علاء مشذوب – مقارنة بين قصتين

عالية طالب في بحر اللؤلؤ

علاء مشذوب عبود

جريدة الناس 24-8-2011

في المجموعة القصصية (بحر اللؤلؤ) للقاصة (عالية طالب) والتي تحتوي بين دفتي الكتاب (22) قصة قصيرة . تميزت بقوة السرد المفرط وكأنك أمام لوحات تشكيلية حديثة شرطها الوحيد هو خلوها من الموضوع برغم من توافر بعض الأركان الأخرى للقصة كالمكان الذاتي والزمان المبهم والشخوص المتمثلة بالقاصة التي لم تنفك تطلق صوتا داخل أعماقها وليس من أعماقها ثم تسرد الصدى المنبعث من ذلك الصوت في أعماق ذاتها دون أن تعرف ماذا تريد والى أين هي ذاهبة . أن أغلب قصصها تشبه الرسومات الأهليليجية التي تعنى بشكل العام للمواضيع ،مهملة للتفاصيل الدقيقة . والقاصة متمكنة من أدواتها، ولها القدرة على السرد ولكن بطريقة إنشائية تخلو من الصور المتخيلة مثل ( لتخلق أنثى ركنت داخلها بصدأ مزعج)  أو في القصة (الظل الذي سقط : لا تسرف في جمعي … فقد تجرحك بعض شظاياي) وكذلك في القصة (المحاولة الأخيرة : أشعر بالأسى وبشيء يشبه الخرافة يدور داخل أوردتي يقتطع بعض وريقات فرح تسنى لها أن تنمو يوما ثم تلاطمتها عواصف خريف يبدو لي أنه ابتدأ بملازمتي قبل أن أولد) أما في قصة (ظلال حافية: لا تبحثوا عن بصماتكم الميتة فقد سرقت دون أن تشعروا) . والقصص في مجملها هي أشبه بسكة قطار أول حلقة تشبه آخر حلقة بمعنى أنها تسير على خط بياني واحد وكذلك مثلها مثل درجة حرارة الإنسان 37 ْ إن ارتفعت سببت (سخونة) في الجسد كله وإن انخفضت سببت (استبراد) ما يعني إنها لا تحيد عن سياق واحد وهو السرد فقط ، تعالوا معاً نقرأ ما كتبت في قصة (البحث عن السطوح) وهذا العنوان أقرب الى المفهوم النقدي منه الى عنوان قصة لتقول : ويوما بعد آخر أصبح ذلك التوجس باكتشاف ما افتقده يزيد من وطأة إحساسي بالفقدان . كل الأشياء حولي غريبة مشطورة الألفة دميمة التفاصيل مشوهة بأصوات غير مفهومة، تعاني من خلل ارتباطها بي أو بالعكس لم أعد أدري، ولا أكاد أتذكر أي وشيجة تلزمني بمن حولي ….) وتستمر في هذا السرد الى أن تنتهي القصة وثمة سؤال طرحته على نفسي وأنا أقرأ أول قصة من المجموعة وهي (لحظة اكتشاف القمر) وحتى أخر قصة وهي (قاع اللعبة ) مفاده : لو أنني قرأت أول ورقة وقفزت حتى آخر ورقة لأعرف النهاية إن وجدت فهل يؤثر ما قفزته على متن القصة … أعتقد أن الجواب هو… لا ؟ ولكن لماذا لا يؤثر اقتضاب أكثر من عشر أوراق لبعض القصص عن روحيةْ القصة ومسارها . الجواب لأنه عبارة عن سرد ذاتي لا يؤثر بالمجرى العام للأحداث بقدر ما هو نقاش داخلي بين القاصة وذاتها مثلها مثل من يتذوق أول الكأس وعندما يعرف طعمه فأنه من المؤكد يعرف ما في قعره . وفي الأخير لا أود أن أكون قاسيا في قراءتي لهذه المجموعة فلربما تناولت القاصة عملية طرح أفكارها بطريقة فلسفية يصعب على الكثير هضمها . مثلها في ذلك مثل أحد الأشخاص الذي جاء الى أحد الشعراء وقال له : لماذا تقول ما لا يفهم فرد عليه : ولماذا لا تفهم ما لا يقال .
في المجموعة القصصية الثالثة (لا تنظر الى الساعة) للقاصة (ميسلون هادي) والفائزة بمسابقة الجائزة الذهبية للتأليف التي نظمها منتدى المرأة الثقافي عام 1997 … والتي صدرت من دار الشؤون الثقافية في عام 1999 تبحر بنا من حلم الى حلم ففي القصة الأولى التي أخذت المجموعة أسمها منها تتحدث عن شخص يهبط في مطار بغداد علماً أن العراق في ذلك الوقت في فترة حصار قبيح وله الحق البقاء بفيزة لمدة (24) ساعة كان ذلك في الساعة الواحدة ليلاً فيفضل المنام على مقعد جلدي وثير في صالة الترانزيت عندها يحلم أنه ذهب الى بيته في الوزيرية والتقى جارتهم وسألها عن أخيه (جلال) فأخبرته أنه أستشهد في الحرب ثم ليموت بعده أمه وأبيه حزنا عليه . القصة إدانة للحرب من خلال نافذة بسيطة تفتحها القاصة على عائلة عراقية (أبنهم هاجر والآخر استشهد ليموت بعد ذلك الأب والأم ) بمعنى أن هناك عائلة انقرضت والسبب هو الحرب وإفرازاتها .
في القصة الثانية (اثنان في مخيلة) تنقلنا الى مكان آثاري جميل هو المدرسة المستنصرية العباسية في سوق السراي من خلال حلم يقظة كانت تتمنى أن يتحقق ولكن الواقع المتمثل بلسعة بعوضة يوقظها ثم تغمض عينيها لتفتحها من جديد على غرفة شاسعة فيها بياض شديد وفيها رائحة سرير كأنه صبغ للتو بطلاء أبيض … ربما نستطيع القول إن هذه المجموعة تستحق الفوز وبجدارة بمسابقة منتدى المرأة الثقافي ففي القصة الثالثة (الليل بالباب) هناك سريالية عالية (فوق الواقع) في تصوير الأماكن وتصور الأحداث . بل هناك استخدام للرمز بشكل جميل وتوظيف رائع فكلنا يعلم أن الماء رمز الحياة لكنه في القصة يتحول الى رمز الموت عندما يختلط بالدم وهي في الوقت نفسه إدانة للحروب والوقت السيئ التوقيت في طريق هذا البلد الجريح الذي ما أن يخرج من حرب حتى يدخل أخرى . إن الأحداث التي تجري داخل القصة هي وهمية ومثلها الأشياء والأشكال . أما في قصة (طريق مظلم) فهناك استعارة كبيرة في هذه الرواية كونها تتعدى المعنى الواضح الى ما وراء المعنى فتقول على لسان أحد شخوصها :
– الخباز
– حرام . وهو يلم كمية من الطحين تبعثرت على الأرض أثناء وضع كيس الطحين على القبان ، ثم لم تسمع صوته هذه مرة أخرى . عندما سحبت أرغفة الخبز التي قايضت بها الطحين، بعصبية وهي تطالبه بتفسير معقول لهذا النقص الفادح في وزن الرغيف .
نعم أنه الحصار الذي ما فتئ يضرب في هيكل الجسد ليحيله الى بقايا متهرئة ومن بعد يهتك عرضه . والقاصة هنا كانت موفقة في اختيارها للشخوص المتمثلة بالأم وأبنتها . والتي يدور بينهما وكذلك في داخل الأم حوار :
– غولة أمنا الأرض لا تشبع … أنتقل ذلك الخاطر من رأسها الى رأس أبنتها فسألتها فجأة
– ماما … عندما أموت أين أذهب
– قالت الأم :
– الى الجنة … الأطفال يذهبون الى الجنة.
– قالت الابنة
– لا أريد أن أذهب الى الجنة عندما أموت … أريد أن أعود الى البيت
إنها ضربة موفقة وناجحة تحسب للقاصة وهي ترفض تجارة الحكومة عندما بدأ الحصار يقضم أبناء العراق والحكومة تدعي أنهم شهداء يذهبون الى الجنة وتشيعهم بتراتيل جماعية على شكل أسراب من النمل الى حتفهم الأخير وليس مثواهم الذي تقتضيه الحياة والطبيعة .
في القصص الـ(14) لهذه المجموعة والتي هي عبارة عن صفحات من حياة العراق والعراقيين أبان الحرب والحصار وهي في الوقت نفسه إدانات صارخة ومؤلمة تعصف بالضمير الإنساني الحي …فالقارئ ما أن ينتهي من صفحة نازفة بالألم حتى يصل الى صفحة بل فاجعة جديدة لزاوية تجيد القاصة اختيارها ففي قصة (التمام) تنير القاصة صفحة مظلمة من النظام الفاسد آنذاك وهي جهة الوضع الاقتصادي الذي وصل اليه البلد في فترة التسعينيات فتذكر على لسان أحد شخوصها :
– المبلغ الذي معه لو حمل أضعافه الآن لما أستطاع أن يجازف بالصعود الى سيارة الأجرة … فهذه النقود لم تعد تأتي بالرفاهية لأحد حتى وأن تكدست في أكياس من الأزبال .
والقاصة هنا تلمح الى فقدان الأمن بين الناس مثلما تلمح الى انعدام قيمة النقد العراقي كونه (طبع) وليس سويسري كما يقال أو مدعوم في لغة الرأسماليين ليتحول الى ورق في أكياس الزبالة .مثلما تؤشر تدهور العادات والتقاليد وبعض الأخلاق من خلال إدانة بسيطة مفادها وقوف النساء في سيارات الباص بينما الرجال جالسون على المقاعد . وكذلك الى عمليات النصب الكبرى التي أطاحت بالمجتمع وأباحت الربا والفحشاء  عن طريق الشركات الوهمية مثل (سامكو) . أما الإدانة الحقيقية وهنا ينزع كل قارئ قبعته لهذه القاصة احتراما لهذا التصوير المفعم بالإنسانية والألم عندما تصور حياة أحد المعوقين الشباب بطرقة واضحة ومن وقائع الحياة اليومية تقول :
– استدار السائق باتجاه الكراج فأنقذفت الفتاة المحجبة الى داخل المقعد من قوة الاستدارة وعندما استوت في مقعدها … انتبهت الى أن قدم الرجل أصبحت موضوعة فوق قدمها وأن الرجل يواصل تحديقه الى الخارج بلامبالاة وعلى وجهه يبدو التجاهل التام . اعتقدت الفتاة أن أية كلمة تقال في هذا المكان تسبب لها فضيحة . فآثرت سحب قدمها من تحت حذائه ونزلت ثم هز رأسه بضيق وهو يرى أن رجله قد تحركت من مكانها وأصبحت معلقة الى ركبته بدون إحكام … فانحنى على رجله اليمنى وخلعها وبصعوبة أنحنى مرة أخرى ليلتقط عكازاً ممداُ على الأرض بمحاذاة المقعد الذي كان يجلس عليه بنفسه وهكذا باقي القصص فهي بارعة في تشخيص كل الأمراض الحكومية والاجتماعية والنفسية وتسطرها برؤية جميلة وبصورة ذهنية رائعة .
وهل من تصوير أكثر مأساة وألم من هذا التوصيف الدقيق لأجزاء الإنسان وهي تميل أو تقبع فوق أجزاء الإنسان الآخر دون دراية أنها بحق ملحمة من الحزن ولكن على شكل قصة قصيرة .

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

نبوءة فرعون – وسن مرشد

وسن مرشد   توظيف التراث الشعبي وأهميته، قراءة في رواية “نبوءة فرعون”لـ (ميسلون هادي) يعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *