لا تنظر الى الساعة، وقصص أخرى
جريدة الدستور العراقية
2008 /03:59 14 September
هدية حسين
الدخول الى عالم ميسلون هادي القصصي لا يحتاج منا تأشيرة دخول صعبة المنال، فقصصها أقرب الى مجساتنا وهواجسنا من أية عوالم أخرى، فهي لا تفتعل الأحداث ولا تأخذ القارىء الى متاهات يعجز عن الخروج منها ولا تنحو الى الغموض ولا تتعلق بالأوهام..
إنها قصصنا نحن العراقيين وليس سوانا، حروبنا، حصاراتنا، تشتتنا، سلوكنا في الحياة في ظل كل الظروف التي عصفت بنا، علاقاتنا المشوبة بالتوتر، خساراتنا الكبيرة في الحياة، وربحنا القليل- إن وجد- ذكرياتنا أو ما تبقى منها. وميسلون هادي منذ بدأت خطوتها الإبداعية، ما تزال تدهشنا.. منذ(الشخص الثالث) قصص 1983 و(الفراشة) قصص 1986 مروراً ب(أشياء لم تحدث) قصص 1991 و(رجل خلف الباب) قصص 1994 و(العالم ناقصاً واحد) رواية 1996 وحتى( علامة على الجدار)قصص 2006 و(نبوءة فرعون) رواية 2008 ولها أيضاً ثلاث روايات أخرى هي (الحدود البرية)و(العيون السود)و(يواقيت الأرض). المجموعة التي بين أيدينا(لا تنظر الى الساعة) صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد عام 1999 وهي واحدة من مجاميعها المتميزة.. وتتضمن 14 قصة قصيرة تبدأ من القصة التي حملت المجموعة عنوانها( لا تنظر الى الساعة).. وتحكي عن رجل يدعى كمال عاش في المنفى عشرين عاماً، وها هي طائرته تحط مصادفة في مطار بغداد ليكمل رحلته فيما بعد الى دولة أخرى.. الوقت بعد منتصف الليل وأمامه 24 ساعة فقط يمكنه خلالها الذهاب الى بيته ليقف أمام الباب مسترجعاً الذكريات التي عاشها في ذلك البيت.. كان قد قرر عدم الانجرار وراء هذه الرغبة، غير أن الحنين أخذه في الصباح الباكر الى هناك، فوجد نفسه مدفوعاً للمضي الى ذلك الزقاق الذي يضم بيته. البيت مهجور، لكنه يشعر أن الحياة ما تزال تدب في جنباته.. تصاعدت أنفاسه وجلس على دكة البيت فاكتشف أن الزقاق كله خال من البشر على الرغم من أنه يرى البعض يطل برأسه أو يفعل شيئاً ما، ثم فجأة أطل طفل منغولي عرفه في الحال.. إنه مصطفى.. وها هي أمه قد خرجت في إثره.. لكن الغريب أنهما في الأعمار التي كانا عليها يوم سفره.. استغرب الأمر، إذ لابد أن يكون الطفل قد بلغ الثلاثين، والأم أكبر من ذلك بكثير إن لم تكن قد ماتت.. الغريب أيضاً أن المرأة عرفته ودعته الى بيتها، غير أنه اعتذر وأراد أن يطرق بابهم ليرى أبويه العجوزين.. لكن أم مصطفى أفهمته أن لا أحد في البيت، توفي الوالدان واستشهد أخوه جلال ولم يسكن أحد في البيت من بعدهم.
بين إمعان في حلم يقظة وصحوة من ذلك الحلم ، سيعرف أن الابن المنغولي لم يكن مصطفى وإنما طفل آخر اسمه وحيد، أما مصطفى فقد مات كما أخبرته المرأة.. وأخيراً استحكمت منه الرغبة ليضغط على جرس الباب لعلّ أحداً ما يرد عليه..
تنتهي القصة في هذه اللحظة.. اللحظة التي بدت أبدية، حيث المكان يلملم ما بعثره الزمان، ويتوقف الزمن تماماً حيث سطوة الذكريات هي التي تأخذ دور البطولة في هذه القصة الحميمة التي تأخذ نكهتها من حنين العراقي الى بيته مهما طال به المكوث أو بعثره المنفى.. وطبعاً هناك الكثير من التفاصيل آثرنا عدم التطرق إليها لنترك للقارىء متعة قراءتها ومشاركة بطلها في الهواجس التي انتابته لحظة داست أقدامه تراب الزقاق حتى ارتعاشه وهو يضغط على جرس الباب. كتبت ميسلون هادي هذه القصة في العام 1993 ، أيام الحصار، لعله حلم راودها بأن يعود المنفيون ويجمعهم المكان.. اليوم لا يجمعنا المكان ولا يلملم ما تبعثر منا.. بل ربما نموت خارج المكان الذي لم يعد بوسعه حمل ذاكرتنا وذكرياتنا. تجري أحداث قصة(اثنان في مخيلة) في مخيلة كانت ذات يوم ثم توقفت عند تلك اللحظات دون أن يضاف إليها ما يجعلها متواصلة مع اللحظة الراهنة، هي قصة تعتمد على الاسترجاع إذن.. قصة حب منتهية، لكنها تحدث كما لو أنها مستمرة في الزمن الحاضر.
تدخل هند الى ساحة المدرسة المستنصرية دون أن تقطع تذكرة الدخول، فترى حبيبها أدهم ينتظرها كعادته في إحدى الزوايا.. ومن خلال الحوار بينهما سنعرف أن أدهم وحده من يعرف بأن قصتهما انتهت ومضت الى أدراج النسيان، وأن ما يحدث ليس سوى حلم يراود هند التي ما تزال تعيش تلك القصة في عمق الواقع- واقعها المضطرب- وحين صارحا بالأمر استغربت واستعادت حادث السيارة الذي تعرضا له، هي وحدها من نجت منه، لكنها شدت على يديه لتشعر بحقيقة وجوده.. أخبرها أيضاً أن الحلم يوشك على الانتهاء.. وحين انتهى وجدت نفسها في سرير المستشفى.
في قصة( الليل بالباب) كل شيء أضرب عن العمل حين انقطعت الكهرباء (تعطلت القنوات الفضائية، وشحّ الماء في الحنفيات، وتوقفت المراوح عن الدوران، وحلت العتمة في المصابيح وانابيب النيون.. ثم انضم الهاتف الى ذلك الإضراب المفاجىء عن الحرارة فتعطل هو الآخر عن العمل). هذا هو مدخل القصة الذي سيأخذنا الى تفاصيلها بعد ان تعطل كل شيء نتيجة انقطاع الكهرباء.. تكشف لنا ميسلون هادي حالة أسرة عراقية في زمن الحصار، حيث التقنين والادخار أصبحا من أولويات الحياة في تلك الفترة،تقنين الماء والطعام والملبس وكل شيء.. سيؤجل الأب حاجته الى شرب الماء لحين أن يستبد به العطش، والأم تفعل ذلك أيضاً، بل وتؤجل كل رغباتها إذ لات وقت رغبات في مثل هذه الظروف.. وحين تجيء بقليل من الماء لزوجها فيما بعد يكون الماء مجاً بسبب تسرب الدم من اللحوم التي ذابت في الثلاجة المعطلة الى سراحية الماء.
هناك ترقب وتوجس ينطوي تحت الجلود من الحروب القادمة، وخوف من المجهول أو المصير المظلم، يحسه كل فرد وقد لا يبوح به عبّرت عنه ميسلون هادي بانسيابية وشجن.. قلق المرأة يزداد كلما مرت الدقائق، ستلاحظ وهي تدور بين الصالة والغرفة والنافذة أن ثمة شيء سيحدث.. رأت أربعة أقمار صناعية تطوق الجهات الأربع مما جعلها في تلك الليلة تخشى استبدال ثيابها لئلا تكون مرصودة مثلما تفاصيل البلاد.. فاجأ المرأة أيضاً وهي تنظر الى الخارج أمر غريب، هو اختفاء البيوت المحيطة ببيتهم، وفي بيتها لاحظت أن سقف المطبخ أصبح أوطا والجدران تقلصت الى الداخل، وحتى رأس زوجها حين تقدمت إليه حاملة الفانوس صار يشبه الجمجمة، وأن ابنتها الصغيرة أصبحت أكثر نحافة في ظل الضوء، حتى لتبدو شبيهة بدودة القز،هكذا تتحول الأشياء الى صور مخيفة أو مضحكة وتختفي أشياء أخرى بينما الأقمار الصناعية تواصل رصدها وتزحف( مثل ضباع جائعة تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض) هكذا تنتهي القصة، ولم تنته مخاوف شعب أراد الحياة فأرادوا له الموت. وفي قصة(طريق مظلم) ستأخذنا الكاتبة الى ذلك الطريق الذي سلكته الأم للمرة الأولى لكي تختصر المسافة رجوعاً الى بيتها، حيث عادت بعد أن قايضت الطحين بعدد من الأرغفة، وكانت معها ابنتها الصغيرة.. بدا الطريق المظلم أكثر طولاً كلما مضت فيه، وبدت لها في أحد جوانبه بناية كبيرة لها سياج عال وباب حديدي ومن دون أن تحمل أية لافتة تشير الى هويتها.انفلتت الطفلة من بين يدي الأم وراحت الى شجرة نبق قريبة من تلك البناية، لعلها تلتقط بعض الحبات الساقطة على الأرض، ثم لم تعد الأم ترى ابنتها، فقد هبط الظلام، ولم تسمع جواباً لنداءاتها… لم تسمع سوى إطلاق ناري في الجوار حيث ذهبت البنت.. وسنعرف من سير القصة أن البناية هي إحدى دوائر الأمن أو المخابرات، دون أن تشير ميسلون هادي الى ذلك، وسنهجس أيضاً بأن الطفلة ماتت بإطلاق النار عليها من حراس البناية.. ولعل هذا هو أحد الأسباب في نجاح هذه القصة، أو القصص عموماً عند ميسلون هادي، فهي لاتستهين بذكاء القارىء، لذلك تعطيه بعض الإشارات مثل نقاط ضوء ليهتدي إليها ويتتبع خيوط إبداعها التي تنسجها ببراعة ودهشة.
تشير ميسلون هادي الى بطلها في قصة(تمام) وعلى لسان الراوي في الصفحة42 بأنه( بطل هذه القصة وإليه فقط سنشير بكلمة الرجل ودون توصيف آخر خلافاً لشخصيات القصة الأخرى من الرجال والنساء) في حين أن جميع الشخصيات لا تحمل أسماءاً فهم إما رجل أو امرأة أو فتاة.. وعلى كل حال فهذه الملاحظة التي أوردناها لا تقلل من شأن القصة التي تعد برأيي من بين أفضل القصص في المجموعة.
الرجل يجلس خلف السائق ويحلم .. يرى في الحلم قطة قرب الملجأ ويستغرب وجودها في ذلك المكان المتقدم من الحجابات الأمامية في الجبهة.. وسيحلم كثيراً بينما السيارة تمضي مسرعة في أحد شوارع بغداد وركابها من شرائح متعددة وأمزجة مختلفة.. تلتقط ميسلون هادي من خلال ما يحدث داخل السيارة التفاصيل الصغيرة ، بل حتى المتناهية في الصغر.. ولأن الحياة عموماً لا تستوي إلا بتفاصيلها الصغيرة منها والكبيرة فإن هذه التفاصيل ستضعها المولفة تحت مجهرها الإبداعي وتسلط عليها ضوءاً كاشفاً لتكون جزءاً مهماً وحيوياً من هذه القصة، وربما تكون في كثير من قصص ميسلون هادي هي التي تأخذ دور البطولة، ذلك أننا لا نكتمل إلا بتفاصيلنا التي تختبىء وراء قناع شخصياتنا الحقيقية.
تحدث أشياء كثيرة داخل السيارة ، حوارات واحتجاجات على السائق وأحلام يقظة، فتنكشف من خلالها تركيبة تلك الشخصيات، لكن الأبرز في هذه القصة هو ما يدور بخلد الفتاة المحجبة التي تجلس جوار الرجل/بطل القصة.. فقد أحست بأنه يضع قدمه على قدمها وينظر خارج النافذة دون مبالاة فآثرت الصمت خوفاً من الفضيحة، محاولة سحب قدمها ببطء من تحت قدمه ثم النزول سريعاً من السيارة.. وسنعرف بعد ذلك أن قدم الرجل اصطناعية، ولابد أن يكون قد فقد قدمه في الحرب، إذ أن ميسلون هادي تركت لنا إشاراتها الذكية في بداية القصة حين كتبت عبارة تقول(.. يرتدي بدلة خاكية من النوع الذي يرتديه مدنيون كانوا جنوداً ذات يوم) وعبارة أخرى تقول( الحجابات الأمامية ). هذا هو النوع من القصص الذي تكتبه ميسلون هادي، النوع الذي يوثق لمرحلة بالغة التعقيد من تاريخنا العراقي…وهناك الكثير من القصص في هذه المجموعة تحتاج منا الى وقفة ثانية.