جريدة الاسبوع الادبي العدد 908 تاريخ 22/5/2004 |
الكرنفال العراقي كما كتبته روايتا فاضل العزاوي وميسلون هادي ـــ نبيل سليمان ربما كان أمس العراق ويومه المثال الأكبر والقاطع على صحة القول بأن الواقع أغنى وأغرب من الخيال. ولقد كان الشعر بخاصة، ولم يزل، التعبير الفني الأشمل والأفضل عن الواقع العراقي، بينما كان ولم يزل نصيب الرواية من ذلك محدوداً، وبخاصة إذا ما قيس إلى النشاط الروائي المتدفق والمتميز في أغلب البلدان العربية. بيد أنه كان دوماً لذلك النصيب المحدود من يتفرد به، كما تدلل روايات جمّة لغائب طعمة فرمان ومهدي عيسى الصقر ولطيفة الدليمي وفؤاد التكرلي وعبد الرحمن الربيعي وعبد الستار ناصر.. ومن بين ذلك اخترنا لهذه الدراسة روايتين جديدتين لميسلون هادي (العيون السود(1) وفاضل العزاوي (الأسلاف)(2)، لما تقدمان من نظر التجربة الروائية الحداثية في عراق الأمس البعيد (التاريخ) والقريب (حربا الخليج الأولى والثانية ـ والحصار)، وهو النظر الذي يندغم نداء الفن والواقع لعراق اليوم والغد، كما سنرى. 1 ـ ميسلون هادي: العيون السود: “هل أنا روح أم جسد؟ حي أم ميت؟ غائب أم حاضر؟” إنه سؤال الشاب (مثنى) الذي تقدمه ميسلون هادي في روايتها (العيون السود)، وقد ورث من حرب الخليج الأولى شظية في الرأس، وعاد من حرب الخليج الثانية مشياً من الكويت، وتحول بفضل الحصار على العراق من المثقف إلى ابن السوق. على شفا ضربة ـ حرب جديدة يأتي سؤال مثنى ليمامه عن البقاء في بغداد. ومثل السؤال، ستأتي الساردة بالجواب الذي تردد أعواماً: “لم يعد أحد يسأل مثل هذا السؤال أو يبالي به.. أحدثت الضربة أم لم تحدث.. استعملوا فيها أسلحة محللة أم أسلحة محرمة.. قصفوا من السماء أم من الأرض أم من البحر.. فزع الناس من ذلك مرة واحدة في عام الفيل فحقنتهم تلك الضربة بمصل ثلاثي مضاد للخوف والمبالاة والأمل.. ولم يعودوا بعدها يبالون بشيء أو يخافون من شيء أو يعقدون الأمل على شيء”. من ذلك الأمس يطلع المفتشون الدوليون في الرواية، كما في الواقع، وهم يضعون أيديهم على الوثائق الموجودة في أدراج الجامعات ومعامل الحليب وحقول الدواجن، مدججين باللاقطات والمراسلات والمسبارات، ومن دير الزعفرانية إلى أي مكان لا يوفرون مكتباً ولا سلة مهملات، والتلفزيون يعرضهم وقد “نثروا الأوراق وراحوا يدققون النظر فيها ويصوبون أجهزتهم الدقيقة المحمولة فوق صدورهم نحو الجدران والسقوف والأراضي الجرداء. قال طارق عزيز: إننا إذا تركناهم يفتشون إلى ما لا نهاية، فسينتهي الأمر بهم إلى تفتيش جيوبنا أيضاً”. هكذا تنطلق من الرواية سخرية الشرطي المتقاعد كاظم البغدادي “خلصنا من إكيوس إجانا بتلر”، وينطلق سؤاله للمياء “شنو القصة مجلس الأمن فاكّ حلكَه ويتفرج؟ شنو أمريكا صايره إله مال العالم”، فتعلل يمامه الأمر بلعنة النفط، لكن كاظم البغدادي يصدعها: “عمي ما تكَو ليلي إحنا شقابضين من النفط؟”