العالم ناقصا واحد دمشق صحيفة تشرين آفاق الثلاثاء 13 أيار 2003 شوقي بغدادي حملت معي عددا من الكتب اهدانيها ادباء عراقيون من الجنسين في زيارتي الاخيرة للعراق قبيل الحرب بأشهر. اتذكرهم الان وانا اعود الى كتبهم اتلمسها كأنني اصافحهم، واقرؤها كمن يصغي الى نغم حزين حميم. اخذت اول مااخذت رواية صغيرة عنوانها «العالم ناقصا واحد» لكاتبة عراقية اسمها ميسلون هادي ـ لم اكن قد سمعت بها من قبل ـ ماكدت اطالع ثلاث صفحات منها حتى صدرت عني آهة لنشوة كهربتني ، فلقد كان السرد الروائي للنص يضوع بنفح غريب غاية في الامتاع كان يتزايد وانا اوغل في الرواية. لم يعد في امكاني تركها مع بساطة حكايتها. كانت تتحدث عن والدين يستقبلان جثة وحيدهما الطيار الذي صرع في الحرب وقد شوهت لدرجة لم يكن معها ثمة وسيلة للتأكد ان الجثة لولدهما « عليّ» الا من خلال بطاقته التي قذفت بعيدا لحظة سقوطه فسلمت من النار. ويدفن الشهيد، وتمر مراسم المأتم والتعزية بطيئة قاتلة.. وشيئا فشيئا ينجم في صدر الوالد شك صغير حول صحة هوية الجثة وانه من الممكن الا تكون لولدهما بل لزميله في الطائرة، وقد يفسر غياب « علي» بانه وقع في الاسر!.. لم يكن ثمة خلاص للوالد من هذا الهاجس المرير الا بالسفر الى اسرة زميل ولدهما كي يسأل عن مصيره وهناك يعرف انه مفقود ايضا وان جثته لم تكتشف ولكن كثيرين يقولون انهم رأوه يقع في الاسر ولكن لم يصل منه او من القيادة اية رسالة تؤكد الخبر، ولهذا فهم مثل ابي علي ينتظرون انتهاء الحرب او اي خبر مفاجىء يعرفون منه ان ابنهما مايزال على قيد الحياة مأسورا.. وهكذا يفهم ابو علي ان بحثه عن ولده لامعنى له مع هذه الاسرة المنكوبة التي تعيش على امل ضئيل ان ابنهما في الاسر وانه عائد اليهما ذات يوم فكيف يجردهما من هذا الامل بقوله انه يشك في ان الجثة المشوهة التي دفنوها ليست لابنه الوحيد بل لابنهما؟!.. بهذه الروح الممزقة يعود ابو علي الى بيته وزوجته التي يكذب عليها بقوله ان زميل «علي» حي يرزق في الاسر حتى لاتتعذب معه بالشك.. بهذا الامل الواهي تنتهي الرواية وقد تحول مغزاها من فاجعة شخصية عادية من فواجع الحروب الى مأساة انسانية اعمق لمعنى الوجود البشري كله حين يفهم الاب اخيرا ان وجود الانسان وعدمه سيان!. انهيت قراءتي، واغلقت ، ورحت انظر الى صورة المؤلفة المنشورة على صفحة الغلاف الاخيرة، هذه المرأة التي تحمل اسم معركة جرت في ميسلون قريبا من دمشق.. من سماها بهذا الاسم الغريب « ميسلون» وهي بغدادية؟!. تذكرتها وانا انظر الى صورتها. كان لقاؤنا في «الكافيه شوب» لفندق ميريديان ـ فلسطين حيث انزلونا في فترة مهرجان المربد في اواخر العام الماضي.. اذكر كانت تجلس مع رفاق ورفيقات لها مثل مهدي عيسى الصقر وذكرى محمد نادر وبديعة امين وثبات نايف سلطان واخرين كما اذكر. فقدموني اليهم، وجلست في مواجهتها، امرأة ذات جمال عراقي واضح في حيطان الخامسة والثلاثين ذات بشرة سمراء غامقة اللون بعض الشيء وملامح وجه بشوش تعكس عيناه السوداوان الواسعتان عالما داخليا متوازنا هادئا. لم نتبادل سوى كلمات قليلة، ولكنها كانت كافيه لاشعر بلطف «ميسلون هادي» الطبيعي وتواضعها الفطري حين اثنى عليها بعضهم، فاكتسى وجهها بابتسامة وادعة لاتعني سوى كلمة شكر صادقة وخاطفة.. انها ـ كما بدت لي ـ من نوع النساء اللواتي لايعنيهن كثيرا ان يمدحن ، او يهجون. انها واثقة من نفسها فقط ولكن دونما غرور. كانت روايتها رائعة من روائع الادب من دون اية مبالغة، وروعتها ليست في حكايتها البسيطة بقدر ماهي في هذا اللهب القدسي الذي كان يشع من صياغتها اللغوية وسردها المكثف المتوتر.. يا الهي.. ماذا تفعلين الان ياميسلون هادي؟. لقد تركت لي عنوانك في العمل في مجلة « الف وباء» الصادرة عن وزارة الثقافة. ولكن وقد طارت الوزارة وتبخرت المجلة فما عساك تعملين الان وكيف اتصل بك لاعبر لك عن اعجابي والبريد بيننا والخطوط الهاتفية قد دمرتها الحرب المجنونة.! كيف ابلغك ياميسلون سلامي واعجابي بأدباء العراق وفنانيه الكبار الذين لم يهاجروا وتحملوا طويلا من دون ان يسمحوا باذلالهم وشراء مواهبهم فتابعوا كتاباتهم المضادة بشجاعة نادرة وطبعوها في الخارج وكان من حظي ان تحتفظي يا «ميسلون » بنسخة من رائعتك « العالم ناقصا واحد» كي تهديني اياها.. ولكن ماذا حدث لك الان وماذا يحدث للعراق كله؟ وهل مايزال للمواهب الكبيرة الكثيرة مكان فيه ؟!.. ان اخباركم مع الاحتلال الامريكي تنذر بويلات اشد هولا من القصف الصاروخي!.. هاهو ذا العالم يكاد ينقص بلدا واحدا هو العراق!.. ولكن لا.. ان ثقتي بكم كبيرة عريقة ولن اتخلى عنها مهما كانت اخباركم سيئة.. ان العالم لايساوي شيئا حين ينقصه بلد مثل العراق!..