شاي العروس لميسلون هادي تعيد معجزات الزمن الآفل لماذا يقف الأعمي أمام المرآة؟ سهيلة داود سلمان جريدة الزمان 1/2012 – Date 10- لم يَسبق أن سمعنا بأعمي يستعيد بصره فجأة بعد عشرين عاماً، إنها معجزة حدثت لبطل ميسلون هادي في روايتها (شاي العروس) التي صدرت عن دار الشروق في عمان. إسمه (محمود)، فقد بصَره حين كان طفلا ً في السادسة من عمره علي أثر سقوطه من سطح الدار بينما كان يطارد طاووساً كان أبوه قد أتي به من إسطنبول في إحدي سفراته. حكاية هذا الطفل وهو أعمي حتي أستعاد بصره بعد عشرين عاماً لا نعرف عنها الكثير ولا عن سيرة حياته. ماتتْ أمُه حين كان طفلا ً فكفلته عمته، ولكن ليس في بيتها لأن أباه رفض أن ينتقل عندها. فكانت تأتيه كل يوم، تحمل له الطعام وتشرف علي تربيته، تعلمه الكثير عن الحياة، تجلب له الكتب منذ كان طفلاً وحتي صار شاباً وتقرأها له، حتي طريقة (بريل) علمته كيف يقرأ بواسطتها حتي كبرَ. أخذه أبوهُ علي الكثير من الأطباء، عرضه عليهم دون أي ِ فائدة. وأخيراً قالوا له: ما دام قد فقد بصره هكذا فجأة فقد يستعيده يوماً ما فجأةً أيضاً. نعرف أنه أنهي الإبتدائية والثانوية ودخل ايضاً إلي معهد لتعليم الموسيقي، نعرف ذلك عرضاً، ونجهل كيف أنهي المرحلتين وهو طفلُ أعمي، ونحن نعرف كيف أن الأطفال قساة القلوب لا يراعون زملاءَهم من الأطفال المعاقين.. ثم يدخل الثانوية ويتخرج ولا ندري أيضاً كيف قضاها. ثم تأتي مرحلة الجامعة، والجامعة مرحلة مهمة في تاريخ الطلبة بعد الثانوية.. هي مجتمع بحالهِ وفترة تحَوُل في حياة الطالب العادي ونضوجه النفسي والذهني.. حيث الطلبة والطالبات والأساتذة.. شيء يختلف تماما ً عن المرحلة الثانوية.. فكيف إن كان الطالب أعمي؟؟ تعيدني ميسلون الآن عقوداً إلي الوراء رغماً عني. ومصادفةً قبلها بأيام قلائل فعلتْ الشيءَ نفسه معي الصديقة الشاعرة (ميَ مظفر) وأنا أقرأ كلمتها الجميلة في رثاء استاذنا وعميد كليتنا (الآداب) الدكتور عبدالعزيز الدوري.. كان معنا في القسم طالبٌ كفيفٌ أو كان ضعيف البصر جداً، لا أذكر.. كان أسمه محيي الدين، وندعوه نحن زملاؤه (محيي) إختصاراً أو تحبباً ربما، لأنه كان إنساناً رائعاً بصوته الخفيض وأخلاقه العالية وتهذيبه، كان ملاكاً بحق.. كنا أحياناً نبدّل القاعةَ التي خُصصت لقسمنا إذا ما أضطررنا لحضور محاضرة أخري تجمعنا بقسم ٍ آخر. وكانت المحاضرة في التاريخ والمحاضر الدكتور عبدالعزير الدوري.. والدوري كان يختلف عن كل زملائه الأساتذة، إذ كانت محاضراته ممتعة. كان يرتجل موضوعه إرتجالا ً، لا يمسك بيده كتاباً ولا ورقة، وإذا أراد أن يستشهد بمصدر ٍ ما يذكر ُ أسم المصدر ورقم الصفحة ما يثيرُ دهشتنا.. دخلتُ القاعةَ علي عجلٍ وجلست علي أول مقعدٍ رأيته شاغراً، وإذا علي يميني يجلس زميلنا محيي الدين، سلمت عليه هامسة وجلست علي عجل. وقبل أن يبدأ الدكتور الدوري الكلام فتحت حقيبتي التي كانت أمامي لأخرج منها دفتر ملاحظاتي.. وإذا بزميلي محيي يهمس: شكراً لكِ. وقبل أن أسأله شكراً عن ماذا؟ أردف: عِطركِ صحَاني، كنت أشعر بالخمول وعلي وشك أن أغفو. إستغربت.. أي عطر؟ همست بدوري، أنا لم أضع عطرا ً! همسَ : لستِ أنتِ، حقيبتك وأنت تفتحينها. فتذكرت حينها أني قبل أُسبوعين أو أكثر كنت أضع مع كتبي في الحقيبة شطيرة إعتدت أن أضعها حيث يصادف أن تكون إحدي المحاظرات بعد الظهر.. لكن في ذلك اليوم أهملتُها حتي تذكرت في اليوم التالي وأنا في البيت فقمت بتنظيف الحقيبة من رائحة الطعام ورششت داخلها بماء الكولونيا رشة خفيفة ثم تركتها في الشمس.. وأنا لم أحس أبداً برائحة العطر، فكيف أحسَ محيي بها؟! أعود إلي محمود بعد عشرين عاماً : ذات فجر بينما هو يتوضأ إستعداداً لصلاة الفجر وبعد أن إنتهي من غسل وجهه ويديه، وكان واقفاً أمام المرآة دون أن يراها، مرت أمام عينيه نقطةٌ سوداءَ تسيرُ علي سطح ٍ أبيض وتتحرك قليلاً ثم تتوقف. فظن في البداية أن نوراً ساطعاً دخل الحمام من النافذة لأنه إستطاع أن يشعر بالضوء القوي. رفع رأسه إلي الأعلي فرأي المرآة التي كان يقف أمامها كل يوم دون أن يراها، وتساءل: هل هذا الوجه الذي أراه هو وجهي، أمعقول أنني أري؟؟ (ص10). وتأكدَ أنه يري، فعاد إلي فراشه وظل ممداً لا يتحرك خوفاً علي عينيه من الأذي. ثم عاد إلي المرآة فرأي الوجه الجميل الذي رآه قبل قليل، وعرف أنه جميلٌ.. يسمعُ صوتَ خطواتٍ، وعمته تنادي عليه ويراها ( هي ذي المرأة ذات الصوت الواطيء والرائحة الزكية التي لا يعرف أمرأة سواها؟؟ هي ذي المرأة الحنون التي لولاها ما تعلم شيئاً خارج عمَاه؟؟ هي التي تأتيهِ بالطعام والكتب وتقصُ عليه الحكايات لعشرين عاماً؟؟). ويقرر أن لا يخبرها الآن.. ومن صوت الإنفجار الذي حدث، ومن صوت المروحيات العسكرية التي تحوم في السماء نعرف أن الأحداث تجري في زمن الحرب. غيرَ عمته يذكرُ آخرين أثروا في حياته: الشيخ عبدالرحمن ( شيخي أملـَي عليّ حب الإيمان) وصديقي عصام (أملـَي عليّ حبّ الشكوك ) وإستاذي (ألبير) الذي أملي علي حب الموسيقي، وأبي أملـَي عليّ حب الشهوات) عاطفياً نعرف أنه يميل إلي بنت جارهم (هند) دون أن يراها، لكنه يكلمها وهي كذلك تميل إليه. يكتب لها الأشعار.. لكنه يُصدَم حين يكتشف أن أباه له علاقة بأمها، يعرف ذلك بعد أن يبصر. أمها طرقت الباب تسألُ عن أبيه ثم تحرشت به وبعد أن أبصر أعادت التحرش وعرف أنها أمُ هند، فصُدم وقطع علاقته بها كما يبدو، لأن أخباره معها إنقطعت في الرواية. ويبقي صديقه (عصام) هو الأهم في حياته، وانتمي معه إلي فرقة إنشاد، ونعرف أن أستاذه (ألبير) الذي كان يدرسه الموسيقي في معهد المكفوفين (ولم نعرف التفاصيل). لكن أهم شيء في حياته ولعهُ بالكتب، هذا الولع الذي أوصله إلي أبي العلاء المعري.. الذي وجده يشبههُ في عمَاهُ وفي غربته وفي شكه.. والرواية فيها الكثير من أشعار المعري التي يحفظها ويتأثر بها.. ومنها ثلاثة كتبت مبتورة بسبب خطا مطبعي كما اظن وأرجو أن تسمحَ لي بكتابتها كما هي، لأني أجدها من أجمل ما قال أبو العلاء من شعر، إذ تجعلني أحسُّ برنين الأجراس تمتزج بـ(حيَّ علي الصلاة): في اللاذقية ضـجةٌ ما بين أحمــدَ والمسيــــــح ِ هـذا بناقوس ٍ يــدقُ وذا بمئذنـــــــةٍ تصيـــــــحُ كلٌ يعززُ دينـــــهُ يا ليت شعري ما الصحيحُ وهذه الأبيات إن دلّت علي شيءٍ فتدل علي ما كان عليه شعب بلاد الشام من محبة وتعايش جميل في ما بينهم، ولا ننس أن أبا العلاء المعري عاش في القرن الحادي عشر الميلادي، ونحن الآن في القرن الواحد والعشرين. وأبيات المعري الشكُ واضحٌ فيها، فلم يُكـَفـِرُه أحد ولم يتهمه بالزندقة. وتسوء الأحوال في بغداد، ويحدث ما يؤثر كثيراً في محمود، شيخه عبدالرحمن الذي يُعزُه كثيراً، يعتقل الأمريكان أحد أولاده، وحين يخرج من السجن يفجر نفسه قرب (مطعم الغربال) مؤكد أن ميسلون تعرف هذا المطعم؟ فيدفع أولاده الباقين إلي السفر وينتقل هو إلي دار المسنين ويعيش حياته وحيداً حتي وفاته.. فيذهب محمود إلي قبره يبكي ويحدثه. ويجد أبوه قدمَ ساق ٍ مبتورة ٍ في حديقتهم نتيجة إنفجار ويدفنها الأب تحت شجرة زيتون، ويذهب محمود ليزور معلمه (ألبير) الذي درسه الموسيقي، فيقولون له إنه سافر. ويحدث هناك قرب الدير إنفجار يُقتل فيه طفل وسائق سيارة كان قد جاء معه. صديقه عصام صمم علي السفر (الهجرة) وذهب إلي الأردن، وعن طريق الأمم المتحدة حصل بعد شهورٍ علي الهجرة إلي أمريكا. ومن هناك صار يكتب الرسائل إلي محمود ويحثه علي الإلتحاق به: ( تعال إذا لم يكن من أجلك فمن أجلي، كنا إثنين وسنبقي كذلك) ويوصيه أن لا ينسي التقارير الطبية حول إستعادة بصره (ستفيدك هذه التقارير في الهجرة) ومن ناحية أبيه وعمته هما أيضا ًيشجعانه علي السفر. ونُفاجأُ بمحمود قبل بزوع الشمس يستيقظ فإذا به في مكان لم يعرف أين هو ويتساءل (أين أنا؟ أين أنا؟ أين أنا؟) ونعرف أنه موجود في شقة تحيط بها حديقة يراها لأول مرة.. ويكشف عن ممرات تدب عليها أقدام رجال ونسوة يسيرون بثبات إلي أمام ورؤوسهم مرفوعة إلي الأعلي وهم يمشون (ص154). ثم نعرف أنه في مدينة بورتسموث التي خصصت لهجرته. كان نائماً بملابس الخروج وفي جيب قميصه تلك البطاقة الصغيرة التي تتبقي في اليد قبل الصعود الأخير إلي الطائرة، ويتذكر أنه صعد إلي الطائرة من نيويورك ليسافر إلي بورتسموث محطته الأخيرة، ثم فجأة أنزلوه من الطائرة وقرروا نقله بالحافلة ولا يعرف السبب. والآن هو في هذه الشقة سيعيش، صار يرسم وكثرتْ لوحاته التي تعبر عمّا كان قد رآه من فظائع التفجيرات. ووجد عملاً تدريس أولاد المغتربين العرب اللغة العربية، وصار يكتب لعمته الرسائل، وتهاتفه هي من بغداد، ثم يأتيه خبر بان عمته ماتت في إنفجار، ويدعوه معلمه ألبير إلي حفلة. أما عصام صديقه فهو دائماً يتصل به ويشجعه علي الرسم ويعده أن يرسل له شرائط من فرجينيا ولم تصل فيسأله عصام هل أنت متأكد من العنوان، فأراد أن يتأكد فأرسل لنفسه رسالة وضع فيها منديلاً ورقياً وطلب من بواب العمارة أن يكتب العنوان. ذات يوم ليلاً رن جرس الباب فظنه عصام وتوجه نحو الباب وسأل: ــ من ؟ فأجابه الطارق: ــ بوليس، إفتح الباب. وبدأوا معه التحقيق، أَخرجوا له ظرفاً وسألوه. ــ مَن أرسل تلك الرسالة؟ ــ أنا. ــ لماذا أرسلت لنفسك رسالة؟ ــ كنتُ أريدُ التأكدَ من العنوان لأن صديقي أرسل لي طرداً لم يصل. بعد يومين إستدعوه ثانية. وبدأوا معه تحقيقاً آخر. ومن التحقيق إستطاع أن يعرف لماذا أنزلوه من الطائرة، لأن إسمه يشابه إسم أحد الإرهابيين، وفي الحافلة كان قد غفا وحلم حُلماً مزعجاً فصرخ.. وسألوه لماذا صرخت؟؟ وتنتهي حكايته بإحالته إلي عيادة نفسية وصار يجلس كل يوم أمام طبيبة أسمها (ربيكا) تطلب إليه أن يناديها بإسمها، وأصبح بالنسبة إليهم مريضا ً نفسياً وألتزم الصمت، تسأله فلا يجيب علي الأسئلة. ثلاث زيارات مرت عليه وهو صامت لا يقول شيئاً، أضافوا إليها عشرُ زياراتٍ أخري وهو صامت. وتقول له (ربيكا) : ليست إجابة صحيحة أو خاطئة فقط أخبرني بما تري! (رأي الوجوه المتعبة والبيوت الرثة في بلاده وهو الآن يري الوجوه النضرة والبيوت الجميلة في هذه البلاد). وتسأله: ــ لا توجد إجابة صحيحة أو خاطئة، فقط أخبرني بما تري! ــ أري قمراً وأري بئراً. وهكذا تنتهي الرواية.. كلمة أخيرةكان بودي إن يكون العنوان غير ما هو عليه فالرواية ملحمة تحمل الكثير من الأحداث، والعنوان (شاي العروس) لا يناسبها. بودي لو كان العنوان مباشراً من مثل (عندما إستعادَ محمودٌ بصَرَه). كلمة أخري لمخرجينا العراقيين، أخصُ منهم الشباب أن ينتبهوا لهذه الرواية لأنها تستحقُ أن تكون مسلسلاً،او فلما علي الرغم من معرفتي بأن دور السينما في بغداد تحولت إلي وُرش لتصليح السياراتِ مع الأسف. / |
شاهد أيضاً
نبوءة فرعون – وسن مرشد
وسن مرشد توظيف التراث الشعبي وأهميته، قراءة في رواية “نبوءة فرعون”لـ (ميسلون هادي) يعد …