شاي العروس – حمدي مخلف الحديثي

عند “شاي عروس” (ميسلون هادي)

منذ ما يقارب عقدين من الزمن خرجت الكاتبة العراقية من الصف الثاني في الأدب العراقي المعاصر، بل أصبحت تزاحم الرجل (الأديب) في الموقع الأول، لاسيما في كتابة الرواية المعاصرة، وأعتقد أن ولوج الكثير من القاصات العراقيات هذا العالم الساحر يعود إلى أن أغلبهن الآن يعشن خارج القطر واطلاعهن على الرواية النسائية العربية وكيف حصلن تلك الروائيات على مواقع متقدمة من الرواية العربية… وإذا كان هذا هو السبب الأول. ومن الروائيات اللاتي بدأن بكتابة القصة القصيرة هدية حسين وميسلون هادي، إلى جانب ما قدمته القاصة الروائية المبدعة لطفية الدليمي، ولا ننسى هناك روائيات من اللاتي يعشن في الخارج أمثال بتول الخضيري وهناك غيرها أيضاً. ومع هذا ما يزال عود الرواية النسائية العراقية طرياً وبحاجة إلى سماء وماء ومن أجل تنشيط شجرة هذا اللون الأدبي وتثبيت الجذور في أرض خصبة بعيدة عن الملوحة والأشواك.. وأقول لماذا عزوف النقد العراقي عن الرواية النسائية واللجوء دوماً إلى رواية الرجل؟ هل أن الروائي من يهيئ الموالد الليلية وتدليك اكتاف الناقد، والجرأة الروائية خجولة تقف أمامها حواجز اجتماعية وأعراف وتقاليد؟ أو نحن هنا لا نريد مناقشة هذه النقطة التي تعد مهمة بالنسبة للرواية العراقية رغم أنني لا أفضل الفصل بين هذا الأب.. إنما ما أود طرحه الآن هو الدخول من باب إلى رواية المبدعة ميسلون هادي (شاي العروس) الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع/ عمان عام 2010. وصلتني نسخة من رواية (شاي العروس) من مؤلفتها في بداية شهر نيسان من هذا العام. ووضعتها لأيام في رف من رفوف المكتبة بسبب وضعي الصحي آنذاك الذي ألمَّ بيِّ جراء مرض السكري وضعف عضلات القلب، لكنني سحبتها من مكانها بعد أسابيع وبدأت بالقراءة على مهل خصوصاً عندما كنت قد قرأت روايتها (نبوءة فرعون) في عام 2009 ومع الأسف أعطاني نسخة تلك الرواية لم يعطني فرصة للكتابة عنها كون تلك الرواية تستحق الوقوف ملياً ولا يمكن للنقد التقاضي عنها، وإذا حصلت في يوم ما على نسخة من نبوءة فرعون. حتماً ستجد الملاحظات منها على الورق… فمعذرة للرواية قبل الروائية. كثيراً ما يجد الأدباء صعوبة في اختيار عناوين مجاميع قصصهم ورواياتهم، بحيث هذه الصعوبة تدفع بعض الكتاب إلى أخذ عبارة من النص، أو عنوان بعيد جداً عن النص. وميسلون هادي اختارت هذا العنوان بدقة وبشوق، (فشاي العروس) بعيداً كل البعد عن النص ما عدا ما ذكرته في صفحة (140) حيث نجد من حوار:

  • “الدنيا صايرة حمرة وبيضة مثل شاي العروس”.

فهل يا ترى شاي العروس بهذا اللون.

فلماذا لم يكن من الشاي الأخضر أو الأسود الذي نعرفه؟

إنه شاي من خلال خيال الروائية الذي دفعنا إلى الوقوف عنده.. ربما سنجد في يوم ما في الأسواق المحلية شاياً خاصاً بالعرسان!

اتلمهم تكونت الرواية من (25) بعناوين تشدنا تارة إلى محتواها وتارة أخرى تدفعنا إلى البحث عن معنى تلك العناوين، وهذه العناوين التي أخذت مكانة في كل فصل دون أن تذكر كلمة فعل../ حيث نجد/ الباب والنافذة/ السمع والبصر/ الوجه والمرأة/ الطير والشجر/ الأصل والصورة/ الوجود والعدم/ الملاك والإنسان/ النار والدخان/ الذكر والأنثى/ الشيخ والتلميذ/ المرأة والرجل/ الحي والميت/ السؤال والجواب/ الزمان والمكان/ الماء والطين/ البيت والمتاهة/ الطوق والحزام/ الشك واليقين/ الحلم والحقيقة/ النار والحجر/ الليل والنهار/ الورد والبشر/ الحزن والمسرة/ الجنة والنار/ السماوات والأرض”.

أسماء فيها الكثير من اللون الأسود، بمعنى الضد.. أو العكس/ وقد تكونت موازنة ما بين السلب والايجاب، مثل الحي والميت، النار والجنة/ الزمان والمكان النار والدخان وغيرها.

لذا نقول هل وجدنا التناقض ما بين السلب والايجاب ضمن كل فصل من تلك الفصول، وهل عالجت الروائية هذا من خلال آراءها؟.

لقد عالجت وقامت بما هو صحيح، ونجحت في ربط مسار احداث الرواية بحيث أننا نجد الخلل البنائي الذي وقع الكثير من الروائيين فيه في حالة كتابة الرواية بشكل فصول…

لا أحد يمكنه الابتعاد عن التحضيرات الأولية من جمع معلومات وتخطيط الشخوص والأماكن والأزمنة في كتابة الرواية، رغم أن البعض يقف ضد هذا الرأي ويقول بالإمكان كتابة رواية والبدء فيها بمدخل بسيط وبعد ذلك تأخذ الأحداث مجراها وتتحرك الشخوص وفق حالات الواقع النفسي للروائي، أو ضمن اطار الجو الذي يكتب فيه.. وإذا كان هذا القول منتشر يكون بشكل مفسد للعمل الروائي الذي حتماً سيقع صاحبه بالكثير من المطبات.. وإذا كانت مرحلة التنقيح بعد كتابة المسودة هي مرحلة النضج يكون الروائي الذي سلك سلوك التخطيط المبرمج قد نجح في عمله.. وميسلون هادي. حتماً من النوع الأول الذي خطط وجمع المعلومات ورسم الشكل البياني الصحيح للزمان والمكان وحالات الشخوص اليومية.. وفعلاً هذا موجود في عملها (شاي العروس) الذي اعطاها الكثير من لذات الكتابة والفرح بالنجاح بعد كتابة أخر جملة من عملها. اهتمت الروائية ميسلون هادي ببناء النص، أهمية خاصة ليتماشى مع تعقيدات الموضوع وشخوصه، خصوصاً الشخصية الأولى “الأعمى”. حاولت الروائية سرد فصولها من خلال الروائي تارة وتارة أخرى من خلال شخوص أخرى في أمثال العمّة الذي كان سردها مؤلماً خصوصاً من الحوارات القصيرة.. وهذا يحسب للروائية ايجابياً كونها خطت خطوة نحو تجريب غير مرئي للوهلة الأولى للقارئ…

كما أنها شخصت العلاقة ما بين الأب والابن الذي فقد بصره وهو في سن السادسة كما فقد ولائه وعاش بين ذراعي العمة التي أعطته الحب والحنان.

الأب المزواج/ العاشق، والابن المتألم لما يراه من أعمال والده بعد عودة البصر إليه..

  1.  الموضوع يطرح لأول مرة في الرواية العراقية بهذا الشكل.. وهذا التحليل النفسي والاجتماعي للشخوص الشخصية الأولى يتألم بسبب فقدان البصر، وتأتي العمة الشخصية الثانية توضح كل الأمور لأبن شقيقها وتدفعه إلى التمسك بالحياة وتعطيه مثالاً لهذا (طه حسين) كيف، هو فاقد البصر ويعيش بين أخوانه وأهله ولكنه أصبح عميد الأدب العربي ثم تفتح العمة عوالم كتبها الفلسفية والروائية لابن شقيقها وتقرأ له…
  2.  وجاء السرد على لسان الضمير الحاضر مع حوارات حملت أصوات الشخصيات الرئيسية والثانوية ليعطي وضعاً أفقياً له..
  3. أعطت الرواية درساً مهماً للتحليل النفسي لشخصية شاب فقد بصره وهو طفل ويُعاد إليه البصر ويتحسس الفرق بين ما كان يحسه وهو أعمى وبين ما أحسه بعد عودة البصر.. وتمنى لو بقى أعمى من أجل أن لا تنكشف له الكثير من حقائق والده..
  4.  ومهما يكن مما قلناه على عجالة بهذه الرواية فإن الرواية تقدم للقارئ نصاً مملوء بالمتعة والتحليل ملتقطاً شخوصاً من الحياة اليومية العابرة، شخوصاً منسية لكنها مهمة في المجتمع.            

ثالثاً: المبدعة صانعة الأحلام الكبيرة في فضائها الاجتماعي والإنساني:

يمكنني القول بثقة الآن، إنَّ المبدعة العراقية (ميسلون هادي) تقف في طليعة القاصات العربيات لمجموعة عوامل طرحناها في كتابنا عنها: ((ميسلون هادي وأد عصر المحنة)) الصادر عن دار الشروق الأردنية عام 2004، وقصة (إلتمام) هي من بين قصصها القصيرة المهمة التي توقفت عندها طويلاً. نشرتها أول مرة في مجلة (الأقلام) عام 1995 ثم ضمتها إلى مجموعتها القصصية (لا تنظر إلى الساعة) التي صدرت عن دار الشؤون الثقافية ببغداد عام 1999.

يحيلك العنوان (إلتمام) إلى الفعل –التم- التم بالقوم: زارهم فنزل بهم أو زارهم زيارة غير طويلة وهو صحيح لوصف رحلة قصيرة في حافلة ولكن ما يهمنا هنا هو الواقع النفسي للمفردة (إلتمام) التي توحي بدرجة من الانسحاب الداخلي والابتعاد الجزئي عن المحيط والآخرين وهي مفردة محايدة لا تتضمن حالات نفسية سلبية أو إيجابية –حالة محايدة مع الذات.. هذا ما سنراه بوضوح في قصتنا هذه التي يكون بطلها كما تقول القاصة ((الرجل الذي يجلس خلف السائق مباشرة ويرتدي قمصلة خاكية من النوع الذي يرتديه مدنيون كانوا جنوداً ذات يوم.. وهو أيضاً بطل هذه القصة وإليه فقط سنشير بكلمة الرجل دون توصيف آخر خلافاً لشخصيات القصة الأخرى من الرجال والنساء..)) فنفهم إنَّ هذا الرجل موجود وسط تجمع بشري فهي –أي الشخصيات- تحتاج إلى توصيف وعليه فهم عاديون لا شيء يميزهم.. والرجل يرتدي (قمصلة خاكية من النوع الذي يرتديه مدنيون كانوا جنوداً ذات يوم..) وهو وصف (قد) يفتح لنا مساراً نحو الحرب وذكرياتها وماذا أبقت لهذا الرجل.. والرجل – الرجل يجلس خلف السائق بتخطيط القاصة ورؤيتها وهو موقع يحتمل أن نفهم منه قدرة الرجل على أن يكون بديلاً في أي وقت لقيادة هذا التجمع السائب أو أن نفهم منه غبناً لهذا الرجل- الرجل بعد أن شارك في الحرب ذات يوم.

  • فوضى اجتماعية:

ومسرح القصة هي الحافلة المكتظة بالبشر كرمز لفوضى اجتماعية غير محددة يقودها سائق فظ مزاجي كما تشير القاصة والرجل –بطل القصة هو مقاتل قديم سنرى أن الحرب لم تترك له فقط القمصلة الخاكية كذكرى بل تركت له تذكاراً آخر رهيب. هذا المقاتل القديم تلاحقه خيالات الحرب وآثارها حتى وهو وسط زحام البشر وفوضاهم في الحافلة المكتظة: ((رأى قطة قرب الملجأ فاستغرب وجودها في هذا المكان الشاق من الحاجات الامامية. ثم عندما استفاق من حلمه كانت دعائم المقعد لا تزال تموء بصوت معدني مانع..)) وقد تأكد في بحوث علم النفس أن ذكريات الحرب العالمية الثانية المرضية والمؤلمة لاحقت مقاتلي هذه الحرب في حياتهم حتى عام 1986 أي بعد اربعين عاماً من نهايتها وبعضها في ما يشبه الارتباط الشرطي (البافلوفي) كما هو حال بطل قصتنا هذه… فمواء دعائم المعد المائع في الحافلة اعاده إلى ذكرى من ذكريات الحرب تتمثل برؤية قطة قرب ملجأ وهي حالة عجيبة لكنها حلمية – ولا تخلو قصة من قصص هذه القاصة من حلم يقظة أو حلم حقيقي أو أن تكون القصة كلها حالة حلمية – ثم تقدم لنا القاصة كعادتها لمسات وضربات نفسية متناثرة هنا وهناك عن شخصية بطل القصة – الرجل وخصاله تكتمل بلمسات مقابلة عن شخوص القصة الآخرين وتحتكم القاصة – في أغلب قصصها- الى ذكاء القارئ الذي عليه أن يجمع هذه اللمسات السريعة والمركزة ليكون منها صورة الحدث النهائية وهذه واحدة من مزايا فن القص الحديث..

فقد يتصور احدنا من خلال قراءة سريعة لهذه القصة أن الحديث الشخوص الثانوية كالفتاة التي تخجل حين تحاول اختراق صفوف الركاب والفتى والمحامي اللذين لا ينزلهما السائق المزاجي في المكان المحدد.. و… و.. و.. و…

قد يتصور القارئ ذلك حشواً لكن القراءة العميقة المتأنية توضح لنا أي جهد بذل في صياغة وتوقيت هذه التفصيلات في قصة قصيرة من صفحتين وأية قدرة مدهشة على تحريك الشخوص على مسرح القصة باخراج متقن. واعود للقول أن هذا يشبه لعبة الصور المقطعة التي يلعبها الأطفال لربط أجزاء الصورة المتناثرة حيث نصل بالترتيب في البداية إلى الصورة النهائية التي يصبح لكل قطعة لا معنى لها وهي مستقلة معنى أساسياً ضمن الصورة الكلية فالسائق المزاجي المستهتر لم ينزل الفتى والمحامي والفتاة في المكان المحدد لنزولهم وهم ((يغدقون الشتائم على السائق)) واستخدام الفعل -أغدق- لوصل الشتائم هو استخدام غريب من الناحية النفسية ومفاجئ ولكنه ليس غريباً على اسلوب القاصة الهادئ الحالم المصاغ بمفردات وجمل واطئة الشدة.. في حين نرى أن هاجس الرجل- الرجل هي كيفية ايصال حقيبة النقود في الموعد المحدد لانقاذ مريضة باجراء عملية.. وفي الوقت الذي لا يحترم فيه السائق مشاعر الناس يفكر الرجل بالمرأة العجوز وكيف ستوبخه لو تأخر.

  • يوميات وشخصيات:

وفي حين يستجيب السائق لفتاة ذات صوت نسائي ناعم ويوقف الحافلة بجنون وتصيح امرأة واقفة موبخة الرجال: لا يقومون للنساء.. عمت عينهم. يفسح الرجال مجالاً مبالغاً به للفتاة المحجبة التي جلست بجواره.. وبينما يتحدث الركاب (سامكو) والفلوس والتفاصيل اليومية التافهة يفكر الرجل ان المبلغ الذي دفعه لو حول اضعافه الآن لما استطاع أن يجازف بالصعود إلى سيارة أجرة..