. ويمامه نفسها ـ الفنانة التشكيلية والمعلمة المستقيلة ـ تستعيد من أيام القصف الأربعين في حرب الخليج الثانية حلماً ـ كابوساً يشظيها في صديقة ستتراءى تبحث عمن يدفن جنينها الذي أسقطته الحرب، وتدفع إلى يمامه الذاهبة إلى ساحة الاحتفالات كي توقف الحرب، فتحمل يمامه الجنين وقد غدت أمه، وتسميه باسم حبيبها الذي هاجر إلى أمريكا (حازم)، فيما القصف قد أحال الحياة إلى “شيء بدائي بكر”. ولئن كانت الحرب قد غيرت ما غيرت من عاشق يمامة الجديد (متنن) فهي أيضاً قد غيرت ما غيرت من عاشقها القديم (حسن الخطاط) الذي رفضت الزواج منه، لأنها ألفته منذ طفولتها حتى أكاديمية الفنون، فتزوج، وإن ظل على عشقه لها، وبات يخجل من زمن صعلكته وغرابة تطلعاته، وها هو يخاطبها: “أنا لا زلت أبذل مجهوداً كبيراً وخارقاً كي لا تضيع مني بطاقتي التموينية أو بطاقة السكن أو بطاقة الأحوال المدنية.. لكي أجعل كل شيء يسير بنظام كان عليّ أن أقوم بجهد جبار لا طاقة لي به”. إنه زمن الحرب المترامي عقداً فعقداً. وإنها الحرب المتكثّرة، ومنها حرب الحصار التي تجعل بائع السجائر يسأل عما إن كان كوفي عنان عراقياً، وتطلق صفارة الإنذار الوهمية بين مرة حقيقية ومرة حقيقية، وهم “يلمعونها ويخافون عليها عدم الاستعمال”. وحرب الحصار هي التي جعلت من الهاتف، ومن انقطاع الكهرباء وتقنينها، ومن الشموع والفوانيس لازمة عيش ولازمة روائية، وهي التي ترسم طوابير الناس والسيارات من أجل النفط والغاز، وهي التي تطلق سخرية كاظم البغدادي في لازمة أخرى: “هيّة هي اشتراكية؟”، وتكوم أكياس الطحين في دكان تحسين، بفضل بطاقات التموين الوهمية والنقص غير المحسوس في كل حصة يطفف فيها بالميزان. لقد بات الزمن في حرب الحصار زمن الورق ـ كما بات اسم الدولار ـ والتوريق. إنه زمن (السوك ـ السوق) الذي سيمضي فيه مثنى بيمامه إلى بورصة العملات الأجنبية في الشوارع التي تبدل أسماءها، وحيث يحمل الرجال أكياس العمامة السوداء التي ملئت بأكداس الدنانير العراقية، وحيث تفيض التلفزيونات بصور العراقيين وهم يفترشون القصور الرئاسية لحمايتها من الضربة الأمريكية، فتقول يمامة: هل هذا يوم الحساب؟ أوراق مخضرة ووجوه مصفرة وعيون محمرة.. وأقوام تترى وقلوب تهوى وأفواه تتلوى”. وفي هذا الزمن أيضاَ يعود جمال من أسره في الحرب العراقية الإيرانية، بعد خمسة عشر عاماً من انتظار جبان له، فتراه كهلاً أبيض الشعر والشاربين ومجعد الوجه، يحاول استعادة قامته المنحنية. وعلى الرغم من صبرها وعشقها، يبدو جمال لجنان رجلاً آخر غير الذي عرفته وانتظرته، فتسرّ ليمامه: “إنه هرم غريب وكأني أخجل منه”. قد تبدو رواية (العيون السود) بعد ذلك رواية حرب، لكنها أيضاً رواية (زقاق)، وبالأحرى: رواية زقاق في زمن الحرب. وامتيازها هنا هو مفارقتها لما راج في رواية الحرب العراقية أو العربية بعامة من فجاجة الخطاب، ليكون