملمع إلي ذكرها أعلاه تكاد تكون سيناريوها وهو الشيء الذي يجعلها مادة بصرية منذورة لفيلم قصير.
في هذه الكتابة البصرية لابد أن نشير الي عمل عين الكاميرا المزدوج:
فكلما كان المشهد خارجيا كانت الرؤية اليه بانورامية / فوق تحت.
وكلما كان المشهد داخليا كانت الرؤية اليه أفقية / فوق فوق.
بالاضافة الي المشهد الداخل داخلي وهو استبطاني يخص جوانية الشخصية مع فعل كل تذكر. وهو فعل تم في لحظتين، مع استرجاع الأخت الكبري لحلمها داخل الحافلة ومع نهاية القصة بتفكير الاختين معا، الأولي في الحارس والثانية في السنونو الصغير.
لاتقتصر بلاغة العين هذه علي تقنية الرؤية المزدوجة إلي الداخل والخارج. بل تمتد وتشيع في كل فضاء القصة، شخوصا ومتنا وأحداثا وتأويلا.
فاللافت أيضا في القصة هو استنادها الي سلسلة من التناقضات التي تدخل في بلاغة هذه الازدواجيات دائما ومنها علي سبيل التأويل :
ــ الأخت الكبري يمكن أن يكون معادلها الموضوعي السنونو الأم
الأخت الصغري يمكن أن يكون معادلها الموضوعي السنونو الصغير
وبالتالي تحقق هذه الفرضية:
السنونو الأم التي تعلم السنونو الصغير الطيران أول مرة
الأخت الكبري التي تأتي مع الصغري لبيت الطالبات.
ــ الأخت الكبري التي استرجعت حلم سائق الحافلة، هذا الذي كان ينظر اليها علي طول مسافة السفر.
ثم اهتمامها وتفكيرها في الحارس المسن الذي يبدو وحيدا هذا الذي أجهش بالبكاء مع الفجر.
يمكن فهم هذه الازواجية أيضا في أن الأخت الكبري تفكر في مصيرها خشية مداهمة زمن العنوسة، فسائق الحافلة يحيل علي شيء وان كان بعيدا لكنه قائم هو تفكيرها في زوج، واهتمامها المتعاطف بالحارس يمكن أن يحيل علي شيء ثان وان كان بعيدا أيضا لكنه قائم بقوة هو خوفها من شبح العنوسة، في أن تعيش وحيدة مثل الحارس الأعزل الموحش.
ــ الأخت الكبري دائما ارتبط حضورها القوي بمشهد الليل الذي سردت تفاصيله عبر عينها. المشهد الموسوم بالوحشة. فمن الممكن قراءة الأمر علي أن الأخت الكبري تحيل علي زمن قديم مظلم.
ويدعم هذا الاحتمال نهاية القصة حيث بقيت الأخت الكبري تفكر في حارس المدرسة المسن الذي كان يبكي وهذا يعني ارتباطها بشيء ماضوي يجسده الحارس العجوز.
هذا لأن حضور البنت الصغري كان قويا مع مشهد النهار، حيث سردت تفاصيله عبر عينها أيضا وعمليا يمكن قراءة الأمر علي أن الأخت الصغري تحيل علي زمن جديد مضيء.
ويدعم هذا الاحتمال نهاية القصة حيث بقيت الأخت الصغري تفكر في السنونو الصغير وهذا يعني استشرافها لأفق الغد.
ميسلون هادي تثبت عبر هذه القصة الفذة أنها تعي درس مكر القصة القصيرة جيدا، لذلك جاء تقويضها الوظيفي للاحداثيات في فضاء النص وزمنه معا. فالقصة تدشن مشارف متنها السردي بحضور المرأة السوداء وبحضورها الثاني تدشن مشارف نهايتها . والقصة أيضا تحدث بين لحظتين زمنيتين هما لحظة الثامنة مساء ولحظة الغذاء نهار اليوم الموالي.
ثم هناك مفصل زمني يستغرق ثلاث ساعات في قسم سيناريو الليل وأيضا في قسم سيناريو النهار. اذ بعد هذه الثلاث ساعات ينتهي قسم سيناريو الليل ــ الذي تم عبر عين الأخت الكبري ــ بمشهد الفجر الأخير. وكذلك في قسم سيناريو النهار ــ الذي تم عبر عين الأخت الصغري ــ وينتهي بعد الثلاث ساعات بمشهد الظهر الأخير.
بقصة ليل ونهار وسرير واحد، تعزز الكتابة ميسلون هادي رصيدها القصصي المفرد، وتواصل الحفر بألق ضفتها الخاصة في صمت دونما حاجة إلي زعيق، فهي تيمم برنين اسمها شطر الهامش في علم الأصوات المصطخب لفن الكتابة السردية العراقية والعربية معا، بعيدا عن فخ النسوانية الفجة وتقليعة الفضح الرخيصة وخارج نمط البكائيات من سطوة الرجل وأسطرة الأنثي وأيضا خارج خطاب الضحية وردود الأفعال الضيقة وغير معنية بمؤسسات السترينغ الثقافي وصناعة الشهرة الوضيعة لأشباه كتاب وكاتبات يضج المشهد اليومي بمساحيقهم أو يكاد يتورم من عضلاتهم الأدبية المنفوخة بالسيليكون.
ولا غرابة أن يكون طرازها محسوبا علي أقلية تحترف الأدب في صمت مدو وتمارسه في عز هامشيته كفعل أنطولوجي دون التملق لسدنة النقد الجاهز واستجداء العطف من الاعلام الانتهازي المتكالب، منتصرة لقيمة النص الأدبية، والأدبية لاغير.