وهذه النقود لم تعد تأتي بالرفاهية لأحد حتى وان تكدست في اكياس الأزبال: لقد كان يحمل روحه على كفيه وقت الحرب فما قيمة المال وبعيداً عن المناقشات اليومية المتصاعدة في الحافلة يتذكر الرجل أنه حلم –وهذا أيها القارئ حلم آخر- ذات يوم بأخيه الميت يصعد إلى غرفته في الطابق العلوي ثم يخرج إلى الشرفة ويقول: سأقفز كان سعيداً برؤية أخيه وكأنه يراه عائداً إلى الحياة بصدق وعندما استفاق من النوم استغرق الأمر عدّة لحظات ليتمكن من التمييز بين اليقظة والحلم الذي رآه قبل قليل.. وعلى العكس من قصة الغياب العاطفي فإن إنسان الحرب العظيم هذا ينهض من تحت الرماد والخراب..

إنَّ طرح أشياء معقدة بكلمات سهلة هو شيء صعب جداً كما يقول (همنغواي) وهو سر الإبداع المقتدر فالتوتر الداخلي للقصة يتصاعد بهدوء وبساطة نحو لحظة التنوير النهائية التي ستثبت لنا فيها القاصة أن بطلنا – الرجل- الملتم على نفسه والمنسحب بما يشبه الاغتراب وسط فوضى الحافلة –المجتمع المصغر هو انسان الحرب العظيم.. ((انتبهت الفتاة المحجبة إلى قدم الرجل أصبحت موضوعة فوق قدمها وأن الرجل يواصل تحديقه إلى الخارج بلا مبالاة وعلى وجهه يبدو التجاهل التام لما يحدث.. اخترقها الخجل وراح قلبها يرتجف بعنف وضاقت من الالتفات الى الرجل والنظر اليه بغضب كما لم تجرؤ على فتح فمها لتطلب منه رفع قدمه عن قدمها… اعتقدت الفتاة المحجبة أن أية كلمة تقال في هذا المكان قد تسبب لها فضيحة.. فأثرت سحب قدمها من تحت حذائه وهي تشعر أن قلبها ينخلع من صدرها من شدة الخوف.. ظل الرجل سادراً في استغراقه. فرك عينيه.. الملامسة التي حدثت قبل قليل جعلت الفتاة المحجبة تتأهب للنزول.. وعندما سقطت أوراقها الملفوفة على حقيبة الرجل لم تنتبه إلى ما حدث خلفها.

وهرعت تتلقف الباب بيدها.. التقط الرجل اسطوانة الأوراق وطلب من أحد النازلين اللحاق بالفتاة.. انحنى على رجله اليمنى  وخلعها ووضعها فوق المقعد الذي كانت تجلس عليه المحجبة بعد أن تمكن من الوقوف بصعوبة انحنى مرة أخرى ليلتقط عكازاً ممداً على الأرض بمحاذاة المقعد نفسه الذي كان يجلس عليه. نظر السائق إليه بشيء من التفهم ثم قال: ها.. هل تحتاج إلى مساعدة؟ فقال الرجل.. كلا فأنا مستعجل.. ثم وضع رجله تحت أبطه وهبط من الحافلة.. وكان أخر من فعل ذلك.. وهنا نعلم لماذا وصفت القاصة بطل قصتها بانه الرجل الوحيد في القصة.. إنه الأول في تضحيته ورجولته ولكنه أخر من يترك الحافلة..

إنه الأول في شهامته ولكن يساء فهم ما آل إليه حاله من قبل أكثر جوانب المجتمع توازناً –الفتاة المحجبة- ولكن الأهم في هذا كله هو أنه (ملتم) على ذاته بمعنى الاكتفاء.. إنه منسحب إلى الداخل النقي العظيم.. يفكك ويركب أجزاء جسده من دون حاجة لمساعدة أحد… اليس من حق القاصة أن تقول عن بطل قصتها هذا بأنه الوحيد الذي ستشير إليه.. وإليه فقط بكلمة (الرجل).

رابعاً: ظاهرة الغياب في النص الإبداعي:

في سطوة (رجولية) على مساحة السرد العراقي، تنحسر الأصوات القصصية النسائية، وبرغم وجود أصوات نسائية عالية في هذا النشاط الإبداعي، إلا أن الاشارة تكتسب لونها بمقارنة (الكم والنوع والتواصل) .. في السطوة والانحسار بين (الجنسين)، ولا نريد هنا أن نشير الى أسباب هذه الظاهرة بالقدر الذي نمسك فيه بذاكرة القول فقط، غير أن (الواقع) العراقي بتفاصيله المتشعبة يفرض السبب الأول وضمن هذا الواقع طالعتنا القاصة والروائية العراقية المبدعة (ميسلون هادي) ومنذ الثمانينات من القرن الماضي، بوجه يرتدي السرد قناعاً ووضوحاً في كشف وتعتيم الواقع وضمن قناعات أملتها زئبقية التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في هذا الواقع الذي أزاح ثقله بقوة ليستقر في النتيجة في الذاكرة الإبداعية.

و (ميسلون هادي) وقفت في القلب منه، تشخص، تتأمل، تشير، تدين، وتوثق إبداعياً.. (أشياء لم تحدث، الشخص الثالث، رومانس، يواقيت الأرض، العيون السود، العالم ناقصاً واحد، رجل خلف الباب، لا تنظر إلى الساعة.. الخ…). إنَّ ظاهرة (الغياب) التي تلفح مسمياتها وتمنحها (بعداً تعجيبياً).. يشكل دالة تفضي الى مدلولات متوازية ومتقاطعة في الوقت ذاته حيث:

  • الأشياء………….  لم تحدث.
  • رجل …………..  خلف الباب
  • العالم……………  ناقصاً واحد.
  • لا تنظر…………  إلى الساعة.
  • الشخص………..  الثالث.
  • الواقع………….   رومانس.
  • العيون………….  السود
  • يواقيت…………. الأرض.

وهكذا فإن (الأشياء) التي حددتها واقعاً.. لم تحدث، والرجل – خلف الباب- لم يزل غير مرئي، والعالم ناقصاً واحد، والنظر لم يكن إلى الساعة، والشخص هو الثالث، أما الواقع فإنه رومانس واليواقيت في الأرض، والعيون السود غائبة برغم شيوع هذا اللون..

إنَّ مسميات القاصة، هذه، تعكس قوة روحية في البحث عن (الذي لم يجيء) من أجل عالم انقى وحياة أبقى، وتضع الحدود الفاصلة بين الواقع وواقعها القصصي والروائي ومن هنا فإن للقاصة ذاكرة مخيالة في تغييب الواقع من الذاكرة وإلى الذاكرة وتجعل السرد هو الناطق الرسمي في التصريح بدءاً من المسميات والاستهلالات وصولاً إلى المتن المصاغ ببراعة فنية/ جمالية منسجمة كلياً مع هذه المسميات والاستهلالات. كما أن ظاهرة الغياب والاندهاش واضحة حتى في مسميات قصصها (الذي عاد، قمر صامت وحزين، قصة من الفنتازيا، المداهمة، يوم استثنائي.. الخ)… ولا نريد ان تحيل التحليل الى عناصر سايكولوجية في تجربة القاصة حتى وان حصل مثل هذا (لا شعورياً) لأن (الشعور) هو المهيمن في توليد قصصها وروايتها ولاسيما أنها الموصوفة بكتابة أدبية في (عصر المحنة)… ميسلون هادي.. علامة قصصية وروائية حادة، كعلامة المرور الحمراء، توقفك قريباً منها، ولا تستطيع إلا أن تقف لتتحسس موجوداتك المادية والروحية في براعة سردية هي الخلاص من الغياب الذي أرهق الوجود، وجودنا الإنساني، ولا ينصفها القول، بانها التردد العالي في رنين القصص العراقية.

خامساً: الحرية في المنطقة المشتركة بين الواقع والخيال:

عشتار تتحدث عن نفسها:

((أنا الأول وأنا الآخر

انا البغي وانا القديسة

انا الزوجة وانا العذراء

انا الام وانا الابنة

انا للعاقر، وكثرهم ابنائي

انا في عرس كبير ولم اتخذ زوجاً

انا القابلة ولم انجب احدا

وانا سلوة اتعاب حملي

انا العروس وانا العريس

وزوجي من انجبني

انا ام ابي، واخت زوجي

وهو من نسلي))

عن كتاب (لغز عشتار) لـ(فراس السواح) نقلاً عن كتاب (مكتبة نجع جمادي) لـ(جيمسي روبنسون).

وأخيراً هزمت ميسلون هادي. هزمت أروع مبدعة حافة قدمها لنا الإبداع العراقي في عالم القصة القصيرة، مبدعة تخصصت بالتقنية الحلمية الأخاذة فقدمت لنا عشرات القصص التي حلقنا في سماواتها المدهشة والمربكة نداري أوجاعنا ونلاعب رغباتنا المكبوتة ونخفف من شعورنا المتأصلة بالأثم ونتخلص – ولو وقتياً- من قبضة المواقع القاسية الخانقة. كانت تلك الأحلام/ النصوص القصصية الصغيرة –كما كان (عباس محمود العقاد) يحب وصف فن القصة القصيرة- رحلات (علاجية) نفسية محكمة وحافلة بكل شروط الخلق الباهر. (ميسلون هادي) نفسها قالت على لسان المراوية – القاصة- في قصتها (زينب على أرض الواقع) من مجموعتها القصصية الصادرة ببغداد في العام 1994..

((أنا لا أكتب قصصاً واقعية، أنا أكتب في المنطقة المشتركة بين منطقة الواقع ومنطقة الخيال)).. ثم توجه الراوية الكلام إلى الأسير العائد الذي يطلب منها أن تكتب قصته..

((هل تعثر حفريات الآثار على سبائك الذهب أم على أساور وقلائد وأقراط؟ .. تقريباً هذه هي وظيفتي؟.. أن أحول السبائك إلى أقراط وأساور وقلائد..)).

وعبر ثلاثة عقود تقريباً قدمت (ميسلون هادي) الكثير من الأقراط والأساور والقلائد الثمينة في عالم الأدب القصصي العراقي منذ صدور مجموعتها القصصية الأولى (الشخص الثالث) متمسكاً.. وبحذق بالرؤيا التي حددتها بدقة ومهارة بالحوار القصصي الذي قدمناه قبل قليل. في تلك المجموعة أحسسنا -ولو بتردد- إنَّ ثمة لوناً قصصياً جديداً من الوان الكتابة قد بدأت ارهاصاته تتشكل على شكل الإبداع القصصي العراقي بشكل أولي وبسيط وقد تجسد هذا المنحى بشكل خاص في قصتي (الطاحونة) والشخص الثالث. ولم تكن وقائع هاتين القصتين تجري في المساحة المشتركة بين منطقة الواقع ومنطقة الخيال فحسب، بل كانت مركبة الوقائع تتحرك ذهاباً وإياباً في طريق الذات ممرين بين هاتين المنطقتين موقعة القارئ في لعبة لذيذة من الإيهام والتشكك وعدم اليقين والإثارة.. (راجع كتابنا ميسلون هادي وأدب عصر المحنة) دار الشروق، عمان، 2004.

… الآن وفي ظل مرحلة الشدائد الفاجعة والخراب العظيم، امتدت أصابع الواقع السود لتوقظ هذه الحالمة المبدعة بوحشية وقسوة.

ولكن من المهم القول إنَّ صدمة هذه المبدعة لم تكن مفاجئة وحادة من ناحية ولم تكن مستسلمة الارادة وسلبية الاستقبال أمام هول الصدمة من ناحية أخرى. لم تأت (منغصات) الخراب في هيئة الصدمة العنيفة لتخرب العوالم دفعة واحدة مثلما يوقظ جرس المنبه الزاعق النائم المطمئن. كانت القاصة تستشرف بمجسات لا شعورها (الراديكالية) إنَّ ساعة الخراب العظيم آتية لا محالة وأنها ستذهل كل مرضعة عن نصها وتجعل الناس سكارى وما هم بسكارى وأن عليها كمبدعة أن تتحفز وتتحضر لتستوعب و(تهضم) و (تمثل) المقبل من سياط العذاب ولهذا شهد مسارها الإبداعي ما يمكن أن أسميه بـ(المرحلة الانتقالية) التي جسدها فعلها الخلاق في روايتيها .. (مواقيت الأرض، والعيون السود) والأولى تحديداً كانت شهادة راصدة ساخنة على خراب سرطاني اخطبوطي استشرى في تمزيق نسيج الحياة والضمائر والروايتان هما ناقوس منذر بقرب ساعة الخراب العظيم.

هذا الخراب الذي جاء أول غيث .. أو جمر تجسيده إبداعياً في قصة (حسن السير والسلوك) لهذه المبدعة، وهي القصة/ الهزيمة الخلاقة حيث تتحطم أضام جسد الحلم الرقيقة على صخرة الواقع المسننة بلا رحمة، وحيث تنزوي لاهثة أحلام الخيال الإبداعي بعد أن تقدم عليها –وبلا هوادة- نص الواقع الذي سار يشوى بنيران جحيم المعاناة التي تطاطئ كل الآلام المتخيلة هاماتها في حضرتها حياة وفزعاً في عنوان القصة.. حسن السير والسلوك. يذكر القارئ العراقي تحديداً بشهادة حسن السير والسلوك الذي كانت تطلب من المواطن الذي يبغي الحصول على وظيفة بالدولة العراقية لتثبت أن سجله القانوني نظيف من أي شائبة وقد استخدمت القاصة الوصف الشائع نفسه في الماضي وهو حسن (السير) وليس (السيرة) وهو الوصف الأكثر دقة. وهو استخدام مقصود ينسجم مع طبيعة وقائع قصتها ومظمونها الفكري. فمفردة (السير) تعكس النظر إلى الإنسان وكأنه (مركبة) ينبغي أن تكون سليمة الأداء ومنضبطة، حالها في ذلك حال بطلة القصة التي انمسح وجودها الإنساني واستلبت ارادتها شيئاً فشيئاً حتى تحولت إلى (مركبة) من لحم ودم يطلب منها حسن (السير) وانضباط الأداء والطاعة الآلية العمياء. هذا ما تعبر مفارقة الاستهلال التي صممتها القاصة لكي تهيئنا نفسياً وتوحي إلينا من خلال المقارنة بدرجة العجز وانسحاق الارادة التي تعانيها البطلة..

((نفضت خرقة المسح أكثر من مرة، وتفحصتها جيداً قبل أن ترويها بالماء، لتتفادى أية سحلية أو خنفساء أو فراشة برية قد تفزع عندما تجديداً غريبة تمتد اليها أو قد تلسعها دفاعاً عن نفسها، كما حصل عندما رفعت المكنسة عن الأرض قبل سنين فإن انتفضت على يديها نحلة اختلت بين خوص المكنسة وعالجتها بلسعة مؤلمة اشتعل في سبابتها كالنار)).

وسنرى من خلال سير أحداث القصة وتداعيات البطلة كيف أن هذه المرأة (الزوجة) الأم قد أوصلها حصار مجتمعها الصغير- العائلة والآخر الكبير المجتمع- الى حالة من العجز والهوان جعل ((نصيرها)) الأساسي وملجئها التي تفزع إليه لتشكو مواجعها ليس إنساناً آخر ذا رحمة وتعاطف واستجابة –زوجاً، ابناء، صديقاً، صديقة.. الخ. وليس بيئة عمل تثبت من خلال ذاتها وتنمي صلاتها بالآخرين، وليس –أيضاً- عالماً شخصاً يوفر لها (الخصوصية) التي لا يمكن خرق حدودها تحت أية ذريعة والتي تتيح لها التصالح والانسجام مع مكونات كينونتها – انطقني منها بشكل خاص- إنَّ هذا الحصار المرعب ثلاثي الأبعاد مسخ شخصية هذه المرأة وجعلها بلا حول، فاقدة لأبسط قوى الدفاع (الغريزية) التي تتمتع بها أتفه الكائنات حين نخرق حدود (خصوصيتها) وهي (خاتلة) بين خوص المكانس حسب استخدام القاصة الموفق للفعل (ختل) الذي يعتقد البعض إنه فعل عامي.. وقد أصبح ملجأ هذه الإنسانة المستلبة هي (خرقة المسح)، نعم خرقة المسح التي تفزع إليها حزينة شاكية التي تحدثها وتشكو لها همها وتسرها آخر أخبارها، فهي –أي الخرقة- (الوحيدة) (التي تصغي إليها عندما تتحدث ولا تمل من كثرة الشكوى ولا من تكرار الكلام).. ولعل هذا الانحطاط هو أقسى درجات المهانة التي تتعرض لها إنسانية بني آدم حين تصبح علامات ذلة وأدواتها (مرآة) يرى فيها صورة ذاته، فلم يعد لهذه المخلوقة من دور سوى أن تكون (مركبة) مسح يشهد لها –وعليها أن تعزز هذه الشهادة بالفعل اليومي (المخلص)- بحسن المسح والسلوك إذا جاز الوصف، وقد بدأ هذا التذلل (تاريخيا) بخطوات اذلال واستجابات مهادنة.. كانت خطوات الأذلال تتخذ شريحة وبشراسة ممزوجة بمكر التخريجات النظرية والاطروحات الأخلاقية التي الانعصابات الأوديبية أساسياً والتي تلبسها السلطة الذكورية الجائرة مختلف الايموءات الفكرية والقيمية التي أوصلت هذه المرأة إلى حال راهن بائس، بلغ فيه التصدع حداً جعلها كلما عادت إلى الوراء وجدت حنانها أكثر وقسوتها أقل .. ولو ظلت عائدة إلى الوراء لظلت حتى الوصول إلى صورها الجامعية التي تعود إلى أيام السبعينات لوجدت إنسانة أخرى سواها جمالها هفهافة كالفراشات، فطارت وحلقت في الهواء الطلق وطاب لها برد النسيم، قبل أن يتم يجبرها أ[وها في نهاية السبعينات على ارتداء الحجاب ثم جاء زوجها فجعلها تخلعه من جديد في منتصف الثمانينات، وفي نهاية التسعينات كان ابنها قد كبر وبلغ مبلغ الرجال فصار يطالبها بارتداءه من جديد، مسخ وانحطاط ومعاملة الوجود الأنثوي فعلياً، وكأنه حتى أقل من (مركبة)، فحتى المركبة الجامدة لها (هوية) لا تستطيع تغييرها حسب مزاجك و(اسقاطات) صراعات النفسية –الجنسي منها بشكل خاص- من ناحية ولها أي للمركبة فعل راجع يساهم في تسهيل سلوك يستخدمها والتأثير فيه من ناحية أخرى.

لكن الأنثى في المجتمع الشرقي الذكوري لا تشفع لها خصوصية جنسية ولا هوية اجتماعية وليس لها أي فعل (راجع) في سلوك واستجابات من (يستخدمها) من الذكور الذين يمتد مخالب سوطتهم المرعوبة لتمزق –دفاعياً- استار تلك الخصوصية وتطيح بركائز تلك الهوية.

لقد عصروا حاجتنا المحطمة (مثل خرقة وداسوا أجنحتها الغضة بقسوة وسرقوا علبة أقلامها الملونة من تحت وسادتها.. وعندما لم يعد ينظر إليها أحد ولا يلتف اليها في الشارع رجل من رجال، شعر الجميع بالراحة آنذاك.. ووجد أبنها الوقت المناسب لكي يقول..

  • أشعر بالاحراج أن تكون أمي سافرة وأنا بهذا السن…
  • فقال أبوه
  • معه حق
  • فارتدت الحجاب.. ثم نامت.

سادساً: كارثة الإستلاب والبحث عن الحرية:

إنها تتساءل دائماً: لماذا تكون ملابسها وربطة شعرها تقويماً يكتب عليه الأخرون انتصاراتهم وهزائمهم؟ ولماذا راحتهم قد تحققت فيما كتبوه؟ فيما تدور هي في ارجاء البيت للتأكد من أن جميع شراشفهم نظيفة، وأن كل شيء على ما يرام؟.

أن المحنة الكبرى في حياة هذه المرأة المسحوقة تتمثل في أن افلحوا في دفعها إلى هاوية الخواء واللاجدوى هم الذكور الذين من المفروض أن يشكلوا قوام علاقاتها وتمظهرت فعلها الوجودي: الزوج والأبن ورفاق العمل. والمشكلة الأكثر خطورة هي أن هؤلاء الذكور معصوبون على الرغم من كل الياتهم وحيلهم الدفاعية التي يحاولون من خلالها تأمين سلامتهم النفسية. أن ما يشعل قلقهم هو خوفهم من تهديد الخصاء أو هو كونهم مخصين فعلياً وأن القهر الذي يمارسونه ضد الانثى الأم فوق أنه يمثل عدواناً مزاحاً إلى هدف بديل-كبش فداء مصدر العدوان الجائر الأصلي والمتجبر وهو المجتمع الضاغط الأكبر والسلطة القمعية التي يرزح الجميع- ذكوراً واناثاً- تحت مطارق ظلمها- فأنه يعبر عن محاولة مستميتة للدفاع ضد تهديد الظل الأنثوي من داخل شخصياتهم بعد أن جعله المجتمع بأيدولوجيته الفحولية مصدر ضعف وتهاون من ناحية ومن الخارج ضد الأنثوية الخالقة والخلاقة من ناحية أخرى، فالذكورة عدوان وتنافس بينما الأنوثة سلام وتآزر. وفي لب العدوان الذكوري تعتمل المخاوف في الأخصاء، تلك المخاوف التي يحاول الذكور تخفيفها من خلال التأكيد المفرط والمعطل على التمظهرات الاخلاقية الشكلية، وصاحبتنا- في القصة- تدرك ذلك بحدس الانثى الجريح فتشعر أن (أبنها يريدها عجوزاً لا ينظر إليها أحد وزوجها يريدها عروساً في الفراش…أحدهما على حق والأخر على باطل.. أما هي فلم تعد تملك القدرة على التمييز أو أن تعرف من تحب ومن تكره، بل لم تعد تجد القدرة على الكلام..) وقد يكون الأبن (معذوراً) في موقفه المتشدد بعض الشيء بفعل الحماسة الاوديبية تجاه موضوع الحب الأثير، الا أن الزوج هو-فعلاً- مثال الصورة الذكورية الشرقية المتنفذة والمنافقة، فهو الذي رفض-وبشدة- أن تترك زوجته عملها كمهندسة من أجل شؤون البيت، تراجع عن ذلك في النهاية ورفض أن تعود إلى العمل وتترك شؤونه وشؤون البيت لكي تدار كيفما اتفق ودارت الأيام وصار غذاؤه وقيلولته بالنسبة له  أهم شأن من شؤون البيت، بل أهم شؤون حياتها وحياته على الأطلاق. لقد اوصلها –بمكر وقسوة- إلى مستوى الاستبعاد الكامل، وأبشع اشكال هذه العبودية هي (التسليع) الجنسي، وأمر ما في هذا التسليع هو أنه مزاجي يرتبط برغبات وغرائز الذكر الفحل. وقد لا نستطيع تحديد صلة السبب والنتيجة في آليات هذه العبودية: هل الجنسية –الرقيق الرسمي الشرعي- يؤدي إلى العبودية الاجتماعية؟ أم أن الانسحاق الطبقي هو أم الكبائر حيث تؤدي فقدان الاستقلالية الاقتصادية للمرأة /الزوجة خصوصاً وعيشها كطفيلي-مادياً- على موارد زوجها/ السلطان وتجريدها من الدور الانتاجي المثمر هو الذي (يدربها) و(يقنعها) بالتسليم بدور الخادم (الحاكم)-حتى ولو بشكل زائف وتخديري- من جهة وبدور البغي المقدسة كما تحدد ذلك وثائق القران الرسمية التي تحتفظ بها-دائماً- في خزانة مصوغاتها الصغيرة وكما تتواضع على ذلك القيم الجمعية في مجتمعها. وها هو الزوج/ السلطان وصاحب رأس المال-حسب الوصف الماركسي- والذي بات العبد/ الزوجة تتحاشى النظر إليه، يهددها بأن يتزوج عليها اذا لم تعد إلى الاهتمام بنفسها والنظر إلى مرآتها وتدبر أمر شعرها الأبيض الذي جعلها تبدو وكأنها أمه لا زوجته. وموقف الزوج/ الفحل هذا هو موقف مسيء لكرامة الزوجة، وهو كثير التكرار في العلاقات الزوجية الشرقية. أنه موقف ابتزازي ولا أخلاقي، وينطوي على الكثير من مقايضات الشارع الجنسي التي يلبسها الزوج لباس الحقوق الزوجية، وهو موقف فيه قدر هائل من التعسف والعدوان، فهو –اي الزوج- كممثل للسلطة الذكورية يطلب من الزوجة الاهتمام بذاتها جمالياً بعد أن حولها القهر إلى (خرقة) وجود، مفرغة من معناها الانساني وبلا ارادة. أنه يطلب منها أن (تعيد) نفسها كزوجة، وحقيقة طلبه هو ان يريدها مطية لأشباع رغباته الجنسية. لكن كيف تستعد المرأة لأداء دورها الجنسي وهي مستلبة كلياً ولا تشعر بوجودها كانسانة أصلاً؟ في المباغي فقط- وفي بعض حالات الأمراض النفسية أيضاً- تؤدي المرأة دورها الشهواني كـ(مركبة) جنسية حسنة السير والسلوك، ولكن دون اهتمام للمقابل ودون أنفعال ذاتي منها. وهنا تقدم لنا القاصة- من خلال الفن الباهر طبعاً- فرضية تكمل- أو تطيح- بأهم فرضيات العالم (ماسلو) وتربك هرمه الشهير- هرم الحاجات الانسانية الذي رتب وفقه حاجات السلوك الانساني وفق سلم تتكون قاعدته من الحاجات الغريزية كالحاجة للطعام والجنس، أما قيمته فتحتلها أعظم حاجة أنسانية وهي الحاجة لتوكيد الذات وعلى الدرجات التي تتصاعد بين القاعدة والقمة تتسلسل- صعوداً- حاجات الأمن، والانتماء، الحاجة للتقييم، الحاجة المعرفية، ثم الحاجات الجمالية. أي –وحسب الاخ (ماسلو)- فأن من المستحيل أن تنتعش الميول إلى الفن والنظام والجمال في نفس الانسان اذا لم تنتعش الحاجات المعرفية والحاجة للانجاز والأنتماء والحاجات الاساسية العضوية (ومنها الحاجة الجنسية) التي تسبقها في الترتيب. لكن البطلة (ميسلون) كانت مهندسة ناجحة جميلة صغيرة وذكية وسعيدة وكانت تبحث عن جمال جسدها وتعلق جداول السعرات الحرارية على باب الثلاجة للحفاظ على رشاقتها، مثالها في ذلك قوام الأميرة “ديانا” الفارغ في صورتها التي الصقتها قرب جدول السعرات في تلك الأيام كانت قد قالت لزوجها أنها تريد أن تعلن حرباً ضد الشيخوخة مثلما فعلت “الصبوحة”- أي المطربة اللبنانية (صباح)- وما زالت تفعل، فقال لها زوجها أن الشحرورة صبوحة لم تقاوم الشيخوخة بجدول للسعرات الحرارية علقته على باب الثلاجة وأنما هي زرعت بمئات لآلف الدولات خلايا حية… كانت اكثر طيبة وحناناً من الآن عندما كانت تعيد كل يوم ترتيب ادوات الزينة أخر الليل وتنظر إليها بحبور مثل طفل يصف اقلامه الملونة في علبتها ثم يضعها قرب رأسه قبل أن يهوي إلى فراشه لينام.. أما الآن-وتدريجياً لأن العبودية تدريب لا وراثة- فقد صدقت أولاً ما قالته لها اخريات بأن لم يعد لها مكان بين الخرائط والبوردات ومواقع العمل، وان المرأة مهما كابرت في التوفيق بين العمل والبيت، فأن مهنتها، وليس مهنة الرجل، في النهاية هي التي تطير وتتلاشى مثل الدخان.. وانسحبت من الساحة التي تؤكد ذاتها وتشبع طاقاتها وهي ساحة العمل المثمر وعادت لتنزوي في البيت مدبرة للوسائل التي توفر لزوجها أسباب الراحة والاشباع الجنسي.. أهملت جدول السعرات والرشاقة سنوات طويلة.. ثم قامت برفعه ورميه في سلة المهملات.. ثم تأخرت لفترة أطول في النظر إلى الأميرة ديانا ذات الضحكة المشرقة والاناقة العجيبة، عز عليها أن ترميها هي الأخرى إلى سلة المهملات.. كأنها كانت أكثر طيبة وحناناً من الآن.. وبدلاً من جدول السعرات امتلأت جدران وزوايا المنزل بوصفات الأطباق وإعلانات التنظيف الموقعي للسجاد والأرائك.. أما بالنسبة لملء أنبوب المعدة فأن وجودها كله قد أصبح عبارة عن (أنبوب) يملأ ويفرغ.. والجملة الوحيدة التي أصبحت ترددها على مسامع زوجها هي:

-ماذا سأطبخ اليوم؟

-أي أن هذه المرأة كانت على حافة مستوى الحاجة لتأكيد الذات حسب سلم حاجات (ماسلو) التقليدي.. كانت قد توفرت لها طرق مقبولة لأشباع دوافع البقاء.. بل كانت متخمة في هذا الأطار..كانت لآمنة.. منتمية إلى عائلة.. مهندسة تحظى بالتقويم والاهتمام الذاتي.. جميلة تحب الجمال وتحلق كفراشة.. ثم تدهورت من مستوى الانسان الرفيع البهي (المركبة) التي يطلب منها- بل يفرض عليها- أن تكون حسنة (السير) وفق شروط ومواضعات مرسومة من الخارج حسب قناعات ومزاجات لا تتفق مع طموحاتها.. كانت ترى فم زوجها يتحرك.. وافواه الأخرين تتحرك.. ولكنها لم تكن تسمع أبداً.. تنظر فقط إلى وجه زوجها وإلى باقي الوجوه.. ولطول ما نظرت وجدت أن الجميع قد أصبح أكثر وسامة وشباباً منها.. وهي العجوز الوحيدة بينهم.. الشمطاء.. البلهاء.. التي بلا حيلة ولا رأي.. لقد أغلقوا عليها كل منافذ تأكيد ذاتها وجعلوها العوبة بأيديهم الظالمة، ورغم أنها قطعت أشواطاً طويلة على سلم الحاجات الا أنها لم تسطتع أستكمال شوط تأكيد الذات وامتلاك تلك اللحظات الفائقة صوفية الطابع المليئة بالنشوة والمرتبطة بتجارب الذروة. القهر الذكوري يمكن أن يطيح بضحاياه من الأناث من أعلى درجات السلم أو يثبتهن على درجة منه ولا يتيح لهن التقدم والنماء. أنه يطعمهن جسدياً- بل وحتى نفسياً أحياناً- لأنه سيتغذى عليهن، ولكنه لن يسمح لهن أبداً بأن يحققن ذواتهن ويسحقهن وبوصلهن إلى أبشع درجات العذاب وهي الحالة التي عاشتها بطلة (ميسلون هادي) والتي تمثلت في التمزق النفسي الموجع الذي قد يوصل الفرد إلى الجنون فهي لا تعرف هل امرأة كانت أم رجلاً؟ صغيرة أم كبيرة؟ ذكية ام غبية؟ عاقلة أم قبيحة؟ سعيدة أم تعيسة؟ أم كانت هي فعلاً تلك المهندسة ذاتها الجميلة التي لم ترتد بعد ذلك الوجه الأبله الذي يرى الحياة تمر فرحانه على وجوه الآخرين، فيكتفي بالنظر إليها فاغراً فمه خائفاً في سره من أن يراه أحد وهو فرحان؟.. لقد احتجت على تلاعب السلطة الذكورية بمصائرها لكن احتجاجها جاء سلبياً، فقد اتخذت قراراً مع نفسها بأن تتظاهر بالنوم وأن تتركهم يتدبرون أمور حياتهم لوحدهم. كان هذا فراراً وهروباً من طريق الوحش الساحق. لقد (تمارضت) من أجل أن تسترد على طريق الأحلام، نفسها التي كادت تضيع منها إلى الأبد. وفي حقيقته، كان (تمارضها) هذا وصمتها نوع من أنواع الصرخات الحادة طلباً للعون، أنه صرخة استغاثة، لكن لا أحد يستجيب حقاً ويفهم سر اضرابها الصامت فقد قلقوا في البداية واستدعوا أكثر من طبيب للكشف عليها شخص اخرهم الحالة النفسية وطلب –وبقسوة لا تصدق من طبيب- تركها لأنها ستنهض في النهاية من تلقاء نفسها ويضطراها الجوع او العطش إلى مغادرة الفراش والعودة إلى الحياة. وهكذا فشلت محاولتها الاحتجاجية لأنها كانت هروباً لا مقاومة، واعادتها حاجات البقاء إلى العودة إلى حيالة العبودية، عادت إلى خرقة المسح من جديد، تملأ ماءً نظيفاً وترميه متسخاً. عادت عبدة مذلة مهانة لا ملجأ لها في حياتها غير خرقة المسح، وفيقة شقائها ودرب عبوديتها الطويل الذي لا نهاية له، الخرقة التي خرجت الآن تبحث عنها لتبثها همها فلم تجدها فبحثت عنها في المرآب وشاهدت سيارة العائلة- وحين يسحق الانسان ويطفح كيل نفسه بالصراعات ويحيا مذلاً مهاناً لا يعرف أين يوجه عدوانه المكبوت الذي يغلي مرجله في اعماقه مكتوماً بلا منفذ، في مثل هذا الحال يكفي مؤثر بسيط لتفجير المكبوت المختزن لسنوات بلا رجاء، مثلما نرفع غطاء قدر ضغط فجأة وقبل أوانه قتنفجر المحتويات وتتطاير اشلاؤها في كل اللهجات وقد تدمر اجزاء من جسم الشخص نفسه. وهذا ما حصل لبطلة (ميسلون هادي)، حيث كانت السيارة هي المؤثر الذي أشعل فتيل يقظتها- يقظة وجودها المضيع وكيانه المستلب- ففتحت لها أبواب الخلاص/ الكارثة على مصاريعها، ونقول: (الكارثة) لأن الخلاص الذي يأتي بعد فوات الأوان، بعد أن لم يتبق شيء (نتخلص) به ولأجله، بعد أن (نسي) الفرد ضرورة الخلاص ومعناه وأصبح ذكرى غائمة بعيدة، بعد- وهذا هو الادهى والأكثر خطورة- أن لم يعد الانسان يعرف لماذا يتخلص ويطلب الخلاص من أجل أن (يخلص) فحسب، يأتي هذا الخلاص في صورة كارثة تدمر الوجود الشخصي للانسان المقهور نفسه أولاً، وتمحق- في طريقها الهائج- وجود كبش فداء أخر ثانياً. جاءت محاولة هذه المرأة شبيهة بمحاولة العبد الذي يحاول الخلاص من قيوده بقطع ذراعيه. وكان منظر السيارة الواقفة التي علاها الغبار والتي لم تعد تقودها منذ زمن طويل هو الذي شق الطريق المستقيم إلى الكارثة، فهي مثل هذه السيارة المهملة، (مركبة) مسكينة وحسنة (السير)، علا روحها غبار التبليد وصدأ الاستلاب. هذه السيارة لم تناد الزوجة إلى حريتها كما تقول (ميسلون) فحسب، بل هي –أولاً- ذكرتها بتلك الحرية. هنا اتذكر فلماً سينمائياً امريكياً يتحدث عن حياة سجينين في بداية القرن العشرين يستكينان ويذعنان بعد محاولات عديدة فاشلة للهرب من السجن. يرضخان للأمر الواقع، ينسيان حريتهما- وامرأة (ميسلون هي في الحقيقة سجينة نسيت حريتها- ولكن بعد عشرين عاماً من حسن السيرة ورضا المسؤولين وقرب الفرج يخرب احدهما كل شيء في اللحظة التي يشاهد فيها زوجة مدير السجن الشابة وهي تحمل (كيكة) جميلة وتضعها قرب النافذة المفتوحة لبيتها القريب حيث ينطلق هذا السجين ليسرقها!!- يا ويلنا من الانسان المقهور حين يتذكر حريته بعد طول نسيان.

وقفت لوهلة تنظر إلى السيارة التي لم تعد تقودها منذ زمن طويل.. نادتها إلى الحرية.. فصعدت إليها وقالت لنفسها: -أهذا وقت خرقة المسح؟ لقد تأخرت عن الدوام.. لقد تذكرت هذه المسكينة حريتها فـ(انفصمت) عن واقعها الأسود وتصدعت، فأي دوام هذا الذي تتحدث عنه وهي التي طلقت وظيفتها منذ سنوات طويلة؟.. بائع الجرائد كان يرتدي قميصاً مرسومة عليه وجوه كثيرة.. كثيرة جداً.. متشابهة كلها وتضحك.. وهي نفس الوجوه المتشابهة الضاحكة التي كانت تحاصرها بوجودها في كل لحظة من مسيرة كربها اليومية لتذكرها بوجه حياتها الأبله الذي البسته قسراً بعد أن مزقت تلك الوجوه وجه انوثتها المتألق البهي.. وحسناً فعلت القاصة حين جعلت أول شيء تتذكره بطلتها وتقرر التوجه إليه هو عملها، لترسخ في اذهاننا حقيقة الحرية الكبرى وهي أن الانسان ليس حيواناً ناطقاً أو اجتماعياً فحسب بل هو حيوان يحقق حريته من خلال العمل..

-قال لها بائع الجرائد:

-هل تريدين جريدة؟

-لا أريد

-مجلة؟

– لا أريد..

-عشتار.. شهرزاد.. زهرة الخليج؟

-لا أريد..

-سيدتي.. آنستي.. لها.. لك.. نصف الدنيا؟

مدت يدها مقعد السيارة فاستخرجت مسدساً وصرخت به صرخة هوجاء:

-قلت لك لا أريد..

فصرخ هو الآخر من شدة الألم وسقط مغشياً عليه، فضحكت وهي تعصر خرقة المسح، وقالت لنفسها:

-حرامات.. لو لا هذا الأبله بائع الجرائد لوصلت مبكرة إلى عملي ولم يفتني الدوام! ثم عاودت مسح ما تبقى من الممر الطويل، وقيل أنها في السجن كانت عجوزاً طيبة محبوبة ويشهد لها الجميع بحسن السير والسلوك.

هامش:

-حسن السير والسلوك- قصة قصيرة- ميسلون هادي- منشورة في صحيفة الأديب- العدد (102-4 كانون الثاني 2006م).

العالم ناقصاً واحد رواية (ميسلون هادي):

أن فعل القص وما تملك من حضور فني تحقق جراء نضج الممارسة لأدوات القاصة الفنية وفهمها لطبيعة الأبداع القصصي ونجاحها في دمج عنصر المفاجأة مع حالة الحلم الذي من خلاله تتحاور وتتعامل مع الواقع لتقدم قصصاً ذات نكهة خاصة، وقد تحقق ذلك في مجاميعها القصصية الثلاث/ الشخص الثالث 1985/ الفراشة وقصص أخرى- 1986/ اشياء لم تحدث 1991/ في حين تمحورت قصص مجموعتها الرابعة/ رجل خلف الباب 1993/ حول أزمنة مختلفة تتشظى فيها الأبعاد لكنها في الجوهر زمن واحد يتشكل ويندمج في طبيعة زمن اجتماعي يمتلك الامتداد دون نهاية، والأحداث والشخوص فيه يتحاورون، والحوار هنا تعبير اساسي تحاول القاصة من خلاله ربط السلوك الاجتماعي بدواخل الذات لشخوص القصص.

وقد عالجت نصوص المجموعة ظاهرة الانتظار والخسارة في تشظيها وتفتتها وتعدد مواقفها وتنوعها كأقدار لابد من حدوثها ينتج عنها ردود أفعال تعكس واقعاً ثقافياً وسلوكياً، اذا يمكننا الحديث هنا عن (نموذج أشكالي) الذي بلوره جورج لوكاتش في كتابه (نظرية الرواية) أو حتى (النموذج المحوري الكلاسي)، حيث البطل القصصي في مواجهة جدران الخطأ العالية القائمة، والتي عليه أن يقف بازائها ويناضل من أجل هدمها وتجاوزها.

هذا الواقع يمثل صراعاً اجتماعياً بفاعلية تؤثر على النتائج التي تتجه دائماً إلى الخسارة تتنوع فيها أشكال المأساة جراء سقوط الضحايا خلال الصراع.

في تجربتها الأبداعية الجديدة تتعامل مع الرواية وتضيف (العالم ناقصاً واحد) إلى منجزها السابق في احتمالات اثارة الاسئلة وفي الاشكالية التي تثيرها البنية السردية التي اعتمدتها الروائية وتحولها إلى أسلوب حكائي مربك تمارس فيه وضعاً مقصوداً في ارباك المتلقي، هذا الأرباك يجعلنا أمام مستويات متعددة في قراءة الرواية وتصنيفها، هل هي رواية تعنى بواقع حروب سابقة؟ هل هي رواية بحث عن شخص مفقود؟ هل هي رواية شك بالحقيقة؟

هذه المستويات في القراءة التي تثيرها الرواية هي دون شك دليل فهم واضح في تعامل الروائية مع هذا الجنس الأدبي الذي يثير الأسئلة.

(العالم ناقصاً واحد) رواية قصيرة وهذا المصطلح ما زال يحمل قلقه وعدم استقرار في رؤية نقدية يتفق عليها النقاد، فمنهم مكن يشكك بالمصطلح ويرجع بالنص إلى (القصة القصيرة الطويلة)، ومنهم من يتفق معه ويضم صوته إليه ليكون مصطلحاً نقدياً يمارسه ويخضع النصوص الروائية التي تكتب بمواصفاته وسط فضائه النقدي.

و(الرواية القصيرة) هي أحد الأنواع الملحمية القصيرة وشكلها من حيث الأتساع يفوق حدود القصو، لكنها لاتصل إلى حجم الرواية الطويلة، ولا توجد أنواع قاطعة بين الروايات المختلفة، أنما هي تعبيرات مجازية في الغالب وهي على علاقة قرابة بالقصة القصيرة من دون شك، والقرابة بينها تتجلى في سرعة العرض عند كل منهما وفي حدود المساحة التي يصعب تجاوزها والأحداث تجري باختصار، ولا نعثر على شخصيات كثيرة، وتاريخ الرواية القصيرة يكاد يكون معادلاً لتاريخ القصة القصيرة ([1]).

تعتمد رواية (العالم ناقصاً واحد) بنية الشك في فقدان علي الأبن الوحيد للعائلة الذي سقطت طائرته في مدينة (كلار) مع زميل طيار معه، ثم رحلة الأب من بغداد إلى مكان الحادث وجلب جثة أبنه، ومن خلال سرد واقعة سقوط الطائرة من قبل المواطنين في المكان يعطينا الضوء في كيفية مقتل علي واستشهاده وأسر زميله في مستوى من السرد يمارسه السارد/ الروائية من خلال ايغال شخوصها في حزن عميق لوفاة الأبن الوحيد للعائلة فأن شكاً في شخصية علي يطرحه السرد وهو شك مبرر وكان قائماً في سنوات الحرب في الثمانينات وبشكل خاص على استبدال شخص بآخر تحت وطأة ظروف الحرب وتشوه أجساد المقاتلين جراء الإصابات والحروق والموت.

هذا الشك اعتمده السرد وعلق بنيته علي السروال الداخلي الذي يرتديه علي تحت البنطلون.

تقدم البنية الفنية للسرد الروائي وجهتي نظر الأم والأب حول جثة أبنهما الطيار علي، هل هو أبنهما؟ أم هو شخص أخر؟ شك يسرده أحدهما للآخر ويعيشان أبعاده، ونلاحظ هنا أن الشك لا يتعلق بالموقف من الحرب والصراع الدائر في تلك المرحلة وأنما من زاوية الرؤية السردية للحدث.

أن رصد حدث سقوط الطائرة منذ بداليته وحتى نهايته يأتي عن طريق الاسترجاع وبتطابق وجهتي نظر الأم والأب، من هنا يمكن نفي القراءة المحتملة لـ(العالم ناقصاً واحد) على أنها رواية حرب بل هي رواية تقدم شهادة لمظهر مأساوي رصدته الروائية بذكاء والتقطته لتشكل من خلاله بنية فنية سردية روائية.

السرد في الرواية ليس طويلاً، أي أنه يركز على حدث واحد ويستمر عليه خلاف روايات أخر تبدأ بحدث وتنتهي بأحداث متشعبة، فالحدث في وفاة علي هو موضوع الرواية لكن السرد يسلم سلطته إلى الأب والأم ليسردا (حدثا/ شكاً) لا علاقة له بموت أبنهما.

ما هذا (الحدث/ الشك)؟ وما الذي يجعل منه بنية سردية توفق في إقامة علاقة وتفاصيل تتوالد تحت ضغط الشك في السروال الذي يرتديه علي.

في الظاهر السردي هناك انسان ميت وأخر مفقود وطائرة محطمة وهذا الظاهر هو جوهر فعل الحرب/ المأساة، لكن السرد الروائي يتجاوزه باتجاه أخر وفي التفاصيل بعد نقل جثة الطيار يتمظهر السرد بالشك في الحدث الروائي.

يتسع السرد عن طريق توالد الشك لدى ألأم والأب لكنه يتحجم ويتقلص في زمكان البنية الروائية وهو عمل مقصود نتج من جراء التعامل بآلية فنية جريئة اتخذت من الواقع مادة أساسية وخلقت منه تفاصيل مجموعة من الانساق السردية حيث يتسع باتساع الواقع ويضيق بضيقه، فلا شيء ثابت ومستقر، والواقع ينفتح دائماً على مستجدات سلبية وإيجابية.

هكذا خلقت رواية (العالم ناقصاً واحد) عالمها الخاص وهو عالم يحسب للقاصة/ الروائية ميسلون هادي إضافة جادة في مسيرتها الإبداعية.


([1]) (العالم ناقصاً واحد) رواية قصيرة لميسلون هادي/ الأردن-عمان/ دار أسامة للنشر والتوزيع 1999.

  1. د. علي عباس علوان/ جريدة الثورة- بغداد 10-12-1987.
  2. د. كمال عيد/ فلسفة الأدب والفن/ الدار العربية للكتاب- تونس 1987.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

نبوءة فرعون – وسن مرشد

وسن مرشد   توظيف التراث الشعبي وأهميته، قراءة في رواية “نبوءة فرعون”لـ (ميسلون هادي) يعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *