كومبارس – حسين سرمك حسن

(كومبارس) ميسلون هادي

في عصر المحنة وزمن العولمة

تحليل قصة “كومبارس” للقاصة ميسلون هادي

                                                                     د. حسين سرمك حسن*

     في عصر المحنة ، عصر “مدينتي حبوبي ووطني حذائي” على حد تعبير الشاعر محمد الماغوط ، وحيث شارع الأمل خالٍ ” من الجهات الأربع لا من الجهتين حسب” كما تقول القاصة المبدعة ميسلون هادي في قصتها ” كومبارس “(1) وحيث يفتح الإنسان المقهور – العربي خاصة – عينيه كل لحظة على صفعات الحقيقة الرهيبة : حقيقة أنه يتعرض لعملية استلاب وسحق إرادة ومسخ شخصية وتسطيح ملامح – يقول زكريا تامر : في كل مكان يتطور الفرد من قرد إلى إنسان ، أما عندنا فهو يتراجع ويتدهور من إنسان إلى قرد – عملية مخيفة منظمة ، لا يستطيبع سوى المبدع قرع أجراس الخطر ونواقيسه .. لماذا ؟

     الجواب لا يكمن فقط في القدرة (الفنية) – التكنيكية – التي يستطيع المبدع من خلالها (تغليف) أشد صرخات الاحتجاج والإدانة قوة وتمريرها ، ولكن لأن (العين) التي يمتلكها المبدع ويلتقط بواسطتها أدق وأبسط مظاهر الخراب والتردي ، تختلف جذرياً عن أعيننا التي نرصد بها تلك المظاهر ونشخصها . فلكي تلتقط عين المؤرخ والسياسي مثلاً مظهر انحطاط ويخلله لا بدّ من أن تكون تلك الظاهرة بارزة وشاخصة على سطح الحركة الاجتماعية وفوق أرض الواقع .. وأنْ يكون لها حجم معين وحدة معينة تطرق أبواب انتباهته ، بل أكثر من ذلك نجد أن الطاهرة نفيها هي التي تدخل – بحجمها وحدّتها المؤثرة – ساحة اهتمام المؤرح أو السياسي . إن عمل هؤلاء لا يقوم على أساس الإرهاص الفردي واختلاجات بلا شعور ، بالعكس هذا الإرهاص وهذه الاختلاجات تقوّض ركائز مشروعهم الذي ينبني على أساس رصد الظاهرة حينما تصبح عامة ، والسلوك عندما يصبح جمعيّاً .. أما عين المبدع فهي عين اللاشعور .. العين الطفلية الحادة التي تلبقط ( ببراءة)التفصيلات الدقيقة .. عين المبدع لا تنتظر أذرع الخراب فوق السطح لتمسك بها .. إنها تغوص نحوها .. تخترق السطح نحو الأعماق .. ترى ما لا نراه .. وتشعر – عن بعد – بتلك الحركة الجنينية الخفية التي تبدأ بها تحولات الظواهر الكبيرة . الشعور ، كي يتأثر ، يحتاج إلى أن يحصي عدد الفقراء أو عدد البغايا ليؤشر ظاهرة الفقر او الفساد الاجتماعي ، أما اللاّشعور فتكفيه طفلة صغيرة تتسوّل أو مومس عمياء تأكل لحمها كي تهتز أركانه ويشتعل الشعور بتعبه ويعيقه الزمن فعينه تريد رؤية الأشياء واضحة محددة قائمة بذاتها ، أمّا عين اللاّشعور فهي لا ترى سوى الرموز – لا رموز إلاّ للمكبوت كما يقول إرنست جونز – وتدرك الصور المكثفة – condensed  – وتمسك بأصل الصور المنقولة – transference – التي تخدع عين الشعور بابتعادها المغّرب عن الأصل . إن عين المبدع هي أداة حلمه .. والحلم لا يتنبأ .. إن المقبل من الحوادث يرسل خيوله – كما يُقال – والمبدع لا يتنبأ .. نحن فقط نتخلّف عنه لأنه يرى ما لا ننراه ويشعر بما لا نشعر به .. إن جنين الحوادث يتململ في أحشاء وجدانه ونحن ننتظر ولادة الحادثة مكتملة كي تلتقطها أعيننا . إن عمل لاشعور المبدع يشبه مجازاً عمل منظم المذياع الذي يلتقط آلاف الموجات الإذاعية .. الشعور يضبط المنظم على موجة واحدة مفردة تامة الموضوح وبلغة واحدة محددة هي التي يفهمها فقط ويتحدث بها .. أما اللاّشعور فيستطيع استقبال أكثر من موجة ويكثفها ويفهم لغة لا يفهمها الشعور .. إنه يفك ألغاز حتى الموجات (المكثفة) المتراكبة .. وفوق ذلك فإن عين الشعور المعقلنة تحسب (رياضيّاً) بعيداً عن حرارة الانفعال اللازم لاستكمال شروط التعرف على الظاهرة والإمساك بها .. فعين اللاّشعور لا تفتح جفنها ولا تصطاد هدفها إلا بدافع (الرغبة) التي يلازمها الانفعال .. والانفعال وحرارته هو ما يميّز الفن عن العلم .. وما يميز الفنان عن المؤرخ وعن السياسي .