وكدها في دقائق العيش والنفس والجسد والمكان، وذلك الحس الإنساني الرهيف والنظر النقدي الساخر. ومن ناحية أخرى، تعيد (العيون السود) ما عرفته الرواية العربية من تقاسيم (الزقاق) منذ نجيب محفوظ. ففي زقاقها البغدادي يقوم بيت العنوسة الذي يؤوي يمامة وخالتها، حيث تبدأ الرواية بفصل (تابوت باربي)، ونتعرف على الخالة المهووسة بالنظافة، والتي تلقي بالأشياء في توابت كرتونية ويتوجها باكيت كبير عليه صورة باربي. وإذا كانت يمامة قد أزمنت صور ذويها الأحياء والأموات، على جدران غرفة المعيشة، فقد أخذت الصورة تختفي، وآخرها صورة الشقيق الأصغر الذي استشهد، فالخالة رفعت الصور كفراشة دخلت إلى شرنقتها وأغلقت الباب، بينما بدت يمامة فراشة فردت جناحيها وراحت تحوم حول المصباح الساخن، ومن يومياتها، وبعينيها، ستقدم الرواية الزقاق وبيوته وبشره وصلته بالخارج البغدادي والكوني. وسيجلو ذلك عن خبرة الكتابة وولعها بالتفاصيل، ومن ذلك ما سيدلل بالأنثوي حين يعدد مفردات الطعام، ويشبه وجه مثنى المتورد بكيكة خرجت لتوها من الفرن، أو حين يعدد مفردات العطارة، ويشبه ملقط الشعر الوحيد الموضوع على سطح منضدة، هي مثل أرض يبابن وهو مثل بقايا حيوان افترسته الجوارح منذ وقت طويل، وكذلك حين تصف يمامه نزع أم شكري للشعر بالخيط من على وجه هنوة التي سيكون لبيتها هو الآخر حضوره الحاكم في الزقاق. فها هنا ليمامة ـ الشخصية المحورية ـ ذكريات منذ الطفولة مع هنوة زوجة تحسين التي لم تنجب. وستحضر ابنتها من زوجها السابق (حياة) بعد موتها، لتخضّ الزقاق كما سيلي بعد اختفائها وتحولها على الألسنة من (حياة) إلى حيوات مثقلة بلغز قتل تحسين لها وبلغز كفها المقطوعة المشلوحة في الخرابة، لكأن اللغز “شيء مؤجل يحبب التفكير به طوال العمر مثل أي شيء يحبب أن يبقى ناقصاً ما دمنا لم نبذل الجهد اللازم للوصول إلى تمامه”. وفي الزقاق أيضاً البيت المهجور الملاصق لبيت لمياء، والذي سيؤجره مثنى وذووه، لتقوم بينه وبين يمامة العلاقة الملتبسة بحكاياته الملتبسة حول رضاعته من ثلاثين امرأة واحتمال تآخيه مع يمامة، طهيه لها الحساء بالكف المقطوعة، وحول صلته بحياة وسواها، وحول صنعه وذويه للتوابيت… وصولاً إلى الخطوبة التي ستفصمها يمامة، لترسم في خاتمة الرواية لوحة (أعواد البخور) كما كان في بداية الرواية مع لوحة (روزنامة الأحلام) التي ستعنون الفصل الثاني. وإذا كانت هذه اللوحة ترسم عبد الكريم قسم بين عبد الحليم حافظ وعبد السلام النابلسي، فاللوحة الأخيرة سترسم بشر الزقاق ـ بشر العراق متشابهين مثل أعواد البخور، ولا يظهر منهم بملامحه الحقيقية سوى جمال العائد من الأسر وحازم المهاجر. وها هي يمامة تحدث نفسها عن اللوحة “أبطالها الواقفون لا يهمون أحداً سوى أنفسهم. وعندما ينظر إليهم بعد عشرات السنين أحد ما سيرى فقط عيونهم السود وهي ترنو مسحورة إلى عزيز عائد من الحرب.. هذا هو الحدث الذي تحدث به اللوحة رائيها.. فإذا ما سمع الرائي وهو ينظر إلى اللوحة أصوات أهل الزقاق تهمهم في أذنيه وكأنها قادمة من كون بعيد.. يكون ما رآه قد انسجم مع ما يسمعه.. وتطابقت الذبذبتان.. واكتملت اللوحة”. فهل الرواية إذن هي اللوحة؟ 2 ـ فاضل العزاوي: الأسلاف: هذه رواية كتبها الشيطان، لا لأنها أعجزت عادل سليم الأمير، بل لأن أحداً سوى الشيطان لا يمكنه أن يكتبها. إنها: “مسرحية ملعونة عن بلد حكم عليه القدر باللعنة” كما يحدثنا الناشر في تقديمه للرواية التي أرسلها إليه صديقه عادل إبان عودته من منفاهما الألماني إلى العراق. وفي هذه المقدمة ـ اللعبة التي تذكّر بمثيلتها في رواية إبراهيم سعدي (بوح الرجل القادم من الظلام) يتبدى الفوهرر للناشر وهو في طريقه إلى التاريخ، على الرغم من أن كثيرين ما كانوا يرون فيه سوى مهرج آخر ممن يمتلئ بهم قدر الشعوب. كما يرمي الناشر بإشارته إلى حكمة بسمارك: “كل الدولة في مكان واحد”. وفيما يستعيد ذكرياته البغدادية والألمانية مع عادل سليم الأمير، يثبت قصة كان الأخير قد كتبها كما رواها له الشيطان وفتاة الملاك (دليلة)، يبلغ فيها الملاك السماوي عويلٌ مدمّر من العراق، حيث انتهز الشيطان فرصة غياب الملائكة عن هذا البلد، فكتب تاريخه على هواه. لكن الملاك السماوي يأمر الشيطان برفع عقوبة اللعنة عن العراق وبالعودة مع دليلة، ليعيدا كتابة التاريخ. من هذه النهاية للقصة، تبدأ رواية (الأسلاف)(1)، حيث بنى آدم وحواء قريتهما الأولى بعد طردهما من الجنة، وحيث سيأتي من بعيد الشاعر كركوك، حاملاً الناي التي ستنيم الناس في عيد الشمس. وحين يصحون على اختفاء الشاعر يسمون القرية باسمه: كركوك. وثمة، تترجع قصة الشاعر الآخر ياسين والجنية التي قتله حبها، وسيعشقها المراهق عادل سليم الأمير، ويلتقي في بيتها بأخوات القدر الثلاث اللواتي يسلمنه كتاب حياته، لكن (فتاة الملاك) التي جاءت لتدله على الطريق، تحذره من كتاب الشمطاوات. وهكذا سيغادر عادل كركوك إلى بغداد ليتابع دراسة الأدب في الجامعة، برفقة الشيوخ الأربعة الذين كان قد عثر عليهم في مغائر جبال شوان الكردية، كما سيصادف في رحلته فتاة الملاك التي سبق أن أقامت معرضاً فنياً في كركوك، و(الأستاذ) الذي سبق أن قدم مع الفتاة مسرحية (هبط الملاك في كركوك). أما الأستاذ فسيكتشف عن الشيطان الذي سيتقمص الساحر، ويقود عادل في بغداد إلى مغارته، ليعتزل أربعين يوماً، بعدما أعجزته الكفالة عن الجامعة، والتقى صديقه الكركوكي أحمد سيارة الذي حولته بغداد من مياكنيكي إلى ثوري. وسيظهر الشيطان لعادل من جديد بشخص صاحب غاليري يوتوبيا للفن الحديث، ليوالي رسم حياته مع دليلة: فتاة الملاك. وتتوالى الحكايات منادية السردية التراثية، وبما يقيم الكرنفال العراقي بالتأرخة والتخييل، بالسخرية والفانتازيا، بالتقديس والتدنيس، وأولاً وأخيرا: بالديكتاتوريات والحروب. فإلى ما تقدم، يرسم الجزء الأول من رواية فاضل العزاوي (الأسلاف) حواري بغداد وأسواقها ومقاهيها وفنادقها، وبخاصة: تبدلاتها، إلى ما ستدعوه المعارضة بإشغال الحكومة للناس، ومنه ظهور الأعرابي العجوز صاحب الحمار، ورميه في مقهى (مجيد) بكتابه (عابر الوادي لمؤلفه صاحب الأمثال)، فهذا الكتاب سيقرأ نفسه بنفسه، وستقوم (جماعة الزائر الكوني) وتوزع كتاب رائد الفضاء (إرمياء) القادم من سديم مجرة، وهو الكتاب الذي سينشره صحافي مولع بالآثار، على نفقته، مدعياً أنه أحد كتب العهد القديم المفقودة في قرية الكفل (هل يذكر أحد في حمأة العدوان الأمريكي البريطاني على العراق السعي الإسرائيلي لسرقة آثار قرية الكفل وما يُزعم أنه النسخة الأولى من التوراة؟). من تبدلات بغداد يلي أيضاً انتشار الحمى الرياضية بوصول المصارع الأمريكي ذي الأصل العراقي، والذي سيفجر في الرجال جنون القوة، وفي النساء جنون الحب. كذلك هو اختراع أحدهم لطائرة خشبية، ورحيل العاهرات إلى ضفة النهر، ومظاهرتهن ضد إمام مسجد الحيدرخان… وصولاً إلى نزول (قافلة الأحلام) في بغداد، تقودها دليلة ومساعدها الأستاذ/ الشيطان، حيث ييسّر مدير الشرطة أحمد الوائلي للقافلة ـ وهي فرع من جمعية يوتوبيا العالمية للمستقبل السعيد ـ تقديم مسرحيتها التي تجلو وجهاً آخر للشيطان، كما سبق أن جلا التراث السردي (أحكام المرجان والمقامة الإبليسية للهمذاني ـ رسالة الشياطين للمعري ـ لقط المرجان للسيوطي ـ ألف ليلة وليلة). وبالمسرحية/ المهرجان سوف يبدأ تاريخ بغداد الحقيقي، كما تقول دليلة. وأثناء المهرجان سيعم بغداد السلام والإخاء ثم تقوم (الجبهة اليوتوبية المتحدة) وتزور دليلة عاشقها عادل، وتتصدى الحكومة لليوتوبيين الذين تتواصل مظاهراتهم حتى يعزل الرئيس العجوز وتنتهي الديكتاتورية وتقوم (الجمهورية العراقية اليوتوبية الديمقراطية الشعبية) ويفوز بالرئاسة الشاب حسن السعيد الذي يطلب عادل ليتحرى صلته بالشيوخ الأربعة، وقد تبين أن أولاء ليسوا غير الجنرالات الأربعة الذين حكموا العراق انقلاباً فانقلاباً، وديكتاتوراً فديكتاتوراً. وينتهي الأمر ـ والجزء الأول من الرواية ـ بتكليف عادل بكتابة رواية أولاء الشيوخ، وهي الرواية التي اشتهرت بعنوان (الأموات الأحياء)، وروى فيها عادل قصة أحداث تكاد تكون خيالاً لفرط واقعيتها”. يبدأ الجزء الثاني من رواية (الأسلاف) بهلع عادل من الفكرة الجهنمية: “أن نعيش التاريخ نفسه أكثر من مرة”، وهي الفكرة التي سيقلبها بين فكرة نيتشه: “العود الأبدي للتاريخ، وسخرية كونديرا منها، وفكرة ماركس: عودة التاريخ، ولكن كمهزلة. من رائحة الماضي والموت في البيت الذي آوى الشيوخ الأربعة منذ وصولهم إلى بغداد، سينقلون إلى القصر الأثري الفائر برائحة السلطة الممتزجة بالدم. وهؤلاء الذين يحملون الاسم ذاته، واعتادوا شن الحروب من الضجر، يقال إنهم صور مستنسخة عن الأصل، ولم يقتلوا، بل شُبِّه ذلك للناس، فمن يكون هذا (المربع الذهبي) في تاريخ العراق الحديث؟ ومن تكون (عصابة الأربعة) هذه ـ كما ستسمى الرواية ـ في التاريخ العراقي والعالمي الحديث؟ تعلق المخيلة المحمومة السؤال كما تعلق التاريخ، وهي ترسم إضراب الشيوخ عن الطعام فيما سموه (إضراب الكرامة) حتى يسمح لهم مدير القصر جمال الساحر بأن يخطبوا في الناس. وبإشارة الرئيس الشاب حسن السعيد الذي يملك مكر ثعلب عجوز، يتحول القصر إلى مَعلم آثاري باسم (قصر الذكريات)، وتتلامع الإعلانات عن الاحتفال بذلك: جنرال القمر سابحاً في الفضاء الكوني ـ الجنرال الشاعر يصافح الزهاوي مع عبارة: الرئيس يشعر أيضاً ـ الشيوخ الأربعة معاً مع عبارة: انتظرنا أيها المستقبل، إننا عائدون. وهؤلاء الأربعة هم بالتسلسل الانقلابي: الجنرال القديس، والجنرال الدرويش، والجنرال الفلكي، والجنرال الشاعر. ومنذ ليلة خطبهم على المدينة النائمة انقلب التاريخ إلى مهرجان. وستوقف الرواية جلّ جزئها الثاني على استعادة حيواتهم، وعلى الاحتفال بافتتاح قصر الذكريات، وهرب الشيوخ قبيل الاحتفال إلى بيت الدعارة الذي تديره نهلة مراد منذ العهد الاستعماري، وكانت تغلقه مع كل انقلاب حتى يأمر السيد الجديد بالعمل. ولقد عاد الشيوخ لدى نهلة شباناً فاجأوا جمال الساحر الذي أسرع إلى إعادتهم للاحتفال، فخاطبته نهلة: “في كل تاريخنا لم نفرق بين من يأتي ومن يذهب. كانوا جميعاً يعرفون أنهم سيحتاجوننا ذات يوم (..) لقد خدمنا الوطن دائماً كما ترى بطريقتنا الخاصة”. يعود الشيوخ إلى الحفل برفقة نهلة وفتياتها. وفي الحفل تراقص ملكة الحب (نهلة) الرئيس الشاب حسن السعيد الذي سيقود الوطن من منزولها، بينما ستتهم المعارضة الحكومة، جراء زيارة الناس لقصر الذكريات بالنزوع “الضميري الخفي إلى الديكتاتورية ومحاولة بعثها من القبر”. وسيطالب المثقفون بمحاكمة الأربعة، وسيخرج الأربعة من القصر ـ المتحف ليروا أن “هذا الشعب ليس شعبنا. لقد مات شعبنا منذ زمن طويل”. وينتهي هذا الجزء من الرواية بإعداد الشيوخ للانقلاب على الرئيس حسن السعيد، يعاونهم وزير دفاعه سلمان الفاتح. في بداية الجزء الثالث (زمن أطول من الأبدية) يطلب الشيوخ من عادل أن يطلعهم على ما كتب عنهم، وهو لا يزال يبحث عن عقدة لما يكتب، فيشير عليه الجنرال الشاعر أن يبحث عن العقدة في الحاضر، وليس في الماضي. وسرعان ما سيحجز الجنرال القديس الذي تولى الرئاسة الثلاثة الآخرين مع وزير دفاعه في دار العجزة بانقلاب التطهير، ويعين عادل مقدماً في جيش الثورة. لكن وزير الدفاع يفرّ إلى إيران. ويشكل فيها (عسكر خلاصي مستضعفي إسلام)، ويفجر الجنرال القديس الحرب مع إيران كنزهة صغيرة في الطريق إلى تحرير الأراضي المقدسة. ومن هدم قصر الذكريات واعتقال الشيطان/ الأستاذ وطرد عادل من الجيش وتكليفه الإشراف على الشيوخ الثلاثة، يعود الجنرال القديس شاباً، ويخرج من رواية عادل، ويحتل إمارة الحفيظ ـ ها هي الكويت ـ ويعين أميراً عليها والد عادل الذي يجمعه نسبه بأميرها المخلوع. في هذا الجزء من الرواية، تبدو أكبر التصاقاً بحربي الخليج السابقتين. ولأن للرواية زمنها الافتراضي، ومنطقها الخاص “خارج التاريخ وداخله، وفي بلد خيالي هو الآخر اسمه العراق “كما كتب فاضل العزاوي في ص(352)، سنرى أحمد سيارة وصديقه يحاولان اغتيال الديكتاتور، ونرى (اللجنة) الثورية التي يقودها جان رينان تهرّب أحمد والجزائرية جميلة إلى الكونغو للتدرب على حرب العصابات، استعداداً لشنّها في أهوار العراق وأوراس الجزائر. وهكذا تعقد الرواية بين مقاومة ذوي اللحى الجزائريين وبين مقاومة الديكتاتورية في العراق. وسنرى أحمد وقد عاد إلى بغداد يهم بحرب العصابات، لكن رفاقه يتخلون عنه مسلمين أمرهم لله وحده منقذاً لهم من الديكتاتور ـ اللعنة، كما سيتخلى عن أحمد جان رينان الذي انضم إلى الجنرال، وبات تاجر كومبيوتر، لأن الجنرال الذي صار له ـ بعد محاولة اغتياله ـ قلب من البلاتين وفم من الكومبيوتر، تعهد بأن يقدم كل ما تحتاجه حركة رينان العالمية ضد الإمبريالية. وفيما ينادي عراق الأمس واليوم سنرى الوباء الذي تسرب من القنابل الجرثومية التي راح الجنرال وخصومه الدوليون يتبادلان الاتهام برميها، كما سنرى الشبان الذين يشبهون الجنرال في كل شيء، ضمن خطته لاستبدال كل الشعب به، ونرى الجراد الجنرالي يلتهم كل شيء، والدول المخاصمة تطلق الصواريخ على الناس فيجأرون: “ما الذي يريده هؤلاء الغزاة منا؟ إنهم يقتلوننا فيما يتركون الجنرال القديس ونسله ينعمون بالسلام”. وباقتراب النهاية، يكتب الشيطان آخر خطبة له قبل رحيله عن الأرض، ونقرأ العبارة التي ترددت إثر سقوط بغداد في نيسان/ إبريل 2003، “انتهت اللعبة”. غير أن جزءاً رابعاً وصغيراً سيختم الرواية، يعود فيه عادل سليم الأمير مع دليلة إلى لارنكا، ومنها إلى الصحراء الغربية في الطريق إلى العراق مرسلاً تأملاته في الإنسان وفي الزمن. وبينما يتردد نداء الحياة معلنةً عن نفسها ثانية، تؤكد دليلة لعادل أنهما في المستقبل، وعادل مرتعب من شبه المستقبل بالماضي، فهل يكذّب عراق الغد رواية (الأسلاف)، وينتهي حقاً كرنفال الديكتاتوريات والحروب، ليس في العراق وحده؟ أم إن العدوان الأمريكي البريطاني، سيأتي بشيطان أمكر وكرنفال أمرّ، مثلما فعل الاستعمار دوماً، من قديمه إلى جديدةه من الأمس البعيد إلى الأمس القريب، وبالتأرخة كما بالشهادة، قام الكرنفال الروائي في العراق، فيما كتب فاضل العزاوي وميسلون هادي. وإذا الواقع قد أسرع بأغرب وأعقد مما كتبت الروايتان، فلعل اندغام نداء الفن والواقع لعراق اليوم والغد، يتأكد، وينتهي حقاً كرنفال الحروب والديكتاتورية، أم إن العدوان الأمريكي البريطاني سيأتي بكرنفال أمرّ، مثلما فعل الاستعمار دوماً؟. هوامش (1) دار الشروق، ط1، عمّان 2002. (2) دار الجمل، كولونيا (ألمانيا) 2001.