تقانة القرين في «سعيدة هانم» للعراقية ميسلون هادي
نادية هناوي سعدون
جريدة القدس العربي
معلوم أن توظيف الفانتازيا في الأدب الواقعي إنما يتم من خلال الابتعاد عن المألوف ولعل إحدى وسائل ذلك التوظيف استعمال تقانة القرين التي هي عبارة عن «حصيلة التماثل الإسقاطي، بمعنى أن ينسلخ شخص عن ذاته وينسب إلى شخص آخر تلك الخصائص التي ينكر أنها موجودة عنده، لكن بما أنه لا يزال يعترف لا شعوريا بالخصائص المسقطة على أنها خصائصه فإنه بذلك يماثل نفسه مع الآخر».
ويعد دستويفسكي أول من وظف هذه التقانة في قصة بعنوان «القرين» ومن بعده اهتم كثير من الروائيين الغربيين والعرب باعتمادها وتسخيرها قصصيا في رسم شخصيات منفصمة منشطرة ومتشظية. ولقد وظّفت الكاتبة ميسلون هادي القرين في روايتها «سعيدة هانم ويوم غد من السنة الماضية» الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت 2015 كتقانة فنية أثيرة ليس على صعيد بناء الشخصيات فحسب؛ بل اعتمدته أيضا على مستوى بناء المنظور الذي شطرته إلى منظورين اثنين، أحداثا وزمانا ومكانا، فالمنظور الأول بدا من وجهة نظر سعيدة هانم والمنظور الآخر تمظهر من وجهة نظر مليكة جان، والغاية التعبير عن الكيفية التي بها تواجه الشخصية الرئيسة عجزها وتداري رغباتها، بما يعيد لها توازنها ويجعلها قادرة على المواصلة والاستمرار.
وهذا ما جعل الرواية تبدو على المستوى الموضوعي وكأن لها قرينا كتابيا منفصما فيها ومتشظيا عنها، حيث الزمان ينقسم والمكان يتعدد.. ويكون المتن بنصفين، أحدهما واقعي فيه مليكة أخت لسعيدة ويكون نصفها الثاني تخيليا وهميا فيه سعيدة هي نفسها مليكة!
وما هذه التسميات المركبة للشخصيات إلا انعكاس لقصدية الكاتبة في توظيف القرين، فسعيدة تسندها لفظة هانم التي بها توكد طابع الحياة المعقول والواقعي، في حين ألحقت بمليكة التي تعني في ما تعني الشموخ. كلمة جان التي فيها دلالة السحر (الجن) جنبا إلى جنب دلالة التوهم المتخيل (الجنون) في حين دلل الاسم المركب سليمان بيك على التضاد ما بين الاسم والمسمى ( السلطنة /التنازل).
ولا غرو أن تجسد بنية الاستهلال هذه القصدية أيضا لتكون مدخلا مناسبا لبناء متن سردي مصوغ على وفق آلية الاقتران والانشطار عبر استدعاء هذا المقطع الشعري المترجم من قصيدة للشاعر الإسباني جوان رامون جيمنز «أنا لست أنا/ أنا هذا الواحد/ السائر بجنبي الذي لا أراه/ الذي أحيانا استطيع ان أزوره/ الذي أحيانا استطيع ان أزوره) الذي تتضاد فيه الذات المؤنثة مع نفسها من خلال لفظة الواحد.
ويتبع الاستهلال فهرست بعنوانات فصول الرواية التي تعكس بمجموعها دلالة الاقتران والانشطار والتضاد واقعا وخيالا. وعلى الرغم من بشاعة الواقع المعيش إلا أن سعيدة هانم صنعت لنفسها عالمها الخاص الذي تنعزل فيه بعيدا عن الآخرين متخذة من مليكة أختا لها، وهي بمثابة قرين أو شبح تراه كظلها الذي لا يفارقها. وما التشظي والانفصام إلا انعكاس لشعور نفسي مؤسلب بالوجود الذي ينشطر إلى نصفين، الأول خيالي يتمادى في الغرائبية مما يجعل مليكة جان منعزلة وضجرة من الواقع لائذة بالبيت وذكريات ماض جميل، والنصف الثاني واقعي معقول تجسده سعيدة هانم المتكيفة مع الحياة والمتفائلة بالحاضر والمستقبل.
وتكون مليكة جان هي القرين الذي سيظل ملازما لسعيدة هانم كخيار نفسي تتخذه سعيدة لمواجهة الضغوطات، لكن هذا القرين سيسبب لها في ما بعد عصابا نفسيا وفصاما ذاتيا يتفاقم كمرض فتعاني جراء ذلك من العزلة وينعدم شعورها بالكينونة، هل هي موجودة فعلا أو غير موجودة؟ وهل هي مسؤولة عن قصورها أو غير مسؤولة؟
ولأن مليكة جان قسيم روح سعيدة الضجرة لذلك تصفها بأوصاف سلبية تكررها تباعا فهي (زعلانة/ فمها معوج إلى أسفل بشكل مزمن/ وشعرها مجعد منفوش/ تشبه الحمامة/ ملابسها هلاهيل بنية ذات تجاعيد/ مختفية عن الأنظار/ في النهار متحمسة عاملة/ وفي وقت الغروب شاكية/ متبرمة من الصخب والازدحام).
وتتقاسم معها ذكريات الماضي وشجون الحاضر ومجهولية المستقبل ( هذا ما كنت أقوله لها دائما) (لا أجادلها) ( تعلم كم أحبها وافهم أفكارها بدون كلام) (كانت تشاركني لعبة..) (تريدني ان أكون لوحدي مع منطقتي الخاصة بي .. حتى عندما لا يكون هناك أحد غيرنا في باقي الغرف) وبالتماهي والتوحد تتغلب على مخاوفها وهواجسها، ولما كانت مشكلة سعيدة هانم هي غياب المعنى لذلك تداوم على صنع قوانينها الخاصة التي تقبل بها وتجاريها ولا تضجر منها، الأمر الذي يقودها إلى الانزلاق في دوامة التخيل منشطرة في خيالها ومتشظية في واقعها.
ولا ترى سعيدة قرينها/مليكة بعين راو ذاتي ذي وجهة نظر مصاحبة لا يعرف عن الشخصية أكثر مما تعرفه الشخصية عن نفسها، بل تراها بعين أنا الراوي الغائب «أعرف أسبابها الجاهزة في رفض الخاطبين الستة والتي لم اقتنع بها أنا ولكني تماشيت معها».
وهي تستبقها وكأنها في داخلها فتعرف الإجابة عن سؤال مليكة المُلح والمتكرر: ما هو الشيء الموجود في كل شيء؟ وما السقوط والإخفاق والعزلة إلا مسببات دينامية نفسية لدور القرين في الشعور بالانشطار أو الانقسام ويتفاقم هذا الشعور في الفصلين الأخيرين من الرواية فتتراكم المتناقضات ويتكرر سرد بعض المشاهد والأحداث بين الأصل وقرينه والتي يعاد قصها أكثر من مرة.. ومن ذلك وقوع الشخصية من الأرجوحة ليكون كل شيء أسود في نظرها، إذ تعاد الجملة الآتية خمس مرات في مواضع متفاوتة داخل الرواية «فإن كل شيء موجود في الرأس ونحن الذين نسترجع..». وتكون ذروة التأزم بين الكيانين المنشطرين والمتوحدين في الآن نفسه ما سيؤديه الأخ سليمان بيك من دور سلبي في إرغام سعيدة على الزواج من شمس الدين، الذي لا تشعر إزاءه بأي انجذاب لكنها تخفق في التعبير عن ذلك وعن ذلك تقول سيمون دي بوفوار: «ويوم تستطيع المرأة أن تحب بقوتها لا بضعفها لا لتهرب من ذاتها، بل لتكتشف نفسها في ذلك اليوم يصبح الحب للمرأة كما للرجل ينبوع حياة لا مصدر خطر قاتل يلخص الحب اللعنة التي تحيق بالمرأة المحبوسة في العالم النسوي والعاجزة عن كتابة نفسها بنفسها».
ولذلك لن يكون هناك بد من الانتظار أو الانتحار «بدلا من أن تضحك مليكة جان فقد بكت فتأكد لي أنها لا تريد الزواج فعلا من شمس الدين وأنها بعد قليل ستتظاهر بالسكون للهرب من هذا الخطر».
وهذا يدل على أن سعيدة ليست مريضة أو مجنونة، بل هي واعية لازدواجها الذي لا تملك إزاءه حيلة «أنا اعلم جيدا أن مليكة جان ميتة، بل غير موجودة بالأساس إلا من خلال أفكاري التي أحاول أن أعمل عليها بجد بين البيت والمدرسة، ولكنني أفشل في تفضيل الواقع على خيالي وإذا ما حاولت ذلك سيرفض عقلي وجسمي ذلك».
وسيظل الزمن متشظيا أيضا إلى ما لانهاية ما دام القرين (مليكة جان) يطبع المكان أشياء وموجودات بطابع خيالي فيفقد الزمن وظيفته ليتساوى، وهكذا تظل سعيدة هانم ضائعة ومتناقضة بين زمن فيه الغد يقبع في الأمس وبين مكان يضج بلوحات ناقصة لا سبيل لاكتمال فضاءاتها إلا بوجود مليكة جان التي لن تفترق عنها حتى بعد أن تقرر التخلص منها.. ولكون سعيدة تسمع همس مليكة وصراخها الداخلي وأسئلتها وأجوبتها لذلك تندفع عفويا متمردة على السكوت ومحتجة على الصمت بإزاء ما يجري في الواقع حتى إن كان ثمن ذلك الاحتجاج والتمرد انفصاما نفسيا مع الذات وتضادا اجتماعيا مع الآخرين..
٭ كاتبة عراقية