     بهذه العين المرهفة المقتدرة التقطت ميسلون هادي بجسارة – والجسارة تتفق مع النعومة في اللاشعور – (كومبارسها) من بين الملايين من البشر لتجسده معاناة شاملة ، محنة عصر .. وهموم الإنسان المسحوق في كل مكان ، وصاغت معاناته بصورة باهرة عززت المشترك بيننا – كمتلقّين تدور بنا رحى العولمة – وبينها كمبدعة قادرة على الصراخ (الفني) . فالمبدع ، من ناحية ، ليس كاتب عرائض ناجح نجلس قربه ليكتب ويجسّد معاناتنا بصورة بليغة ومؤثرة قد تبكينا نحن أصحاب المعاناة أنفسنا ؛ ونحن ، من ناحية مقابلة ، لسنا لوح استقبال بالغ الحساسية يتأثر بما يسقط عليه وينفعل به فقط ، إننا – نحن والمبدع – طرفان فاعلان نعيد صياغة وتحميل المكبوتات المشتركة والدوافع اللاشعورية بشكل خاص . ولكي تعزز المبدعة أواصر المشترك العام بيننا وبينها عمدت – حتى في لمحاتها الذكية السريعة التي تطرحها عن (كومبارسها) المسحوق – إلى الطرق على أكثر أوتارنا الوجودية حساسية .. وهو وتر الموت – مات فرويد كما مات بائع النفط الساذج في محلتنا – فهي تقول : “قال لنفسه وهو يتذكر فيلماً شاهده في التلفزيون قبل ليالٍ عن سفينة قصفها الألمان في الحرب العالمية الثانية فغرقت في البحر ، وبعد خمسين عاماً على اختفائها في قاع أحد الأرخبيلات ، لم يعثر الغواصون داخل هيكلها المتآكل الذي كانت تتنزه بين نوافذه الأسماك إلاّ على مئات من أحذية الجنود المطاطية ..” فيبدو أنّ الأسماك وحتى الأحذية المطاطية أكثر خلوداً منّا .

     محنة (كومبارس) ميسلون هي البحث عن دور – عن هوية محددة فاعلة – وهي في الواقع محنة الإنسان المقهور في كل مكان من عالمنا الراهن المستلب . إن لديه الكثير من الخيارات – ولكنها أصبحت مكررة مقيتة ، فهي “أدوار سماها نقاد الجرائد والمجلات بمقطورات النمط الواحد لأنهم قالوا إنها تتشابه إلى حد اللعنة .. هذا ما قالوه حرفياً ، ثم عادوا وقالوا إنها تلغو بنفس المفردات والكليشهات ، وتقدم نمطاً واحداً يجر عرباته على خطين متوازيين لا يلتقيان ولا يتقاطعان ولا يبتعدان عن بعضهما” .. وهو بسبب ضياع هذه الهوية محطّم .. مشوّش .. مضطرب .. إنه يبدأ يومه مرتعباً ، و “يفز مرتاعاً من النوم وهو يخلط بين الحلم واليقظة أخماساً بأسداس ويحاول إلقاء القبض على المكان والزمان اللذين وجد نفسه فيهما فجأة من دون أن يتوصل إلى لمعة ضوء تشير إلى مخرج قريب ينقذه من هذا النفق .. أين هو الآن ؟ في أي زمان ؟..” . هو يفتقد واحداً من أهم وأبسط الشروط الأولية اللازنة لتحقيق إنسانيته ، وهو المأوى الشخصي ، فهو يتساءل : في أي بيت هو ؟ “أفي بيت اخيه ، أم في بيت أخته ، أم في بيت ابنة خالة أبيه ؟ “.. لقد اشتبكت الأمكنة عليه ، ودخلت إلى خلاّط خفي دار في رأسه ، وظل يدور ويدوّي حتى توقف بعد ثوان وأصدر أمره إلى الدماغ قائلاً : أنت في بيت اختك الآن ؟ وهي معرفة سلبية آمرة من الخارج .. ومحنته هذه تمتد إلى أمد بعيد .. إلى أمد بعيد .. إلى اللحظة التي وعى فيها هذه الدنيا ، “فمنذ ذلك الحين وهو خارج حدود المجال المغناطيسي لأي بيت ، لا يكاد يستوي في مكان حتى ينتقل منه إلى مكان آخر ، ولا يعود ينضوي تحت سقف بيت مشغول حتىيتدحرجمنه إلى بيت آخر أكثر انشغاللاً ..” .

     وهذا (الكومبارس) معوز يعاني الفاقة ، ضاقت رؤياه بفعل الحاجة ، وأصبح غير قادر على تحديد الأوليات التي ترتكز عليها حركته اليومية ، فبدلاً من أن يتأكد قبل خروجه من البيت من أوراقه الشخصية .. “أصبح الشيء الوحيد الذي يتأكد من اصطحابه قبل خروجه من أحد تلك البيوت هو أوراق النقود الموجودة في جيبه ، وهل تكفي للوصول إلى موقع العمل والعودة منه إلى البيت من دون الاضطرار إلى الاستدانة من أحد ..” .

     ولأن أقصى الحزن الفرح كما يقال ، ولأن النفس البشرية تبرع في ظروف التوتر الشديدة في استخدام الآليات الدفاعية التي تكفل لها أقل قدر من الألم مع قدر مغلّف والتفافي من الإشباع من خلال تسويات اللاشعور وصفقاته ، فإن المرارة تتحول عبر التكوينات الضدّية – Reaction Formation  – إلى السخرية في محاولة بائسة لحماية النفس من أن تمزقها مخالب الألم التي تنهشها كل لحظة ، دفاع خادع لاجتيازخانق أزمة طاحنة تعصب فيه أعين شعورنا بآلياتنا الهروبية . ومثلما يلجأ (كومبارس) ميسلون إلى تسطيح المحنة المستعرة والتعامل معها باستخفاف (النعامة) ذي النتائج القائلة – ليس عبثاً ما جاء في الموروث من أنّ “شر البلية ما يضحك” – فإن القاصة نفسها تلجأ إلى التعامل مع محنة واقعها المدمرة بنفس الآلية .. وهي تحاول استناداً إلى الصلة التفاعلية المتقابلة ، التي تحدثنا عنها ، التخفّف من آلامها التي فرضتها عليها المحنة العامة موتخفيف آلامنا أيضاً ، وهي خدمة عظيمة تقدمها لنا نحن الذين لا نمتلك القدرة والخلاقية العالية التي تتيح لنا التفريج عن مشاعر الكرب القاسية التي تسحقنا ، فنجد في (كومبارسها) أنموذجاً يمثل معاناتنا التي سنتعامل معها – من خلاله وعن بعد – نفسياً وماديّاً – (فكومبارسها) أو كومبارسنا الذي أنهى دراسته الجامعية وأصبح ممثلاً بدلاً من أن يكون مهندس طائرات ، كما كان يحلم أبوه دائماً لم يتبق له من صلات بذلك الحلم – الطيران – ووفق منطق السخرية السوداء – سوى “نعل طائر يستقبله عبر المجال الجوي للبيت من غرفة إلى أرى استطاع تحاشيه في اللحظة الأخيرة بعد أن انحرف عنه برشاقة ليدعه يسقط في برميل النفط الموضوع أمام البيت مباشرة ..” . وإمعاناً في تهشيم أوصال كل منطق تضع لنا القاصة من خلال (كومبارسها) الفطن معادلة غريبة جداً لكنها (واقعية) في زمن اللامنطق والتغريب والفجيعة : “إذا كان النعل – فكّر الكومبارس – مصنوعاً من مادة المطاط العالمية الشهيرة فسيكفل له النفط ذوبانه هناك على مهل قبل أن تكتشف أخته فقدانه من البيت” .. في الوقت الذي يستقتل العالم ويستميب فيه من أجل برميل نفط يُذبح بسببه آلاف الأطفال كل يوم وفي الوقت الذي يُرتهن فيه مصير أجيال وحقّها في الحياة الرغيدة والحلم الأخضر الشفيف تمتلك أخته برميل نفط موضوع – للعرض – أمام البيت مباشرة – وليس في داخله – وقادر على إذابة (النعل) . ورغم مرارة الامتهان وانحطاط الوجود الفردي نجد (الكومبارس) يُطمئن نفسه بعد أن تجنب برشاقة الضربة الخاطفة بقوله : “دفع الله ماكان أعظم ..” فأي سخرية أكثر قتامة ودلالة واستسلاماً من هذه ؟ ومتى تكف ميسلون عن اعتصار بقايات أرواحنا اللائبة ؟ .. إنها لا تكفّ ولا تقف عند حدّ ، وتدفع (كومبارس) الزمن الملعون إلى أن يسير قدماً في خداع الذات المستباحة ومعالجة جرحه الغائر الطازج بورود السخرية الباردة الخادعة بدل ملح المنطق الحارق ، لكن الناجح . إنه يقف مستسلماً خانعاً أمام غارات شتائم المخرج (العولمي) المرعبة وسعاله الديكي وهو يقدم له تفسيراً حاداً وواقعياُ لحكاية موروثة (بسيطة ومعروفة) ، هي حكاية سباق الأرنب والسلحفاة الذي فازت فيه الأخيرة ، وفوزها أمر غريب جداً وخارج المألوف وخارق للمنطق حيث يقول له : “يا بني .. ليس صحيحاً أن الأرنب قد خسر سباقه مع السلحفاة لانها أكثر قدرة على التحمل منه ، ولكن الصحيح أنها فازت عليه لأنه هو الذي سمح لها بذلك .. فهل فهمت يا (طرطميس)(2) ؟..” و(طرطميس) هو في الواقع الأرنب الذي يضيّع على نفسه الفرصة تلو الفرصة ، ويسمح لعوامل وظروف الخارج السلبي الذي هو سلحفاة بالقياس النسبي – التغلب على إمكانات الإنسان الإيحابي المعجز . فهو مثلاُ يعلم أن (أوردر) –order – أو أمر العمل الذي تسلمه من مساعد المخرج يقضي بأن يكون في موضع التصوير في الساعة التاسعة تماماً ، إلاّ أنه لا يحمل ساعة ولم يوصِِ أحداً بإيقاظه في الموعد المحدد – ماذا تفعل الساعة لمن لا يمتلك زمنه الشخصي ؟ – وهو يستقبل شتائم المخرج وتوبيخاته بالترنّم ، في السر ودونما إرادة منه ، بخاتمة نشيد الأطفال الذي يقول : “عدّونا يالله عدوّنا .. واحد اثنين .. ثلاثة وبس ..” ،  أي أنه يواجه محنة حاضرة بالنكوص الطفلي إلى ماضيه دون إرادة منه – فقد (تثبت) على الماضي التليد ولم يعد يقوَ على مواجهة ضغوط الحاضر الجائر بالطرق المناسبة .. أسلحته الخيال الحلمي الهش الناكص ، فهو لا يجرؤ على وضع نفسه موضع سلحفاة ، كما كان قد فهم من إشارة المخرج أول مرّة ، ولكن إشارته الثانية جعلته يرى نفسه خارجاً من كهف مظلم مع فوج من السلاحف المدرّعة التي تتمايل ذات اليمين وذات الشمال ..” . إن طبيعته السلحفاتية أو الأرنبية – لا فرق في عالم الحيتان المخيف – وتشوش مداركه واختلاط زمنه الشخصي جعله لا يعلم أن “اليوم هو يوم الجمعة – يوم عطلة المدارس – إلا من خلال النعل الطائر الذي أخطأ رأسه الشامخ” – كما تقول القاصة .    

       كومبارس ميسلون هادي – كومبارسنا – لا يتذكر حتى دوره المخصص له ” الذي سيدفع من أجله كل هذه الكمية من البلاهة والتنطط سراً من نشيد مدرسي إلى آخر ” ، والسبب في عدم تذكره هو أنه ” لم يشرب الشاي …” ، ولكنه يتذكر بصعوبة بالغة هذا الدور الذي يتلخص في أن يقتحم مجلساً من مجالس العلم يضم شيخاً مع طلابه الجالسين على الأرض متفوهاً بجملة واحدة فقط يقولها لاهثاً وهو يندفع إلى شيخ المجلس :

 ” – التتار قادمون ..” 

ثم يخلع عنه جلبابه وعمامته وخفّه المصنوع من جلد الأيائل ويسلم رأسه إلى الماكيير العجوز ليضع عليه جدائل متسخة وشاربين متباعدين ويجعله يرتدي صديريّاً مصنوعاً من فروة خروف أسود فيصبح جندياً في جيش التتار يركب حصاناً أبيص اللون ..”. وبعد أن يتم تغيير شكله بسهولة – بنعل وجدائل متسخة – يتغير دوره بنفس تلك البساطة ولكن بصورة جدية . ففي الدور الأول دخل المجلس محذراً شيخ العرب من بطش عدو غازٍ متوحش ، أما في الدور الثاني فيعود – بعد تغيير شكله – ليتفوه بجملة مفردة أخرى تقول : “هذا هو ابن تيمية” ، يسلم من خلالها الشيخ العربي لأعدائه .. دوران اثنان بينهما فاصلة (فنية) بسيطة – عملية مكياج وتزويق وتغيير ملابس و(نعل) .. بينما الفاصلة التي رمز إليها على أرض الواقع هي فاصلة (تأريخية) قاتلة هي نتاج تدهور إرادة واحتضار أمل وانسحاق رجاء الروح الجمعية الممزقة . تحوّل بسيط في الشكل تبعه تحول خطير في الدور .. كان (الشكل) يتبع (المضمون) . أما الآن – وبإشراف المخرج العولمي – فإن تغير (المضمون) يتبع تغير (الشكل) .. وهذا هو أخطر أهداف وأدوات العولمة في نفس الوقت .. (توحيد) الأشكال بلهاث جنوني لتحقيق التناشز بين الشكل والمضمون تمهيداً لتحطيم الأخير وتهشيمه ومن ثم توحيده أخيراُ مع الشكل ليصبحا (سطحاً) واحداً ملوناً براقاً ولكن خادعاً وأجوف . وإذا كان الممثلون الكبار – سابقاً – هم الذين يضطلعون بأخطر الأدوار وأشدها حسماً في تمزيق الأوصال وتحطيم الإرادات وبإمكانهم التخلي عن أي مساعد ثانوي في أية لحظة ، فإن الكومبارس في زمننا الرديء هذا ، وفي كل الأزمان الرديئة المقبلة – الفرد الهامشي المسحوق هو الذي بات يضطلع بأخطر الأدوار حسب رؤيا ميسلون .. هو الذي يفتح الأبواب المغلقة التي تحصنها الإرادة . فميسلون شاهدة عصر خراب ، وصرختها نداء لنا – النقاد غير مشمولين ب(نا) المتكلم هنا – كي ننتبه لا للغزاة الوافدين كالجراد من الخارج فحسب ، بل إلى جراد الداخل .. الجراد السلحفاتي الهامشي . إنها عودة – من جديد – إلى حكاية الأرنب والسلحفاة .. فالأرنب هو الذي سمح للسلحفاة بالفوز ولا يمكن للسلحفاة أن تفوز على الأرنب “وإن تناولت جميع أنواع المنشطات ” . إن انسحاق الإنسان وحرمانه من تحقيق إنسانيته واستكمال شروط تأكيد الذات وإطلاق كل طاقاتها الحبيسة قد يخلّ بتوازنها القائم على أساس التناغم الخلاق بين دوافع الموت ودوافع الحياة .. إن الكبت والنمو الشائه لهذه الدوافع – وهذا أمر تنبهنا إليه القاصة الشاهدة – قد يدفع الفرد إلى أن يبحث عن تلك الشروط ويستكملها من خلال لعب أي دور .. أي دور – هل هذه نظرة جديدة في الخيانة تطرحها المبدعة ؟.. هل هي نظرية في حركة الطاقة النفسية عبر أوانيها المستطرقة الشفافة ؟ أم هي اسقاطات الناقد ؟

     إن ما يحاول المخرج العولمي فعله هو تهميش أدوارنا كي يصبح كل منا نسخة من “طرطميس” – وتعني الأبله كما نعرف– الذي يستميت لأداء أي دور يستبدل فيه ملامحنا الأصلية الأصيلة بملامح زائفة تضعها يدا ماكيير عجوز ماكر يغيرها حسب الدور المطلوب ، ورغم أن (طرطميس) هو أنموذج الانسحاق وبؤس الإرادة ، إلا أن المخرج العولمي لا يخلق أسس التهميش والاستلاب .. إنه يبني فوق ما هو مؤسس أصلاً ، وبشكل خاص فوق جذر الضياع الأوديبي الذي يعاني منه كومبارسنا ، ” فإذا كان صحيحاً ما يقال عن انتهاء مستقر الرجل إلى المكان الذي يُقطع فيه حبله السري بعد الولادة فمن المؤكد أن أمه قد قطعت سرته وهو وليد ورمتها في مكوك فضائي”.. فجذر التهميش والتسطيح وخواء الإرادة يكمن في اضطراب وتشوش تلك الصلة الحاسمة والأصيلة بالأم .. بالأمة .. بالأرض .. فبدون هذه الصلة يشعر الإنسان – ومنذ أن يعي هذه الدنيا – ” بأنه خارج حدود المجال المغناطيسي لأي بيت ، لا يكاد يستوي في مكان حتى ينتقل منه إلى مكان أخر..” .. تتشابه لديه الأماكن وتتماثل الأدوار : دور صغير .. دورمتوسط .. دور كبير .. دور محذّر .. دور خائن .. لقد غابت الرؤية واختلط كل شيء .. ولا أحد يفتح عينيه ويتنبه لما يجري .. لا أحد يسأل حتى .. فالشاب الذي يرتدي ملابس مدنية وحزاماً جلدياً أسود اللون وتبدو عليه علامات الأهمية يوجه أمراً حازماً إلى (الكومبارس) : ممنوع الوقوف هنا.. ورغم أن الأخير قد أصابته الحيرة وهو يسأل نفسه : أوامر من ؟ حيث لا يوجد في المكان جدار عال أو أسلاك شائكة أو أية علامة تشير إلى وجود بناية مهمة تستدعي هذا المنع – كانت هناك ساحة كبيرة فقط مليئة بالانقاض والأزبال – إلا أنه ابتعد ممتثلاً لهذه الأوامر الغريبة ، ولم يكن يشعر برغبة في الاعتراض عليها .. كل شيء مرسوم ومقرر له سلفاً .. ولا حاجة لأي محكمة عقلية بالمنطق أو بالضرورات المتعلقة بإرادته الحرة ومستلزمات وجوده .. كل شيء زائف ومسطح .. ضاع صدق الأشياء في ظل العولمة وطال الزيف كل نواحي الحياة .. فلم يجد المخرج العولمي ضرورة قصوى في استئجار حصان حقيقي من أجل المشهد ، فجعل الممثل يقول تلك الجملة وهو يقف تحت شجرة توت مزروعة في باحة صغيرة تتوسط المدرسة ويستخدمها حارسها لتربية خمس دجاجات وديك حسن الصوت – مع الاعتذار لبشار(3)- اضطر المخرج إلى تكتيم منقاره بوشاح أصفر ، كان مساعد المخرج يلف به عنقه ، لكثرة ما كان يقاطع الممثلين بصياحه الأهوج بين آونة وأخرى . هكذا يصيب الزيف كل شيء في حياتنا على يد المخرج (سيد العمل) – كما يوصف – فهو يستعيض عن طلاقة الصحراء وسكونها بقنّ لتربية الدجاج ، وعن صهيل الخيل وإيقاع سنابكها بالمؤثرات الصوتية الجاهزة .. لقد طغت السرعة والتلفيق المنافق والمشاعر الباردة على كل شيء .. ” إذ لم يعد المخرجون الوافقون على سطوح المنازل وهم يتطلعون إلى الأقمار الصناعية يدققون في هذه التفاصيل كثيراً” ، وهي تفاصيل اعتدنا عليها كثيراً ، نحن جيل ما قبل الخراب ، إنها إكسسوارات حياة جميلة امتلأت بالبهاء والتألق والصدق والشفافية ثم ولّت .

     إن السرعة مطلوبة وبدرجة منفلتة لتحقيق (التسطيح) .. والعولميون يدركون ذلك بقوة .. يدركون – على مستوى التركيب الغريزي للإنسان – أن خلخلة الاستقرار الغريزي  وتحويله إلى سعار في باطن أشكال متناثرة هو الأساس لخلخلة الشعور وزعزعة أسس الحكم الهادئ .. في ظل هذه السرعة المقيتة يتم انتزاع غرس وجود وقطع جذور وتشويه كيانات ورميها خارج التربة الأم – الرحم – من يلتفت إلى ما يجري غير المبدع ؟ .. المبدع بضميره الأبيض وبتلقائية لاشعوره الطفلي وبنقاء روحه الطرية البريئة : ” ولكنّ طفلاً واحداً ، رأى الممثل نفسه مرة يحذر العرب من التتار ومرة أخرى يدل التتار على إمام من أئمة العرب ليذبحوه ، قال لأبيه “بابا .. أليس هذا هو نفس الرجل الذي حذر (ابن تيمية) قبل قليل من التتار؟

     “قال الأب : نعم .. إنه هو ..

     “فقال الطفل : هل هو خائن يا أبي ؟ 

     “ابتسم الأب لأبنه بأسى ، ثم قال : كلاّ يا ولدي .. إنه كومبارس … “

    لقد كانت العين الطفلية الحادة هي التي رأت وأعلنت حقيقة أن (الإمبراطور) كان عارياً ولا يرتدي ثوب حرير نادر . وقد استقبل الناس هذا الإعلان بالتهليل وانفجار ألم الضحكة المكبوتة المعبرة عن تمزق الوجدان . أما في ظل ( العولمة ) الفكرية والوجدانية – تغييب الشعور وشحذ أنياب اللاشعور الناشطة لتشويه توازنه حيث أن الطاقة الجنسية المنفلتة هي عدوان أيضاً – فإن الضمير الطفلي يتساءل متشككاً ، والضمير العام المسيطر المدوّخ ينفي بأسى – فمن يشهد ؟ من

يصرخ ؟ من يعلن الإدانة ؟ من يدق ناقوس الخطر ؟ … إنه المبدع ، الضمير والشاهد  الذي يستشف الغاطس في عصر المحنة ويطلق صرخته – شهادته بلا مهادنة وبلا تردد ، وقد تصدت ميسلون هادي لهذه المهمة ببراعة وجسارة …

     من قال إن القص التقليدي قد فقد أهميته ؟ .. تبقى لروحية طريقة (الحكواتي) تأثيرات نفسية وفنية خاصة تمتد في جسد كل عمل قصصي مثلما كانت درجة (حداثته) وسعيه لتحطيم الشكل التقليدي . لقد كان المبدع قديماً يكتب من الذاكرة .. يتذكر ويكتب ، فكان لزاماً عليه أن ينظّم مسار تلك الذكريات وتسلسلها التعاقبي في خليط حكائي له بداية ووسط ونهاية ، ولكن المبدع حديثاً يكتب من اللاّشور .. إنه يحاول تصوير حلمه برموزه المدهشة وتكثيفاته العجيبة وانتقالاته الغريبة ، فلا عجب إذا جاء حلمه أو نصّه أو حكايته – مثل أي حلم – غريباً ، لا منطقياً ومفككاً . وإذا شئنا طرح مقارنة مبسطة بين الشكلين : التقليدي والحديث ، وبين تقنية الحلم وعمله نستطيع القول إن الشكل التقليدي يشبه عمل الحلم في أحلام تحقيق الرغبةالبسيطة المباشرة وبشكل خاص الرغبات العضوية – شخص جائع يحلم بأنه يصل غابة ذات ثمار سحرية بعد مسيرة طويلة مثلاً – أما الشكل الحديث فهو نتاج لعمل يماثل عمل الحلم في أحلام تحقيق الرغبات المكبوتة الدفينة – بشكل خاص المحرّمة – والصراعات اللاّشعورية الأوديبية المبكرة التي يعمل فيها مقص الرقيب حذفاً وتشويهاً وتغريباً .. وميسلون التي تدرك كل هذه الشروط بوعي حاد والتي لا تخلو أي قصة من قصصها من حلم – حلم يقظة أو نوم – أو حدث يتضح في النهاية أنه حلم ، وكلها مصاغة بأسلوب هادئ منساب وبمفردات (مسالمة) لا تستفز القارئ وتستدرجه بتيارها الدافئ .. تركت كل ذلك وهي تقدم شهادتها – صرخة احتجاجها المستفزة – فكان لزاماً عليها أن تقدم صرخة واضحة ومنظمة كي يسمعها الجميع فتوقظهم … في عصر المحنة كي ينتبهوا الآن للكومبارس ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

     (*) ناقد وطبيب نفسي عراقي .

  •  رومانس ، قصص ، من منشورات اتحد الكتاب العرب ، دمشق ، 2000 ، قصة “كومبارس” ، ص 15 – 23 .
  •  طرطميس تعني في العامية العراقية الأبله .

(3) المقصود بشار بن برد في قصيدته “رباب ربة البيت” .

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

نبوءة فرعون – وسن مرشد

وسن مرشد   توظيف التراث الشعبي وأهميته، قراءة في رواية “نبوءة فرعون”لـ (ميسلون هادي) يعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *