تطور الفلسفة الروائية في رواية “نبوءة فرعون” لميسلون هادي
د. كرنفال ايوب.جامعة بغداد
جريدة المدى ملحق أوراق
السبت 21-01-2017
ان تطور الفلسفة الروائية لدى الكاتب العراقي, قد قاد إلى إنتاج نصوص تجريبية, شكلت طابعا للنتاج العراقي في الحقبة الأخيرة, وقد بدت هذه الفلسفة في جزء منها وقد تبنت استلهام الموروث الشعبي, لتضمينه في عالم الرواية , ومرد هذه المسالة يعود إلى تمتع الموروث الشعبي باهتمام واسع, خاصة في الظواهر التي تحمل رصيدا شعوريا عند الأفراد والمجتمع عموما, لذا اتجه الروائي إلى انتقاء صور مؤثرة منه, تتعلق بالحياة اليومية, والواقع المعاش الذي يلتصق بالفرد, حمّلها دلالات رمزية تتصل بعوامل تاريخية وموضوعية, ومن ناحية أخرى لا بد أن نشير إلى الجنوح المتسارع نحو الواقعية السحرية, وما يشهده تطور الرواية من تضمينات لهذه الظاهرة التي تلاقي قبولا واهتماما كبيرين, خاصة وهي تستند في جزء كبير منها إلى التراث الإنساني والموروث الشعبي, فتطويع التراث للدلالة على الأشياء يعد منهجا تجريبيا متطورا يسعى للتعامل مع الواقع المادي بطريقة رمزية تحمل كثيرا من غنى التعبير, والإشارة إلى بعض من مرتكزات الواقع.
هناك نصوص تجريبية عراقية قد استغلت الموروث الشعبي ببراعة, مستندة في ذلك إلى تأثيره في الحياة الاجتماعية, ودخوله إلى تفاصيلها خاصة عند الطبقة الشعبية أو الكادحة, فمن أخر الأعمال التي ظهرت وهي ترتكز إلى التراث الشعبي, رواية (نبوءة فرعون) للقاصّة والروائية ميسلون هادي, التي نقلت الموروث الشعبي لتقدم رواية واقعية تجريبية, تحمل دلالات استوحتها من المعاش اليومي.
فقد كان التراث الشعبي منبعا للرموز التي استوحتها استيحاء موفقا خاصة مع المظاهر التي تدخل في الحياة اليومية وتتصل عند غالبية الأفراد بقيم وعادات وتقاليد أضحت جزءا مهما من طريقة العيش التي ترتكز على المعتقد فـ(صينية الزكريا) تعد تقليدا متعارفا عليه في المجتمع العراقي, ويمتلك اهتماما معتقديا يقوم على طلب الحاجات, وإيفاء النذور إذا ما تحققت الحاجة, خاصة في مسالة الإنجاب لدى النساء: ((ونصبت له اليوم صينية الزكريا كما في مثل هذا اليوم من كل عام, ومنذ اليوم الأول الذي طلبت فيه يحيا من الله في يوم زكريا قبل خمسة أعوام))(1). ومن هذه المظاهر التراثية الشعبية ما تعاملت معه الكاتبة تعاملا تجسيديا يقدم تفاصيل بعض هذه العادات مثل سقي( يحيا) بعض المشروبات الشعبية التي توارثت وصفاتها الأمهات عن الجدات مثل القونداغ, او ماء بئر جامع براثا: ((ضرتها هنية قالت لها إن هذه حرقة الحليب وأوصتها بالقونداغ وبان تعطيه السبع مايات حتى تهدا نفسه وتطيب آلامه, فاشترت له بلقيس اليانسون و البابونج والهيل والكمون والسعدة والورد ماوي والهندبة والمستكة وطلع النخيل والبطنج..وجمعتها, حسب ما قالت لها هنية, في اناء مليء بالماء وغلتها مع ورق الياس والجوري وقشور البرتقال لحين أن فارت وتصاعد منها إليها البخار, ثم راحت تسقي منها يحيا وهي باردة بملعقة شاي))(2) , و((سقيته فوح التمن ودرت به على الشيوخ والأولياء والصالحين, ويوم أمس فقط أخذته إلى شريعة الماء في خضر الياس ومن هناك إلى عين ماء علي في جامع براثا .. يقولون إنها تشفي الأطفال من الخرس))(3). ولعل اختيار هذه الممارسات التي تمتلك أبعادا اجتماعية مقصود لغرض إظهار تأثيرات الواقع المجتمعي فضلا عن ردود الأفعال التي يمارسها الأفراد تجاه هذه التأثيرات.
