زينب وماري وياسمين – فاضل التميمي (جريدة الزمان)

بلاغة الطباق في رواية زينب وماري وياسمين

– August 31, 2014

جريدة الزمان

إنشغال ميسلون هادي بالتشكيلات الدلالية

 بلاغة الطباق في رواية زينب وماري وياسمين

فاضل عبود التميمي

تريد هذه (المقاربة) أن تقرأ ظاهرة الطباق في رواية (زينب وماري وياسمين) التي أصدرتها الروائيّة (ميسلون هادي) عن (المؤسسة العربية للدراسات والنشر: لبنان) في العام (2012)، منطلقة من فضاء اللغة الذي يتحكّم بالمدلول السردي ،وطرائق صوغ الخطاب ،وقد صار واضحا أنّ (اللغة) ولاسيّما في السرد كما يؤكّد (رولان بارت) هي التي تتكلّم وليس المؤلف ،أو الروائي، أو الشخصيّات.

   ورواية (زينب وماري وياسمين) تنفتح على حياة طفلة اسمها(ياسمين) وُلدت في 29 شباط أي في السنة التسعينيّة الكبيسة التي اقترنت وقصف الطائرات الامريكيّة لبغداد، ففي تلك الليلة حضر مصوّر فرنسيّ إلى مستشفى الولادة ليصوّر مواليد تلك الليلة الفريدة فكان أن حملت الممرضة الأطفال الجدد، وفي لحظة هرج ومرج القصف الجويّ تمّ تبديل ياسمين عبد الأحد بياسمين عبد الواحد ،وهذا ما كشفته أحداث سنوات لاحقة تمّ فيها تصحيح (الخطأ)!!.   قرأتُ متن الرواية وتبيّن لي أنّ بناءها اللغوي يقوم على هيمنة قانون الطباق بما يمتلك من أدوات تعبيرية لها صلة أساسية بالدلالة وإيقاعها التكراري ،وهو فن بلاغيّ كان ولمّا يزل متفشّيا في الشعر ،والنثر معا مؤدّاه: الجمع في العبارة الواحدة بين كلمتين متقابلتين بالضد.   وقبل أن أبدأ قراءتي عليّ أن أسأل: وهل تُقرأ الرواية بوصفها نصّا سرديّا معاصرا على وفق مصطلح قديم ؟، أقولُ إنّ قراءتي تنفتح على معطيات الدرس البلاغي القديم الذي يمكن استثماره في قراءة النصّ المعاصر من دون أن أنسى أنّ الرواية نصٌّ لسانيٌّ مبنيٌّ على التخيّل، يُتلقى بالتخييل ،وهذا يعني بالضرورة إمكان استثمار التقارب بين (البلاغة)،و(لسانيّات النص)؛على فرض أنّ اعادة قراءة البلاغة القديمة في ضوء المنهجيّات الجديدة تحقّق قدرا واضحا من الاستعادة الجماليّة للخطاب اللسانيّ القديم الذي لا أشكّ في أهميّة قسم كبير من طروحاته، وقد تبيّن بوضوح أنّ الثنائيات الضدية ،وهي مصطلح معاصر يلتقي في كثير من فاعليّته بمصطلح الطباق، أو التضاد ،أو التكافؤ، وغيرهما، فقد ظل البلاغيّون والنقاد القدماء يساوون اصطلاحيا بين التضاد، الذي هو  التطبيق، والتكافؤ، والطباق ،والمطابقة، والمقاسمة، وكأنّهما مصطلح واحد سواء بسواء.(ينظر: معجم المصطلحات البلاغيّة وتطورها: د. أحمد مطلوب:2: 252).   رواية (زينب وماري وياسمين) تخضع لهيمنة قانون (الطباق) بدءا من عنوانها الذي يمكن تفكيك عناصره الدّالة إلى مدلولين طباقيّين فـ(زينب) تختلف سرديّا عن (ماري) ليشكلا ثنائيّة متضادة في كلّ شيء، وحاصل التضاد بينهما وجود الشخصيّة السرديّة ونقيضها، أمّا (ياسمين) بوصفها شخصيّة سرديّة مركزيّة فتنشطر إلى شخصيّتين مختلفتين  كما تحيل القراءة الأولى لما هو مرويّ في نصّ الرواية.وإذا ما غادرنا العنوان بوصفه (ثريّا) الرواية يتلقانا الاستهلال الذي يتيح عادة للمتلقي لحظة الشروع في تلقي الرواية للدخول في عالمها فنقرأ عبارته :(توقف المطرُ فجأة كما بدأ فجأة) ص5 التي تتشكلّ من صياغة وصفيّة لكنّها تنبئ عن حال  شُحن بطباق:(التوقف: البدء) الذي استطاعت الروائيّة من خلاله أنْ تكتب استهلالا تخيّليّا على لسان الساردة تضمّن شفرة مركزيّة يحوم حولها السرد تشير إلى التغيير الذي أدرك حياة (ياسمين) ناقلا إيّاها من (ربعة البيت) إلى (صالون ماري) بمعنى أنّ (طباق) الحياة أحال على (طباق) اللغة لتكون الأخيرة وجها من وجوه الأزمة في الرواية وهي تتشكّل طباقيّا.     لقد أفاد السرد من الصورة الطباقيّة القائمة على الحضور المتناوب للأبيض ،والأسود وهما يرمزان إلى الخير والشّر لكي يكشف عن تباين الزمان، المكان ، وانقسامهما على صيغ متعدّدة صائغا فجوة واضحة بين شخصيّتين مهمتيّن من شخصيّات الرواية التي يقوم بناؤها على فكرة المرايا العاكسة لطبيعة الوجود وهو يتشكّل في أنساقه المعلنة.  هل كانت الروائية تتقصّد الطباق في لغتها ؟..لا يمكن الجزم إيجابا ،أو سلبا لكنْ من المؤكّد أنّ الكتابة السرديّة تتلقف  الثنائيات الضديّة، أو الطباقيّة من مصادرها الكثيرة المبثوثة في الحياة وهي تحاول الغوص في الأفكار المتقابلة، أو المتباينة التي تكشف عن نمط سلوك الشخصيّات، وطرائق عيشها، أي أنها nاللغة- تتعامل مع التناقضات المجتمعة في الشخصيّات السرديّة على أنها ثنائيّات ضديّة ، وإن هي في الحقيقة ثنائيات مستلّة من أغوار النفس الإنسانية التي عادة ما تتلون بإيقاع :الأسود والأبيض ،والموت والحياة، والغنى والفقر، والسماء والأرض وغيرها كثير. والروائيّة (ميسلون هادي) في سعيها الحثيث الهادف إلى إحكام صنعة استهلالها تتوقّف كثيرا عند تلك العتبة المفضية إلى تلقي متنها منطلقة من أنّ بداية الرواية بالنسبة لها هي تاجها ،ورتاجها.. بمعنى أنّ الفكرة أو الصورة التي افتتحت بها الرواية هي التي تكون قد أثارت في نفسها الحافز الأهم لرسم الأفق الأوسع للقصّة أو الرواية ،ينظر: مقابلة مع الروائية مجلة (إمضاء) ع 5و6 السنة 2014 ص160،وهذا يعني أنّ الروائيّة تتوقّف بحذر عند الاستهلال مدركة أنّ قيمته الفنيّة، والدلاليّة تتشظى إيجابا، أو سلبا على جسد الرواية كلّه، وبالتالي فإنّ إحكامها صنعة الاستهلال لا يعني الانتقال الحرّ للمتلقي إلى العتبات الأخرى فقط ،بل يعني ضمان بقائه داخل الفعّاليات السرديّة، وتفاعله معها؛ لأنّ الاستهلال يسهم في منح المتلقي فرصة الإمتاع الأولى التي تتشكّل نفسيّا في اللحظات الأولى للقراءة التي تكون فيما بعد دليل المتلقي إلى فصول الرواية.  وإذا كانت الرواية قد انفتحت على الطباق عبر عتبتي عنوانها، واستهلالها، ومتنها أيضا فأنّ  الطباق  بما يمتلك من فاعليّة بلاغيّة كان قد شغل خاتمتها كذلك:

(- توقفي يا ياسمين..

  ولكن لم أتوقف) ص202، هذا الانفتاح إذْ يؤكد حضور الثنائية الطباقيّة بوصفها فكرة لها القدرة على الربط بين الظواهر التي تبدو متناقضة ولكنها في الحقيقة مجتمعة عند لحظة احتدام حياتي، فإنّه يشير إلى التعارض الحياتي الذي يجمع بين التوقّف، والسير أي بين أن يكون الانسانُ حرّا ،أو داخلا في وهم العبوديّة، وغيرهما، وهو-الانفتاح- في الحقيقة  تمثيل سرديّ لقانون الحياة الذي لا يمكن إبطال مفهومه، أو مفعوله .

 وهكذا يأخذك السياق السرديّ للرواية إلى أن تتملّى في عباراته الكثيرة القائمة على فكرة الطباق لنقرأ :(لم أشعر بأنني في المكان الصحيح…)ص5  ،بمعنى أنها في (المكان الخطأ) في لعبة تريد أن تحاكم الواقع بعين (الصح)، و(الخطأ)، ترى هل حقّا كانت ياسمين تعيش حياتها الأولى في المكان الخطأ ؟،وهل كانت حياتها الثانية في (المكان الصحيح)؟، بمعنى هل كانت حياتها الثانية (تصحيحا) سرديّا لوجود ملغّز سببه (الخطأ)؟،هذه  سؤالات حائرة ظلّت تردّدها ياسمين من دون أن تخلو لغتها من الطباق:(هل كان من الخطأ انتشالي من(هناك) ورميي إلى (هنا) ؟ ص146.   لقد فعل (الخطأ) فعلته الكبرى في حياة (زينب) أمّ (ياسمين) المجازيّة ،ثم تناسلت دلالته إلى حياة ياسمين ،وصار من المستحيل تصحيح درجة ميلانه الحياتي ؛لأنه ارتبط بفكرة (القدر)، وما إخراج ياسمين من (الظلمة إلى النور) ص9 سوى انقاذ كاذب اقتضته طبيعة البناء السردي في الرواية بدليل أنّ (النور) الذي وجدته ياسمين في بيت أمّها الحقيقيّة ماري لا يختلف عن (ظلمة) بيت أمّها المجازيّة (زينب)، فهو نورٌ جعل  ياسمين لا ترى سواه (قبل موت) زينب ،أو (بعد موتها) ص9.    طباق الرواية يسهم في ايجاد خصوبة دلاليّة مجالها السرد الذي يأخذ المتلقي إلى مساحة واسعة تجمع بين متضادّين متقابلين في السياق الواحد منفردين أو متضايفين، أو متباعدين تاركا للتخييل  مهمّة استحضار الإطار العام للصورة السرديّة التي يتفاعل فيها المشهد وهو يتجه إلى العمق من براءة المتلقي .  وياسمين التي تصارع واقعها (طباقيّا) لا تكاد تخرج من اشكاليّة (المعنى)، وما هو(ضده) ففي داخل نفسها يلتقي عنصرا الطباق ،وفي خارجها كذلك، حتى بدت شخصيّتها  صعبة التفسير بمعزل عن فكرة الشيء، ونقيضه، لتصير حياتها بنية حكائيّة  قائمة على ما يعاكس طبيعتها الانسانيّة المهذّبة.   فماري أمُّ ياسمين الحقيقيّة  تريد من ابنتها أن تخلع حجابها الذي لم تعتد خلعه في بيت أمّها المجازيّة زينب ص31،وهي في الحقيقة لم تكن تريد لبسه في البداية ،ولكنّها اعتادت على لبسه في النهاية ص60 مستعرضة أجواء التناقض بين بيئتين مختلفتين في كلّ شيء حتى تكاد ياسمين أن تكون الوحيد التي تدفع فيهما ضريبة  عدم الانسجام، أو التمرّد على مثال سابق، وحين تستيقظ – ياسمين- من غفوتها فإنّ شغلها الشاغل لا يتعدى الموازنة بين الأشياء على وفق منهج طباقيّ اخترعته لنفسها فهي تتأمل (قبّعة) تبارك لتقارنها بـ(ربطتها)  لترى أيّهما أقرب إلى الرأس ،رأسها (العادي) أم رأس تبارك (العالي) ؟ص60. وحين تحتدم فكرة (تغاير) الدين بين ياسمين وبين أمّها الحقيقيّة (ماري) تعلن الأولى ما يشبه المقترح السلوكي المبني طباقيّا: (فلتكنْ هي كما اعتادت أن تكون ،ولأكن أنا كما اعتدت أن أكون إمّا الجنة ،وإمّا النار فلا أعرف عنهما شيئا أكثر مما يقوله أهلي..) ص117. إنّ تقابل صورة (هي) التي تشير إلى (ماري) مع صورة (أنا) التي تحيل على شخصيّة (ياسمين) هو في الحقيقة طباق مصدره عين الساردة الوحيدة في الرواية أعني:(ياسمين) الذي هو في الأصل يشير إلى وجود أشياء متضادّة جسّدتها الروائيّة على لسان الساردة  لتحيل على طبيعة (المحنة) التي تعيشها البطلة مرموزا لها بأكثر من فكرة, وليس (الجنة), و(النار) سوى فكرتين تنتميان إلى مجال الحياة الواسعة التي تتعدد فيهما الرؤى والأفكار ،حتى إذا ما وصلت ياسمين الى قناعة مؤداها رفض الحياة الجديدة التي أدركتها بعد عناء طويل لا تتوانى من اشهار رؤيتها بصراحة ولكن بلغة الطباق أيضا: (من الخطأ انتشالي من هناك ،ورميي إلى هنا) ص 146.   تتّسع فجوة الطباق بين (هناك)، و(هنا) لتعلي من شيء يسمى المسكوت عنه الذي يمكن تلمّس دلالاته في الرضا، أو القبول بالحال الأولى الذي عاشته ياسمين وإن كان غير سارّ لها، ورفض الحال الثانية مع ما يرافقها من رفاه وعزّ ؛لأنها على ما تخبرنا (القراءة) غير منسجمة معه، وهكذا استطاع الطباق أن يكشف وجها من وجوه الإنسان ، وهو يعيش محنة الإنتماء إلى الماضي وإنْ كان ماضيا تعيسا.    ويظهر الطباق في لغة الوصف التي تنتج (إنشاء يُراد به اعطاء صورة ذهنيّة عن مشهد، أو شخص، أو إحساس، أو زمان للقارئ، أو المستمع): معجم المصطلحات العربيّة في اللغة والأدب: مجدي وهبة وكامل المهندس:433، الذي يتشكّل في أجزاء من الرواية مانحا إيّاها متعة التلقي الذي تزداد وتائر تأثيراته كلّما ازددنا توغلا في كشف الدلالات الغائبة بإحالتها على دلالات حاضرة وهي تنفتح على نمطين مختلفتين من التفوّهات السرديّة  التي تسهم في ايجاد جماليّات سابحة فيما وراء النصوص، وقديما قال عبد القاهر الجرجاني وقد أدرك جمال الجمع بين صورتين مختلفتين:(إنّ الاشياء تزداد بيانا بالأضداد) تنظر: أسرار البلاغة :ط شاكر:33.  جاء في الرواية على سبيل وصف نساء المقابر:) سمينات و نحيفات وحوامل وصغيرات) ص9،وللساردة أن (تتذكّر، وتنسى) ص10،وأن ترى الحياة  في الصباح جميلة… وفي الليل فضيعة) ص10،و أن تراقب أبا يتفوّه بكلام (لا علاقة له بشطارتها في جدول الضرب ،ولكن له علاقة بشيء يلفّه في رأسه) ص 11،ولها في المدرسة أن تنام ،وأن  تستيقظ  ص12،وكثيرا ما ترى في المقبرة  صبيّين ينظفان القبور (الصبي الأسمر، والأبيض) ص13، وللساردة أن تشير إلى فكرة الزمن مقرونة بـ(وقت الغروب وبعد شروق الشمس) ص 15،والعبارات كثيرة :(ابتسمت له لم تبتسم) ص19،و(سعيد هاجر إلى كندة وسليم مات في الحرب) ص 22، و(عازبات ومتزوجات) 51،و(لفح الظهيرة  كالثلج) ص 53،و(اخرجوها من بيت أهلها بدلا من ادخال أخيها جبار إلى السجن) ص71، و(المرأة تدفع الثمن والرجل يفوز بالراحة) ص 71،و(حبّا بهتلر… كرها بالإنكليز) ص 75،و (أكبر منه بسنة وليس أصغر مني بسنوات ) ص 93، و(الدو يصعد من الصول ،والري ينخفض باطراد) ص 96، و(لست أنا وهي ليست هي) ص 96.    إنّ تغلغل الطباق في اللغة الواصفة من شأنه أن ينقل السرد من احتدام المواجهة بين الافكار ،والرؤى ،والمسافات التي تبدو بعيدة، وهي تفصل بين الأماني والرغبات ،والإشكالات إلى واجهة (التخييل) التي تسهم في تلقي الرواية وتشكيل علاماتها ، فضلا عن أنّه -الطباق-  يناسب دلاليّا بين عناصر السرد والبناء العام للرواية لما يمتلك من موجّهات تأخذ بلبّ المعنى إلى تأكيد إشكالاته ،فالطباق يسرّع من وتائر التلقي تاركا أثرا نفسيّا يصعب محو دائرة تأثيره.