إن اختيارتفصيلات الموروث الشعبي العراقي مقصود بما يحمله من دلالات قد تصل إلى ارتباطها بالمصير الإنساني, على الأقل من خلال المعتقد, وربما لغرض تحقيق جزء من فنية النص عن طريق التقاء تلك الملامح التي تستقيها من خلال الغوص في التراث. فقد أقيم عالم الرواية على تشكيل مشاهد غنية بطقوس وعادات جعلتها الكاتبة جزءا من اليومي في حياة الشخصيات لتحقيق صورة عن الحياة والثقافة الاجتماعية التي تعنى بها . ولعلنا نستطيع ان نلمح المستوى الرمزي من خلال تداخل طابع الحياة التي تصورها مع ما يتعرض له أفرادها من واقع اجتماعي وسياسي يتمثل في ظروف حرب الخليج الثانية عام 1991, فقد تداخلت حدود الرواية بين الواقع التاريخي الحقيقي ومشاهد الموروث الشعبي او الحياة الشعبية عموما : (( وفي آذار المهذار, شهر الهزاهز والأمطار, أودت ريح رملية عاصفة بثمرات النارنج المتبقية على الأشجار , وأطاحت بها أرضا مع أكوام الورق اليابس وطبقات التراب, وسقطت بيضات السنونو الخمس على الأرض وتكسرت إلا بيضة واحدة ,فصاح السنونو وناح وظل يدور في السماء بلا انقطاع ,وظهر الجنود الأمريكيون المرقطون يزحفون إلى مروحياتهم محنيي القامات والريح تسف رمالها في الوجوه البيضاء وتعصف بملابسهم التي تمنع عنهم الموت ذات اليمين وذات الشمال. وطال الوقت وأصبح عجين هنية كالبالونة من شدة الاختمار,وأقعدها المرض من النهوض, فتركته يتثقب ويتشقق ويتفطر ويتضوع بعطر قديم هو رائحة قمح مختمر))(4). لقد تم استدعاء مثل هذه المشاهد في إطار سعي الكاتبة إلى إيجاد بدائل للرمز لان صور التراث الشعبي تحمل دلالات غنية يمكن أن تمنح إبعادا أوسع من أبعاد الرمز ولعل ذلك يتجلى في مشاهد عديدة , مثل المشهد الذي تقص فيه (بلقيس) تفاصيل فقدان (يحيا ) : ((فقلت له : الدنيا ليل, فأين تذهب يا يحيا؟ وكأنه لم يسمعني سار على الممر إلى خارج, ولا ادري لماذا نظرت في تلك اللحظة إلى الأرض, فرأيت حيّة تمشي خلفه, فصحت بأعلى صوتي لأوقظكم من النوم, لكن صيحتي جاءت في اللحظة التي حدث فيها الانفجار, فوقعت على الأرض وراح يحيا))(5). ويبدو ذلك أكثر رسوخا حين تصنع من بعض صور الموروث الشعبي مفاتيح لفك الرموز التي منحتها طابعها الخاص في بنية النص(6).
تتجه الكاتبة في إطار تعبيرها عن فلسفتها إلى اتخاذ أبعاد مختلفة نتيجة اختلاف وتنوع التفاعل مع الواقع, فتتجاوز صور الموروث الشعبي إلى تضمين الحكايات الشعبية ,وحكايات ألف ليلة وليلة, والأسطورة, والخيال العلمي, فيبدو النص متعدد الأبعاد لان الكاتبة تنطلق في تعاملها مع الحدث والفكرة من تضمين هذه الجوانب, فتطرح رؤى جديدة ومتطورة في فهم واقع متميز بأحداثه ومعايشه, بطريقة جعلتها وكأنها وسيلة للكشف عن المخفي في مجتمع يتعرض لهزة خطيرة نتيجة الحرب التي تجابه بثقافة طقوسية تحييها شخصيات الرواية وتعبر فيها عن واقع حي مقابل ارادات القتل, فـ(بلقيس) تسرد الحكايات لابنها يحيا بمشهد يحيلنا إلى عادة سرد الحكايات للأطفال من قبل الأمهات والجدات , إلا أن بلقيس تسردها مع ما تحمل من دلالات بشكل جعلته الروائية مقصودا. (( – ها .. اروي لك قصة “ليلى والذئب” أم “شيخ الجذران”؟
قال يحيا:
لا اروي لي قصة” قطر الندى والأقزام السبعة … كان يا ما كان في سالف العصر والأوان ملك ماتت زوجته فتزوج امرأة ساحرة الجمال وحسنها فتّان .. وكانت لهذه الزوجة مرآة مسحورة لها لسان وتحكي كما يفعل الإنسان ))(7) . ولعل مغزى تضمين الكاتبة لثلاثة أنواع حكائية (الحكايات الشعبية , ألف ليلة وليلة, الأسطورة) يتعلق بمستوى وعي ترجمة الموروث الشعبي, فتوظيف الأسطورة مثلا لا يمنح العمل الروائي قيمة بقدرما ينبئ عن وعي الكاتب باليات الاشتغال والاستفادة من المكونات التي تنتجها الحياة , وفي (نبوءة فرعون) تحقق تشكيلا متميزا حين تربط الدلالات الإيحائية لهذه المكونات الموظفة بسياقات النص بطريقة جعلتنا نشعر بها وكأنها روافد لإحياء الفكرة في تركيز على الأدوات المعتقدية التي يتسلح بها الإنسان, والإنسان العراقي بالذات الذي يمتلك رصيدا هائلا من الثقافة الشعبية التي تحكم حياته حتى يومنا هذا. فالحكاية بمختلف صورها وأشكالها تمارس تأثيرا مهما في توجيه السلوك الإنساني خاصة عند الأطفال, والكاتبة تستثمر ذلك من خلال( يحيا) الطفل العراقي الذي تسرد له أمه (بلقيس) هذه الحكايات المحملة بالرموز لتفك بها شفرات الواقع الذي تحياه . ويمكن أن نعد توظيف الأحلام صورة عن الإسقاطات النفسية التي تلعب دورا مهما الإحالة إلى الواقع (( في تلك الليلة حلم يحيا بالممرضات النحيلات يهبطن من عرباتهن البيض ليضعن العلامات على أبواب البيوت ..كل باب بيت فيه طفل يضعن عليه علامة ضرب, وكل بيت ليس فيه طفل يضعون عليه علامة صح. وعندما سألهن لماذا يفعلن ذلك قالت تلك التي دفعته إلى داخل البيت : لكي لا تصاب بالشلل.
هنية في ذلك الحلم كانت مكومة في حوش المنزل وهي لا تقوى على النهوض))(8)
وعلى الرغم من أن الروائي كثيرا ما يوظف الحلم ليجعل منه موازيا لبنية القصة الاصلية , إلا أن الحلم في نبوءة فرعون تداخل مع باقي الظواهر التي وظفتها الروائية لتنشئ المزيج التجريبي الذي شكل سمة الرواية , خاصة مع توفر عنصر الربط الرمزي بين الواقع الذي تعيشه الشخصيات, وبين الحلم الذي يجتاحها محملا بدلالات تحيل إلى ذلك الواقع.
لقد دمجت الكاتبة رؤى متعددة ذوات دلالات متعددة لغرض تكوين بانوراما لمرحلة انتقالية خاصة مع توظيفها الخيال العلمي الذي يعد نتاج مرحلة من مراحل التطور المجتمعي, حين جعلته رمزا للقدرة التكنولوجية التي تجابه بسلاح المعتقدات الشعبية , فقد استثمرت واجهة الخيال العلمي في ترميز موفق يشير إلى مستوى تأثير قوة التسلح الذي اخذ يتسع ويتحكم في مصائر الأفراد: ((قال الابن وكان اصغر سنا من مستشاره:
– من المؤسف أن العناكب في الأسر تعجز عن إنتاج الكميات المطلوبة من الحرير لاستخدامه على نطاق واسع, ولكن مركز الأبحاث التابع للجيش انتزع جينة من إحدى خلايا العنكبوت الذهبية وزرعها في جرثومة تعيش في زجاجة مختبر.. وما لبثت هذه الجرثومة أن أخذت بالانقسام وأصبح لديهم بين ليلة وضحاها ملاييين الجراثيم))(9) .
إن مقاربة الخيال والعلم أدبيا في النص الروائي هو في وجه من وجوهه احد أساليب تطور الفلسفة الروائية , الغاية منها خلق طبيعة جديدة للواقع تؤثر بشكل مباشر في المصائر لغرض استجلاء التحولات الطارئة التي تجتاح العالم , وهي طريقة لإبراز الاتجاهات الجديدة التي انتهجتها الكتابة الروائية, والتي ترتبط بالواقع بشكل متواصل وعلى الرغم من أن الخيال العلمي يمكن أن يوجد داخل هامش افتراضي إلا أن استدعائه كان لغرض الإشارة إلى واقع التسلح الأمريكي المتطور مقابل تواضع الإمكانيات التسليحية العراقية.
إن الفلسفة التي انتهجتها ميسلون هادي قدمت متناقضات أطرت الحياة اليومية العراقية في ظل الحرب لتعبر عن تشكيلات ما بعد الحداثة, ولعل كون الكاتبة امرأة فإنها قد دخلت إلى كل تفاصيل العيش اليومي لمجتمعها لان المرأة عموما ترتبط بعلاقة حميمة مع الأشياء وبالذات الطقوس اليومية التي تعيشها مع بنات جنسها , وهي تحاول تنشيط المشهد العراقي في تلك الحقبة, وان تمنحه القابلية على ألتجسد, واجتهدت في نسج ملامح أساسية من متخيّل اجتماعي لثقافة متغذية من تفاصيل المسرود والمحكي والرموز التراثية الشعبية. وهو ما أوضح النهج الفلسفي الجديد الذي انتهجته الروائية من اجل إحياء مشاهد الواقع العراقي.
الهوامش
- (1) نبوءة فرعون, ميسلون هادي, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, الطبعة الاولى,2007,ص28-29.
- (2) المصدر نفسه, ص118-119.
- (3) المصدر نفسه, ص26.
- (4) المصدر نفسه, ص138.
- (5) المصدر نفسه, ص140.
- (6) ينظر, المصدر نفسه, ص68,وص169,وص170.
- (7) نبوءة فرعون, ص55.
- (8) المصدر نفسه, 117.
- (9) المصدر نفسه, ص125.