 وجاء في الرواية أيضا:(إنّ المظهر يأتي لاحقا للمضمون ،اكتشفت أنّ ياسمين الدكتورة القوية طارئة على ياسمين الضعيفة الخائفة  …سأحتاج إلى وقت طويل لكي أجعل الثانية لا تتدخل في شؤون الأولى، أو تدفعها إلى الخجل…قالت هذا تطوّر جديد في نظرتك إلى الأمور.. تجرنا إلى اعتبار أنّك معنية فقط بالجوهر، وأنّ علاقتك الهشة بالمظهر لا تعود اليك، وانما تعود الى البيئة التي تربيت فيها) ص 180.    يمكن تفكيك النص السرديّ السابق طباقيّا إلى ثلاث جمل تبدو الدلالات المتضادة فيها واضحة:(ياسمين الدكتورة القوية طارئة على ياسمين الضعيفة الخائفة) ،و(سأحتاج إلى وقت طويل لكي أجعل الثانية لا تتدخل في شؤون الأولى)، (أنّك معنية فقط بالجوهر، وأنّ علاقتك الهشة بالمظهر)، فبين (القويّة والضعيفة)، و(الثانية والأولى)، و(الجوهر والمظهر) يتشكّل الطباق برؤية الكشف عن المكنون الراكس في العمق السردي المغيّب للرواية، وإنْ بلغة شعريّة واضحة.    وقد يتحوّل الطباق السرديّ بفعل التكرار الصوري، وتعدّد مفرداته إلى مقابلات سرديّة تتحكم في طبيعة اللغة لتمنحها مزيدا من الحضور المتضاد كما في:( لا تدخل ولا تخرج ، ولا تضحك ولا تبكي) ص 8.    لكنّ التقابل بنسقه السردي يبدو واضحا حين يتمّ المتلقي قراءة الرواية مستنتجا أنّ ياسمين ظلت مسلمة وإن كان الأصل المسيحي يجري في عروقها ،وياسمينة ظلّت مسيحيّة وإن كانت قد وُلدت على أصل إسلاميّ ،وهذا يعني فيما يعني أنّ الإنسان يتثقّف بثقافة البيئة التي يترعرع فيها، وأن لا شأن له باختيار نمط الأفكار التي يتداولها الا في ما ندر، ولعلّ الروائيّة أرادت بهذه اللعبة السرديّة التي تنحو منحى تقابليّا أن تشيع ثقافة التسامح بين الأديان التي نحن بأمس الحاجة إليها، فضلا عن اشاعتها جوهر الروح الانسانيّة وهي تواجه أزمة تتعلّق بهويّة فرعيّة لا يمكن التغاضي عنها.

   وزينب أمُّ ياسمينة الحقيقية كما تخبرنا الرواية مظلومة، وذليلة ،وفقيرة وقد ماتت مهمومة ص15، أمّا ماري والدة ياسمين الحقيقية فهي تجري، وتضحك ،وتقود دائما إلى نتيجة واحدة بمعنى أنّها تتميّز بشخصيّة مهيمنة على فضاء البيت فضلا عن أنّها تتمتع بحريّة التصرف داخل البيت وخارجه 61.   وعائلة ماري تسكن في حيّ الزهور ،وبيتها نظيف، بينما عائلة زينب تسكن في حي شعبيّ وبيتها وسخ ،فضلا عن أنّ زوج زينب سكّير، وظالم يقابله زوج ماري متوازن ومحب لزوجته .  فالتقابل، أو المقابلة سواء أكان في الشعر ،أو النثر له أصل طباقي لكنّ بنيته عادة ما تتشكّل من أكثر من صورة  تتسع فيها دائرة الاضداد الى  عدة متقابلات تنتج دلالات يتحكم فيها التناسب بين المعنى وضده، ذاك الذي يسهم في إضاءة الأعماق المعتمة ، ويضع المعنى السرديّ الغامض تحت مجهر التكبير الدلالي.  إنّ القراءة المتفحّصة لأحداث الرواية، والوقوف عند حركة شخصيّاتها يعطي انطباعا مؤكّدا أنّ الرواية ببنائها العام مجموعة من (الطباقات) التي تهيمن على مجرى الأحداث ،ولمتلقي الرواية أنْ يتابع التشكيلات الدلاليّة الآتية:   ياسمين بيضاء ،وياسمين سمراء، الاولى مسيحيّة والاخرى مسلمة، واحدة بعظم أنف والأخرى من دونه ، المسيحيّة لم تهاجر ،والمسلمة هاجرت إلى كندا ،ثم بعد حين يتبين للمتلقي أنّ الأولى حافظت على اسمها ،لكن الثانية اصبحت (ياسمينة) لغرض تمييزها سرديّا من الأولى .

 انشغال الرواية بهذه التشكيلات الدلاليّة التي يحضر فيها عنصرٌ معيّنٌ من عناصر الحياة ليستدعي عنصرا آخر مضادّا له في المعنى، وماضيا معه في الاتجاه من شأنه أن يسهم في تسرب معنى السطح إلى العمق صانعا للسياق تأويليّة محمّلة بدلالات يمكن استثمارها في رصد الرواية والبحث في طبقاتها.

كما ونشرت الدراسة على جزئين في جريدة العالم البغدادية في 13 و15 -10-2010

شعريّة الطباق في رواية «زينب وماري وياسمين»

تريد هذه (المقاربة) أن تقرأ ظاهرة شعريّة الطباق في رواية (زينب وماري وياسمين) للروائيّة (ميسلون هادي) الصادرة عن (المؤسسة العربية للدراسات والنشر: لبنان) في العام (2012)، منطلقة من فضاء اللغة الذي يتحكّم بالمدلول السردي، وطرائق صوغ الخطاب، وقد صار واضحا أنّ (اللغة) لاسيّما في السرد، كما يؤكّد (رولان بارت)، هي التي تتكلّم وليس المؤلف، أو الروائي، أو الشخصيّات.

د. فاضل عبود التميمي

ورواية (زينب وماري وياسمين) تنفتح على حياة طفلة اسمها (ياسمين) وُلدت في 29 شباط، أي في السنة التسعينيّة الكبيسة التي اقترنت وقصف الطائرات الامريكيّة لبغداد، ففي تلك الليلة حضر مصوّر فرنسيّ إلى مستشفى الولادة ليصوّر مواليد تلك الليلة الفريدة فكان أن حملت الممرضة الأطفال الجدد، وفي لحظة هرج ومرج القصف الجويّ تمّ تبديل ياسمين عبد الأحد بياسمين عبد الواحد، وهذا ما كشفته أحداث سنوات لاحقة تمّ فيها تصحيح (الخطأ) كما تقول الرواية!!.

قرأتُ متن الرواية وتبيّن لي أنّ بناءها اللغوي يقوم على هيمنة قانون (الطباق) بما يمتلك من أدوات تعبيرية لها صلة أساسية بالدلالة وإيقاعها التكراري، وهو فن بلاغيّ، كان ولمّا يزل، متفشّيا في الشعر والنثر معا مؤدّاه: الجمع في العبارة الواحدة بين كلمتين متقابلتين بالضد.

وقبل أن أبدأ قراءتي عليّ أن أسأل: وهل تُقرأ الرواية بوصفها نصّا سرديّا معاصرا على وفق مصطلح قديم؟ أقولُ إنّ قراءتي تنفتح على معطيات الدرس البلاغي القديم الذي يمكن استثماره في قراءة النصّ المعاصر من دون أن أنسى أنّ الرواية نصٌّ لسانيٌّ مبنيٌّ على التخيّل، يُتلقى بالتخييل، وهذا يعني بالضرورة إمكان استثمار التقارب بين (البلاغة)، و(لسانيّات النص)؛ على فرض أنّ اعادة قراءة البلاغة القديمة في ضوء المنهجيّات الجديدة تحقّق قدرا واضحا من الاستعادة الجماليّة للخطاب اللسانيّ القديم الذي لا أشكّ في أهميّة قسم كبير من طروحاته، وقد تبيّن بوضوح أنّ الثنائيات الضدية، وهي مصطلح معاصر يلتقي في كثير من فاعليّته بمصطلح الطباق، أو التضاد، أو التكافؤ، وغيرها، فقد ظل البلاغيّون والنقاد القدماء يساوون اصطلاحا بين التضاد، الذي هو التطبيق، والتكافؤ، والطباق، والمطابقة، والمقاسمة، وكأنّهما مصطلح واحد سواء بسواء. رواية (زينب وماري وياسمين) تخضع لهيمنة قانون (الطباق) بدءً من عنوانها الذي يمكن تفكيك عناصره الدّالة إلى مدلولين طباقيّين فـ(زينب) تختلف سرديّا عن (ماري) ليشكلا ثنائيّة متضادة في كلّ شيء، وحاصل التضاد بينهما وجود الشخصيّة السرديّة ونقيضها، أمّا (ياسمين) بوصفها شخصيّة سرديّة مركزيّة فتنشطر إلى شخصيّتين مختلفتين كما تحيل القراءة الأولى لما هو مرويّ في نصّ الرواية.

وإذا ما غادرنا العنوان بوصفه (ثريّا) الرواية يتلقانا الاستهلال الذي يتيح عادة للمتلقي لحظة الشروع في تلقي الرواية للدخول في عالمها فنقرأ عبارته: (توقف المطرُ فجأة كما بدأ فجأة ص5) التي تتشكّل من صياغة وصفيّة لكنّها تنبئ عن حال شُحن بطباق: (التوقف: البدء) الذي استطاعت الروائيّة من خلاله أنْ تكتب استهلالا تخيّليّا على لسان الساردة تضمّن شفرة مركزيّة يحوم حولها السرد تشير إلى التغيير الذي أدرك حياة (ياسمين) ناقلا إيّاها من (ربعة البيت) إلى (صالون ماري)، بمعنى أنّ (طباق) الحياة أحال على (طباق) اللغة لتكون الأخيرة وجها من وجوه الأزمة في الرواية وهي تتشكّل بطبيعة مختلفة.

لقد أفاد السرد من الصورة الطباقيّة القائمة على الحضور المتناوب للأبيض والأسود، وهما يرمزان إلى الخير والشّر؛ لكي يكشف عن تباين الزمان والمكان، وانقسامهما على صيغ متعدّدة صائغا فجوة واضحة بين شخصيّتين مهمّتين من شخصيّات الرواية التي يقوم بناؤها على فكرة المرايا العاكسة لطبيعة الوجود، وهو يتشكّل في أنساقه المعلنة الكاشفة للمتناقضات. هل كانت الروائيّة ميسلون هادي تتقصّد الطباق في لغتها؟ لا يمكن الجزم إيجابا، أو سلبا، لكنْ من المؤكّد أنّ الكتابة السرديّة تتلقّف الثنائيات الضديّة أو الطباقيّة من مصادرها الكثيرة المبثوثة في الحياة، وهي تحاول الغوص في الأفكار المتقابلة، أو المتباينة التي تكشف عن نمط سلوك الشخصيّات وطرائق عيشها، أي أنها – اللغة – تتعامل مع التناقضات المجتمعة في الشخصيّات السرديّة على أنها ثنائيّات ضديّة، وإن هي في الحقيقة ثنائيات مستلّة من أغوار النفس الإنسانية التي عادة ما تتلون بإيقاع: الأسود والأبيض، والموت والحياة، والغنى والفقر، والسماء والأرض وغيرها كثير.

والروائيّة (ميسلون هادي) في سعيها الحثيث الهادف إلى إحكام صنعة استهلالها تتوقّف كثيرا عند تلك العتبة المفضية إلى تلقي متنها، منطلقة من أنّ بداية الرواية بالنسبة لها هي التاج، والرتاج، بمعنى أنّ الفكرة، أو الصورة التي افتتحت بها الرواية، هي التي تكون قد أثارت في نفسها الحافز الأهم لرسم الأفق الأوسع للقصّة أو الرواية، ( نشير في هذا السياق الى مقابلة مجلة (إمضاء) مع الروائية ع 5و6 السنة 2014 ص160) وهذا يعني أنّ الروائيّة تتوقّف بحذر عند الاستهلال مدركة أنّ قيمته الفنيّة والدلاليّة تتشظى إيجابا، أو سلبا على جسد الرواية كلّه، وأنّ إحكامها صنعة الاستهلال لا يعني الانتقال الحرّ للمتلقي إلى العتبات الأخرى فقط، بل يعني ضمان بقائه داخل الفعّاليات السرديّة، وتفاعله معها؛ لأنّ الاستهلال يسهم في منح المتلقي فرصة الإمتاع الأولى التي تتشكّل نفسيّا في اللحظات الأولى للقراءة التي تكون فيما بعد دليل المتلقي إلى فصول الرواية وختامها.

وإذا كانت الرواية قد انفتحت على الطباق عبر عتبتي عنوانها واستهلالها ومتنها أيضا، فأنّ الطباق بما يمتلك من فاعليّة بلاغيّة كان قد شغل خاتمتها كذلك:

(- توقفي يا ياسمين..

ولكن لم أتوقف ص202)، هذا الانفتاح إذْ يؤكد حضور الثنائية الطباقيّة بوصفها فكرة لها القدرة على الربط بين الظواهر التي تبدو متناقضة، ولكنها في الحقيقة مجتمعة عند لحظة احتدام حياتي، فإنّه يشير إلى التعارض الحياتي الذي يجمع بين (التوقّف)، و(السير) أي بين أن يكون الانسانُ حرّا، أو داخلا في وهم العبوديّة، وغيرهما، وهو – الانفتاح – في الحقيقة تمثيل سرديّ لقانون الحياة الذي لا يمكن إبطال مفهومه، أو مفعوله مهما كانت الإنسان.

وهكذا يأخذك السياق السرديّ للرواية إلى أن تتملّى في عباراته الكثيرة القائمة على فكرة الطباق لنقرأ: (لم أشعر بأنني في المكان الصحيح.. ص5)، بمعنى أنها في (المكان الخطأ) في لعبة تريد أن تحاكم الواقع بعين (الصح)، و(الخطأ)، ترى هل حقّا كانت ياسمين تعيش حياتها الأولى في المكان الخطأ؟ وهل كانت حياتها الثانية في (المكان الصحيح)؟ بمعنى هل كانت حياتها الثانية (تصحيحا) سرديّا لوجود ملغّز سببه (الخطأ)؟ هذه سؤالات حائرة ظلّت تردّدها ياسمين من دون أن تخلو لغتها من الطباق:(هل كان من الخطأ انتشالي من(هناك) ورميي إلى (هنا) ؟ ص146

شعريّة الطباق في رواية «زينب وماري وياسمين» «2-2»

د. فاضل عبود التميمي

لقد فعل (الخطأ) فعلته الكبرى في حياة (زينب) أمّ (ياسمين) المجازيّة، ثم تناسلت دلالته إلى حياة ياسمين، وصار من المستحيل تصحيح درجة ميلانه الحياتي؛ لأنه ارتبط بفكرة (القدر)، وما إخراج ياسمين من (الظلمة إلى النور ص9) سوى انقاذ كاذب اقتضته طبيعة البناء السردي في الرواية بدليل أنّ (النور) الذي وجدته ياسمين في بيت أمّها الحقيقيّة ماري لا يختلف عن (ظلمة) بيت أمّها المجازيّة (زينب)، فهو نورٌ جعل ياسمين لا ترى سواه (قبل موت) زينب، أو (بعد موتها ص9).

طباق الرواية يسهم في ايجاد خصوبة دلاليّة مجالها السرد الذي يأخذ المتلقي إلى مساحة واسعة تجمع بين متضادّين متقابلين في السياق الواحد منفردين أو متضايفين، أو متباعدين تاركا للتخييل مهمّة استحضار الإطار العام للصورة السرديّة التي يتفاعل فيها المشهد، وهو يتجه إلى العمق من براءة المتلقي الذي لا يشكّ أبدا بلعبة المؤلف السرديّة.

وياسمين التي تصارع واقعها (طباقيّا) لا تكاد تخرج من اشكاليّة (المعنى) وما هو(ضده)، ففي داخل نفسها يلتقي عنصرا الطباق، وفي خارجها كذلك، حتى بدت شخصيّتها صعبة التفسير بمعزل عن فكرة الشيء ونقيضه، لتصير حياتها بنية حكائيّة قائمة على ما يعاكس طبيعتها الانسانيّة المهذّبة.

فماري أمُّ ياسمين الحقيقيّة تريد من ابنتها أن تخلع حجابها الذي لم تعتد خلعه في بيت أمّها المجازيّة زينب (ص31)، وهي في الحقيقة لم تكن تريد لبسه في البداية، ولكنّها اعتادت على لبسه في النهاية (ص60) مستعرضة أجواء التناقض بين بيئتين مختلفتين في كلّ شيء حتى تكاد ياسمين أن تكون الوحيد التي تدفع فيهما ضريبة عدم الانسجام، أو التمرّد على مثال سابق، وحين تستيقظ – ياسمين – من غفوتها فإنّ شغلها الشاغل لا يتعدى الموازنة بين الأشياء على وفق منهج طباقيّ اخترعته لنفسها، فهي تتأمل (قبّعة) تبارك لتقارنها بـ(ربطتها) لترى أيّهما أقرب إلى الرأس، رأسها (العادي) أم رأس تبارك (العالي)؟ص60.

وحين تحتدم فكرة (تغاير) الدين بين ياسمين وأمّها الحقيقيّة (ماري) تعلن الأولى ما يشبه المقترح السلوكي المبني طباقيّا: (فلتكنْ هي كما اعتادت أن تكون ،ولأكن أنا كما اعتدت أن أكون إمّا الجنة ،وإمّا النار فلا أعرف عنهما شيئا أكثر مما يقوله أهلي.. ص117).

إنّ تقابل صورة (هي) التي تشير إلى (ماري) مع صورة (أنا) التي تحيل على شخصيّة (ياسمين)، هو في الحقيقة طباق مصدره عين الساردة الوحيدة في الرواية، أعني: (ياسمين) الذي هو في الأصل يشير إلى وجود أشياء متضادّة جسّدتها الروائيّة على لسان الساردة، لتحيل على طبيعة (المحنة) التي تعيشها البطلة مرموزا لها بأكثر من فكرة, وليس (الجنة) و(النار) سوى فكرتين تنتميان إلى مجال الحياة الواسعة التي تتعدد فيهما الرؤى والأفكار، حتى إذا ما وصلت ياسمين الى قناعة مؤداها رفض الحياة الجديدة التي أدركتها بعد عناء طويل لا تتوانى من اشهار رؤيتها بصراحة ولكن بلغة الطباق أيضا: (من الخطأ انتشالي من هناك، ورميي إلى هنا ص 146).

تتّسع فجوة الطباق بين (هناك)، و(هنا) لتعلي من شيء يسمى المسكوت عنه الذي يمكن تلمّس دلالاته في الرضا، أو القبول بالحال الأولى الذي عاشته ياسمين وإن كان غير سارّ لها، ورفض الحال الثانية مع ما يرافقها من رفاه وعزّ؛ لأنها على ما تخبرنا (القراءة) غير منسجمة معه، وهكذا استطاع الطباق أن يكشف وجها من وجوه الإنسان، وهو يعيش محنة الإنتماء إلى الماضي وإنْ كان ماضيا تعيسا.

ويظهر الطباق في لغة الوصف التي تنتج (إنشاء يُراد به اعطاء صورة ذهنيّة عن مشهد، أو شخص، أو إحساس، أو زمان للقارئ، أو المستمع )، الذي يتشكّل في أجزاء من الرواية مانحا إيّاها متعة التلقي الذي تزداد وتائر تأثيراته كلّما ازددنا توغلا في كشف الدلالات الغائبة بإحالتها على دلالات حاضرة، وهي تنفتح على نمطين مختلفتين من التفوّهات السرديّة التي تسهم في ايجاد جماليّات سابحة فيما وراء النصوص، وقديما قال عبد القاهر الجرجاني وقد أدرك جمال الجمع بين صورتين مختلفتين:(إنّ الاشياء تزداد بيانا بالأضداد). وجاء في الرواية على سبيل وصف نساء المقابر : سمينات، ونحيفات، وحوامل، وصغيرات ص9)، وللساردة أن (تتذكّر، وتنسى ص10)، وأن ترى الحياة في الصباح جميلة… وفي الليل فضيعة ص10)، وأن تراقب أبا يتفوّه بكلام (لا علاقة له بشطارتها في جدول الضرب، ولكن له علاقة بشيء يلفّه في رأسه ص 11)، ولها في المدرسة أن تنام، وأن تستيقظ ص12، وكثيرا ما ترى في المقبرة صبيّين ينظفان القبور (الصبي الأسمر، والأبيض ص13)، وللساردة أن تشير إلى فكرة الزمن مقرونة بـ(وقت الغروب وبعد شروق الشمس ص 15)، والعبارات كثيرة: (ابتسمت له لم تبتسم ص19)، و(سعيد هاجر إلى كندة وسليم مات في الحرب ص 22)، و(عازبات ومتزوجات51)، و(لفح الظهيرة كالثلج ص 53)، و(اخرجوها من بيت أهلها بدلا من ادخال أخيها جبار إلى السجن ص71)، و(المرأة تدفع الثمن والرجل يفوز بالراحة ص 71)، و(حبّا بهتلر… كرها بالإنكليز ص 75)، و(أكبر منه بسنة وليس أصغر مني بسنوات ص 93)، و(الدو يصعد من الصول، والري ينخفض باطراد ص 96)، و(لست أنا وهي ليست هي ص 96).

إنّ تغلغل الطباق في اللغة الواصفة من شأنه أن ينقل السرد من احتدام المواجهة بين الافكار، والرؤى، والمسافات التي تبدو بعيدة، وهي تفصل بين الأماني والرغبات والإشكالات إلى واجهة (التخييل) التي تسهم في تلقي الرواية وتشكيل علاماتها، فضلا عن أنّه – الطباق – يناسب دلاليّا بين عناصر السرد والبناء العام للرواية؛ لما يمتلك من موجّهات تأخذ بلبّ المعنى إلى تأكيد إشكالاته، فالطباق يسرّع من وتائر التلقي تاركا أثرا نفسيّا يصعب محو دائرة تأثيره. وجاء في الرواية أيضا: (إنّ المظهر يأتي لاحقا للمضمون، اكتشفت أنّ ياسمين الدكتورة القوية طارئة على ياسمين الضعيفة الخائفة… سأحتاج إلى وقت طويل لكي أجعل الثانية لا تتدخل في شؤون الأولى، أو تدفعها إلى الخجل… قالت هذا تطوّر جديد في نظرتك إلى الأمور.. تجرنا إلى اعتبار أنّك معنية فقط بالجوهر، وأنّ علاقتك الهشة بالمظهر لا تعود اليك، وانما تعود الى البيئة التي تربيت فيها ص 180).

يمكن تفكيك النص السرديّ السابق إلى ثلاث جمل تبدو الدلالات المتضادة فيها واضحة: (ياسمين الدكتورة القوية طارئة على ياسمين الضعيفة الخائفة)، و(سأحتاج إلى وقت طويل لكي أجعل الثانية لا تتدخل في شؤون الأولى)، (أنّك معنية فقط بالجوهر، وأنّ علاقتك الهشة بالمظهر)، فبين (القويّة والضعيفة)، و(الثانية والأولى)، و(الجوهر والمظهر) يتشكّل الطباق برؤية الكشف عن المكنون الراكس في العمق السردي المغيّب للرواية، وإنْ بلغة شعريّة واضحة.

إنّ الطباق السرديّ يتحوّل بفعل التكرار الصوري، وتعدّد مفرداته إلى مقابلات سرديّة تتحكم في طبيعة اللغة لتمنحها مزيدا من الحضور المتضاد كما في النصّ السابق، وفي نصّ الرواية: (لا تدخل ولا تخرج، ولا تضحك ولا تبكي ص 8).

لكنّ التقابل بنسقه السردي يبدو واضحا حين يتمّ المتلقي قراءة الرواية مستنتجا أنّ ياسمين ظلت مسلمة وإن كان الأصل المسيحي يجري في عروقها، وياسمينة ظلّت مسيحيّة وإن كانت قد وُلدت على أصل إسلاميّ، وهذا يعني فيما يعني أنّ الإنسان يتثقّف بثقافة البيئة التي يترعرع فيها، وأن لا شأن له باختيار نمط الأفكار التي يتداولها إلا في ما ندر، ولعلّ الروائيّة أرادت بهذه اللعبة السرديّة التي تنحو منحى تقابليّا أن تشيع ثقافة التسامح بين الأديان التي نحن بأمس الحاجة إليها، فضلا عن اشاعتها جوهر الروح الانسانيّة وهي تواجه أزمة تتعلّق بهويّة فرعيّة لا يمكن التغاضي عنها.

وزينب أمُّ ياسمينة الحقيقية كما تخبرنا الرواية مظلومة، وذليلة، وفقيرة، وقد ماتت مهمومة (ص15)، أمّا ماري والدة ياسمين الحقيقية فهي تجري، وتضحك، وتقود دائما إلى نتيجة واحدة بمعنى أنّها تتميّز بشخصيّة مهيمنة على فضاء البيت فضلا عن أنّها تتمتع بحريّة التصرف داخل البيت وخارجه 61.

وعائلة ماري تسكن في حيّ الزهور، وبيتها نظيف، بينما عائلة زينب تسكن في حي شعبيّ وبيتها وسخ، فضلا عن أنّ زوج زينب سكّير وظالم يقابله زوج ماري متوازن ومحب لزوجته. فالتقابل، أو المقابلة، سواء أكان في الشعر أو النثر، له أصل طباقي لكنّ بنيته عادة ما تتشكّل من أكثر من صورة تتسع فيها دائرة الاضداد الى عدة متقابلات تنتج دلالات يتحكم فيها التناسب بين المعنى وضده، ذاك الذي يسهم في إضاءة الأعماق المعتمة، ويضع المعنى السرديّ الغامض تحت مجهر التكبير الدلالي.

إنّ القراءة المتفحّصة لأحداث الرواية، والوقوف عند حركة شخصيّاتها يعطي انطباعا مؤكّدا أنّ الرواية ببنائها العام مجموعة من (الطباقات) التي تهيمن على مجرى الأحداث، ولمتلقي الرواية أنْ يتابع التشكيلات الدلاليّة الآتية: ياسمين بيضاء، وياسمين سمراء، الاولى مسيحيّة والاخرى مسلمة، واحدة بعظم أنف والأخرى من دونه، المسيحيّة لم تهاجر، والمسلمة هاجرت إلى كندا، ثم بعد حين يتبين للمتلقي أنّ الأولى حافظت على اسمها، لكن الثانية اصبحت (ياسمينة) لغرض تمييزها سرديّا من
الأولى .

انشغال الرواية بهذه التشكيلات الدلاليّة التي يحضر فيها عنصرٌ معيّنٌ من عناصر الحياة ليستدعي عنصرا آخر مضادّا له في المعنى، وماضيا معه في الاتجاه من شأنه أن يسهم في تسرب معنى السطح إلى العمق صانعا للسياق تأويليّة محمّلة بدلالات يمكن استثمارها في رصد الرواية والبحث في طبقاتها.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

نبوءة فرعون – وسن مرشد

وسن مرشد   توظيف التراث الشعبي وأهميته، قراءة في رواية “نبوءة فرعون”لـ (ميسلون هادي) يعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *