زينب وماري وياسمين الأقلام – عقيل عبد الحسين (مجلة الاقلام)

الشخصية في رواية “زينب وماري وياسمين” لميسلون هاديّ

بحث في الموقع والتشكل والدلالة

د. عقيل عبد الحسين

مجلة الأقلام العدد الثاني السنة الثامنة والأربعون أيار-اب 2013

مدخل:

أعترف أن “زينب وماري وياسمين”(1) رواية احتاجت إلى الكثير من التأمل والتأني. فهي مبنية بطريقة أقرب إلى العفوية منها إلى التدقيق في كلّ مكونات العالم الروائي وإخضاعه لحركة صارمة توخياً لإنتاج دلالات بعينها تخصّ الراهن العراقيّ، الدينيّ والمذهبيّ والفكريّ المعقد، رغم أنّها تنطوي على أسئلة تتصل بكلّ تلك الأمور. وعندي أن هذه العفوية جعلت القارئ أمام رواية ممتعة مشوقة قلّ أن تجد لها نظيراً في السردية العراقية الحديثة، التي تعاني كما يرى بعضهم من ضعف الجانب التشويقيّ ما كان سبباً من إنصراف القراء عن الرواية وتراجع أهميتها الثقافية ومردودها الماديّ معاً وصولاً إلى انحسار الإقبال عليها من الكتّاب الذين صاروا يميلون إلى القصة القصيرة أكثر(2).

وبالمقابل جعلت الرواية الباحث أمام مهمة عسيرة بما أنه مطالب بحكم عمله بإخضاع الرواية لمنطق عام تسير عليه أفعال الشخصيات وتصرفاتها وصولاً إلى كيفية إنتاج الدلالة. وهو ما دعاني إلى إعادة النظر في هيكل البحث أكثر من مرة وصولاً إلى صياغة منهجية ونقدية أقرب إلى روح الرواية، موضوع البحث، الأمر الذي أؤكد عليه مبدئياً وفي جميع الحالات مع صعوبته هنا وأهميته في الوقت ذاته.

لقد وقع اختياري على الشخصية في رواية ميسلون هادي “زينب وماري وياسمين” لأسباب عديدة منها:

  • إن عنوان الرواية يشير صراحة إلى أدوار مرتقبة للشخصية، مهمة، حكائية ودلالية، داخل العالم الروائيّ وبالنسبة للقارئ، فهي تدور في الأساس على ثلاث شخصيات أساسية هنَّ زينب وماري وياسمين.
  • إن العالم الروائيّ يقوم على شخصية أساسية ساردة بالوكالة هي ياسمين تقوم بمهمة الراوي الأمين عن زينب وهي الأمّ الخطأ لها. وما تعرضت له أمّها، وهي من بعدها، من ظلم على يدّ أسرتها التي ارتضت لها أن تكون عوضاً في حادثة قتل لتضطر هي وأمّها (أي زينب وأمّها صبيحة) إلى الهرب إلى بغداد وتعيشان ظروفاً صعبة للغاية. ثم تتزوج زينب برجل سكير يؤذيها ويهينها(3). فلا تجد غير سرد الحزن والألم وسيلة للتخفيف عنها، وعلى مسامع ابنتها التي تتماهى عاطفياً معها وتتشكل إنسانياً على رؤية الأمّ فتبدأ أولاً بالنفور من الشخصيات الذكورية كالأب والأخ اللذين يمارسان عليها سلطة المنع والحبس والضرب خوفاً على شرفهما خاصة وأنّها فتاة مشتهاة وجميلة. فالأب يقول للأم إنّ ياسمين يجب أن ترتدي الحجاب لأنّها بيضاء اولاً ولأن عينيها خضر ثانياً. ويضربها أخوها مصطفى أمام صديقتها تبارك لأنها يجب أن ترتدي الجلباب فوق ملابسها ((أولاً لأن ملابسي تشف وثانياً لأنها تجعل الجميع ينظر إليّ على الدوام))(4). ثم بعد ذلك حين تعود إلى أسرتها الأصلية، المسيحية، ترفض التماثل المحتمل والضروري مع شخصية الأمّ الحقيقية المسيحية ماري لأنها من طراز آخر امرأة مسيطرة على البيت والزوج والعائلة تمتلك بيدها حرية القرار والخيار والهجرة والعودة كزائرة إلى بغداد. والكلّ يطيعها وينفذ مخططاتها بما فيهم الأب والأخ إلا ان ياسمين ترفض كلياً ما تريده ماري فهي ترفض الهجرة وترك العراق، كما تصرّ على الزواج من حبيبها رغم ممانعة الأمّ وتتزوج منه وتعيش معه في بغداد(5).
  • لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك عدداً كبيراً من الشخصيات كالفتاة البديلة (وهي بذات الأسم أي ياسمين) التي يتم استبدالها بياسمين، الساردة، يوم ولادتهما. وهي في الأصل ابنة العائلة المسلمة الفقيرة الشعبية. وهناك أيضاً صديقات ياسمين والجارة (أسامي) التي تتعرف عليها ياسمين بعد أن تعود إلى أسرتها الأصلية وهي صحافية ومثقفة تتولى كما يبدو نشر قصة زينب وماري وياسمين، وحبيبها (كافي الكيلاني) الذي يدفع ثمن موقفه الوطنيّ المتمثل بإصراره على البقاء في العراق وقت الحرب الإيرانية العراقية وعدم التخلي عنه ليُزجّ به في الحرب وينتهي إلى الأسر ليعود محطماً في التسعينيات وفي زمن الحصار فيقرر الفرار إلى دولة أجنبية ويموت هناك أخيراً دون أن يتزوج من المرأة التي أحبّها.

الشخصيات لا تأتي خالية من الحمولة الثقافية أو الإنسانية. وليست مجرد فواعل يمر من خلالها الفعل أو الحدث إلى ما بعده كما هو الشأن في الرواية التقليدية، ولكنّها على العكس أشبه بدوائر دلالية كبرى متمايزة ومتقاطعة لا تلتقي إلا سردياً وعبر ذات هي ياسمين تضعها يدّ الصدفة في مساحة صغيرة بين تلك الدائرتين وتُمكّنها من التنقل بينهما سردياً لإعادة التفكير فيما لا يمكن التفكير فيه بغير السرد ولاقتراح الحلّ الذي يأتي في آخر الرواية بطريقة تلميحية فعندما تغادر ياسمين المصح مع ابنتها يحدث الآتي: ((لقد نسيتم حجاب زينب (طفل من المصح وهو يركض وراء سيارة ياسمين). توقفي يا يا سمين (أسامي تقول لها). ولكن لم اتوقف (ياسمين تروي))) (6).

أما الدائرتان فتعودان (وبدون إعلان) إلى تمايزات المجتمع العراقيّ التي ظهرت ما بعد 2003 بشكلها الحاد والصداميّ. وأعني بها التمايزات الدينية وما يتصل بها من اختلافات إجتماعية ومناطقية وثقافية. فالأسرة المسلمة التي تجد ياسمين نفسها فيها هي أسرة فقيرة تعيش في حيّ فقير وتنتمي إلى تراث القمع والظلم للأنثى وهي متخلخلة إجتماعياً وقيمياً. أما الأسرة التي تعود إليها ياسمين فعلاً فهي أسرة مسيحية تعيش في حيّ راقٍ ولها وضع ماديّ مريح وتتولى شؤونها الأمّ ماري وتخطط لأفرادها. وهاتان الأسرتان لا تلتقيان فعلياً أو على أرض الواقع ولكنّهما تلتقيان سردياً ومن خلال ياسمين التي تأخذ سردياتها من جدتها (صبيحة) وأمّها الخطأ زينب، وتأخذ فعلها من أمّها الأصلية ماري. فهي رمزياً تنتمي إلى موروث الحزن الشعبيّ، وهو ما قد يؤثر على خياراتها، ولكنّها، خياراتها، وهذا ما تعلمته من ماري. ومهما تكن النتائج فهي تختار زوجها وتفشل فتنتهي بالطلاق وبطفلة معاقة عقلياً إلا انها لولا ذلك لما كان لها أن تقترح الحلّ لمأزقها الذي هو بشكل ما مأزق العراق ككل. ولا أقول مأزق المرأة.

إذن، تقوم ميسلون هاديّ بخرق الحدود القوية بين مساحتين متمايزتين، إلى حدّ التضاد، من خلال حيلة تبديل الطفلتين وزرعهما في بيئتين مختلفتين مختارة البيئة المسلمة الفقيرة الشعبية منطلقاً لسرديتها ولساردتها دون الأخرى، ياسمين المسلمة التي أودعت لدى الأسرة المسيحية، ربّما لأنّ الأسرة المسيحية لا تعاني من الإضطرابات الضرورية لتوليد السرد. وربّما لأنّ السردية العراقية الطاغية بعد 2003 (وأقصد بها سرديات الهوية العراقية ككلّ) هي سردية إسلامية شعبية تختزلها أحسن اختزال زينب بامتدادات اسمها الشيعيّ، والشاهد على الفجيعة والموت والسبيّ والفقد في الوجدان الشعبيّ الشيعيّ. وهي سردية من الممكن أن تتحول إلى وسيلة من وسائل التنافذ، فالعائلة الشيعية لم تتمسك باستعادة ابنتها الأصلية(7) وفضلت لها أن تعيش حياتها المعتادة، وبالمقابل لم ترفض ياسمين المسيحية بعد أن عرفت أنّها ليست ابنتها. بل على العكس وبالمقابل مكّن انتماء ياسمين الأخيرة إلى سرديات أمّها الخطأ الشخصية من التماثل مع مختلف الشخصيات في العالم الروائي دون تمييز، فهي تتقبل عائلتها المسلمة كما تنتمي على مستوى الطموح إلى عائلتها المسيحية، فتختار تجاوز مشكلاتها، وتتقبل وضع ابنتها المصابة بالتوحد كما تشير إشارة رمزية إلى عزمها على تخطي مأزقها الثقافيّ والإنسانيّ مُنحازة إلى وضعها الجديد فهي ترفض العودة إلى أخذ حجاب ابنتها من المصحة التي تتعالج بها مقترحة تخطي دائرة الدينيّ الذي يتخذ شكلاً من أشكال التمترس والتمييز غير المبرر ثقافياً وإنسانياً وغير المُجديّ للبلد.

الشخصية:

يخالف بورخس ما اعتاد عليه البنيويون من إفراغ للشخصية من محتوها الإنسانيّ للإكتفاء بأدوارها المرسومة سلفاً، فيقول إنه رواية خرافية عنوانها شكل الحسام ((يبدأ البطل برواية مغامرته الدنيئة وهو يتماهى مع ضحيته، قبل أن يعترف بأنه في الواقع ذلك الآخر، الواشي الجبان المُتناوَل حتى ذلك الحين، مع الإحتقار اللازم، بضمير الغائب. والتعليق الآيديولوجي على هذه الطريقة السردية… ما يفعله إنسان ما، هو كما لو يفعله كلّ الناس… أنا هو الآخرون، أيّ إنسان هو كلّ الناس))(8).

لا أريد أن أعلّق نتائج خاصة بشخصية ياسمين في رواية “زينب وماري وياسمين” إنطلاقاً من هذا الكلام، فليست هي كلّ شخص مع أنّها تنقّلت بحرية بين الحدود القاسية التي لا يستطيع غير السرد ان يذّوبها بسهولة(9). فهي ابنة عائلة مسيحية تذهب إلى عائلة مسلمة وتعود إلى الأولى لتنفصل بمواقفها وحياتها ورؤيتها المستقبلية، ولكنْ من الناحية العامة فليس يُنكر أن هذه الرواية تحديداً تمكنت من تخطي القيود المفهومية والسردية التي كانت تُفرض في الرواية عامة والرواية العراقية خاصة على الشخصية.

فالشخصية التي عدّها جبرا إبراهيم جبرا واحدة من أكبر عيوب الرواية العراقية، بقوله إن القليل من الروائين العراقيين ((يتابع أشخاصه وهم يتنامون ويتعارضون ويتصارعون على نطاق إنسانيّ ومجتمعيّ فسيح))(10). وهو ما يؤكد عليه قاص وروائي آخر فيقول: إنّ سبب شحة النتاج الروائيّ العراقيّ يرجع إلى افتقار أكثر الكتّاب إلى موهبة ((ضبط الشخوص وتلاحمها مع بعضها ثم حبكها وفق منظور روائيّ))(11). وقد أدركت ميسلون هاديّ نفسها هذه المشكلة فهي ترى في مكان ما أن الرواية العراقية تحقق إقتراباً جيداً من الواقع والمحلية ووصف المكان وتناقش الهموم السياسية والإجتماعية للإنسان العراقيّ. ولكنّها مع ذلك بقيت تُغلِّب التعامل الذهنيّ مع الشخصية. أو بعبارتها تبقى الشخصية الذهنية مسيطرة في الرواية ((لأن الكاتب ‏العراقيّ لا يعتمد طريقة البحث في ‏الكتابة، ويعتمد على خياله ‏ومعايشاته الفردية للحدث))(12).

وبالعودة إلى الحدود الآيديولوجية أو الإجتماعية أو الثقافية داخل العالم الروائيّ، فهي تأتي غالباً من تصّور مسبق للعمل الفني على أنه شكل من أشكال التوسط كما يقول سعيد بنكراد بين العالم القيميّ والقرّاء، فلا بدّ من أن تقول الرواية شيئاً للقاريء. لا بدّ من توجيه ما. لا بدّ من فكرة أو منفعة. وهي أمور لا تأتي إلا من شخص واعٍ، كاتب يمتلك القدرة على الإستفادة من التجارب والمشاهدات واستنباط قيمها أو تحويلها إلى براهين، ويمتلك المعرفة بما ينبغي أن يكون عليه العالم الأمثل، وقوانين النوع الروائيّ، ومواضعاته ومكوناته. وقارئ يعيد استنباط الدلالة، أو يستلم الرسالة المضمنة والمخبأة وراء الظواهر والأحداث والشخصيات، فكما يقول هامون ((إن درجة مقروئية هذا العالم تتحدد من خلال العناصر الثقافية المدرجة داخل النص، والمفترض أنّها مشتركة بين محفل الإبداع ومحفل التلقي))(13).

إنّ هذا الأمر يتطلب، وكما يرى السرديون، إسناد أدوار معينة لشخصيات، تقوم بها. وهذه الأدوار تتصل بالدلالة العامة التي تنطوي على صراع من نوع ما بين مكونين رئيسين أو أكثر وصولاً إلى موقف أو نهاية معينة، أو ما يسميه بنكراد البنية المفهومية التي لا يمكن أن تتضح من غير تمثيل أو من غير صياغة سردية لأحداث تقوم بها “أنات”. وبهذا تكون الشخصية ((قطباً تلتف حوله وتتبلور إنطلاقاً منه مجموعة من القيم الدلالية لتشكلها ككيان، وتتشكل عبرها كبنية دلالية كبرى تعود بنا من جديد إلى ما تم تسنينه من خلال فعل إنسانيّ سابق. وبعبارة أخرى تتحدد الوقائع الملموسة كذريعة توصل ما هو متحقق بالحدّ اللامرئيّ للقيم))(14).

إنّ الشخصية كما تبدو ليست حرة في حركتها وأفعالها وكلامها، لأنها تعمل ضمن محور قيميّ محدد، فهي إما خيرة أو شريرة. وما يُخلع عليها من إضافات او تكميلات أثناء السرد لملء الفجوات وللوصول بالأحداث إلى نهايتها إنّما يأتي مما يسميه السرديون “إرغامات” مفهومية أو آيديولوجية أو دلالية مسبقة، أو ينتمي إلى سجل معروف لدى القّراء غالباً ليكون ما يصدر عن الشخصية كما يرى هامون محفزاً للجهاز القيميّ وهو يأتي من خلال نظرة الشخصية وعملها وكلامها ((الذي يكشف انتماءها ومستواها الإجتماعيّ والثقافيّ))(15).

تتصل هذه التصورات عن الشخصة بالتنظيرات الحديثة للرواية لا بما هي أقدم سبيلاً منها (كما سأشير بعد قليل) وهي إلى حدّ ما تعود إلى ما يشبه العقد الضمنيّ الذي عقدته الرواية العربية في وقت ما مع القرّاء إذ يشير عبد المحسن طه بدر إلى تغيّر الموقع الثقافي للرواية وتحولها من مكان الرفض والاحتقار إلى موقع القبول والتقدير الذي جاء نتيجة لتبنيها أدوار التنوير والإصلاح والنقد(16) الذي صاحبه تطويع لبنيتها السردية لتتخلص من خصاصها الشعبية كالإستطراد والتوسع والزجّ بالغريب والخرافيّ من الأحداث والشخصيات في سياق السرد. وتحولها إلى البنية السردية المكتملة والمحددة زماناً ومكاناً أحداثاً وشخصيات ورؤية، وإلى اللغة الفصحى او القريبة منها(17) وإلى تبنّيها موقفاً من الأحداث والمشكلات التي تددور من حولها.

إنّ هذا العقد جعل الرواية تتمسك أكثر بورقية العناصر السردية (على حد تعبير البنيويين)(18)، وبكونها إحالات إلى قيم ودلالات؛ نقداً وتصححياً واقتراحاً أحياناً، أو بدون الأخير في أوقات كتلك التي أشار اليها الدكتور محسن جاسم الموسويّ(19)، حيث جرى بعد هزيمة 67 التخلي عن الرؤية التي تبنتها الرواية المحفوظية، وتمّ استبدالها بتجريب أساليب وإمكانات جديدة تشير إلى فداحة الخسارة، وإلى غياب التشخيص الدقيق للواقع، وتخلخل الذات والمواقع التقليدية. ولكنْ من خلال البنية السردية الواضحة البناء ذهنياً وسردياً بمرجعياتها الواقعية أحياناً ومرجعياتها التراثية والخيالية غالباً.

قبل ذلك ربّما كان للشخصية دور آخر في العالم الروائيّ كما ترى فرجينيا وولف(20) ويحدد فورستر(21) فهي جوهر الرواية وهي تشخيص لا يغفل الجانب الإنسانيّ بل يُذكِّر به باستمرار من دون الوقوف على حدود فاصلة آديولوجيا أو دلالياً أو تمثيلياً. إنّها تشبه شخصية بورخس التي تتنقل بين الحدود، فهي هي، وهي الآخرون في الوقت ذاته. إنّها إلى حدّ ما شخصيات دستويفسكي(22) التي تحيل إلى الإنسانيّ بما فيه من غموض واضطراب والتباس وتداخل للحدود بين العقلانيّ والعاطفيّ، وبين الواقعيّ والنفسيّ. بين المُسيطَر عليه والمنفلت، وهي التي تنمو من خلال السرد ومن دون تحديد مسبق، وعلى حدّ تعبير القاص محمد خضير فـ ((إنّ أفضل الروائيين الذين يفكرون وهم يتقدمون مع شخصياتهم، أي وهم يسردون الخيالات كأنّها حقائق، والحقائق كأنّها خيالات))(23).

تحديدات أولية باتجاه فهم جديد لدور الشخصية في رواية ميسلون هاديّ:

لا بدّ من الإتفاق على أنهّ ليس ثمة قياسات معينة للكتابة الروائية، أو لصناعة مكون من مكونات الرواية كالشخصية مثلاً، ولكنْ لا بدّ أيضاً من الإشارة إلى أنّ النقد أو التفكير النقديّ، لدى الكاتب، قد يشكل موجهاً عاماً للكتابة الروائية. وقد يلقي بظله على الكتّاب، خاصة وأنّ الروائي الآن مُطّلع بشكل تامّ على علوم السرديات، وما يُكتب فيها من تنظيرات وآراء. كما أنّ رغبته في المغايرة لما هو معروف من الأساليب الروائية من جهة، وإيجاد طرق جديدة في السرد أو صياغة الشخصية تكون أكثر تأثيراً وإقناعاً في التعبير عن المتغيرات التي يشهدها المجتمع. والأمران معاً يُضاف إليهما تزايد المنجز الروائي العراقيّ كماً(24) جعلا، ربّما ودون قصد، روائية كميسلون هاديّ تعيد النظر في أدوار بعض العناصر السردية وأثرها في تشكيل العالم الروائيّ وإعادة النظر من خلال ذلك في الراهن العراقيّ الحاليّ مع اقتراح موقف شفاف مما يجري.

وسيكون العنصر محلّ الإهتمام، كما أفترض، هو الشخصية، التي تنقسم في رواية “زينب وماري وياسمين” من حيث الموقع والدور المترتب عليه إلى قسمين:

الأول: ما يمكن أن نسميه من داخل المشهد، فالشخصية تتحرك ضمن نسق ثقافيّ وإجتماعيّ وفكريّ وإنسانيّ وسرديّ مرسوم مسبقاً، وهو قهريّ لا تستطيع أن تخرج عنه أو تنظر إلى الوقائع والحياة من خارجه أبداً، وهذا الموقع يحدد دور الشخصية التي تنقسم فيه إلى:

  1. شخصية متكلمة تكتفي بالكلام الذي تتولى الساردة الوحيدة في الرواية وهي ياسمين سرده، ولا تأتي بشيء غير الكلام، فهي تروي أحداث حياتها وخيباتها وما تعرضت له من ظلم على يدّ عائلتها التي قدمتها فصلاً (فدية) لعائلة أخرى قتل أخوها إبناً لهم، ثم فرار المرأة مع ابنتيها وابنها إلى بغداد وزواج الابنة الكبرى من فقير سكير يواصل معها سيرة الظلم والإيذاء النفسيّ والجسديّ(25). وهذه الشخصية هي الأمّ المسلمة زينب والجدّة أمّ زينب (صبيحة) التي تتولى حكاية بعض الأحداث في المضمون ذاته لياسمين، فهي ((تندب حظها العاثر وتقول إن القدر قد ظلمها قبل ثلاثين عاماً على ذنب لم ترتكبه هي بل ارتكبه أخوها جبار… وهي تقول إن جديّ عبد السلام (زوج صبيحة) أحسن معاملتها، بالرغم من أنها كانت فصلية، ولكنّه بعد أن مات مدهوساً بقلابية طابوق، طلّعت أمه وأخته قهر الدنيا بنا… وجعلوا من أمّك زينب وخالتك زمان تعملان في حظائر الأبقار)). و((قالت بيبي صبيحة (عن أبي ياسمين محمد) إنه كان أنيقاً حلواً في شبابه المتأخر، ولو كان قد خطب زينب في شبابه المبكر لوجدناه لُقْطة من السماء، ولكنّه تبهذل من لعب الريسز وتعلم الكفر هناك.. مسكينة أمّك زينب أخذوها كالشروة.. والعوز اضطرنا إلى بيعها بمهر قدره ثمانمئة دينار بعد أن عجزنا عن تسديد ثمن بناء غرفة نحتمي بها من برد الشتاء وشموس الصيف، كنا في فقر مدقع فأخذوها منّا سداداً للدين.. بعناها إلى رجل أكبر منها بثلاثين عاماً.. وهي أيضاً كانت أكبر من عمرها… ألم تمنع أختها زمان من الرقص مع قمر خانم؟))(26).
  2. شخصية فاعلة، وهذه تقريباً لا تتكلم أو تروي لياسمين الساردة أيّ شيء، ربّما لأنّها ليس لديها تاريخ حزين أو مأساويّ ترويه لها، وإنّما تقوم بالأفعال اللازمة لتواصل الرواية وامتدادها زمنياً، وهذه الشخصية هي ماري الأمّ المسيحية التي تقوم بتريبية ياسمين الإبنة الخطأ المسلمة، وتسعى إلى استعادة ابنتها الأصلية من العائلة المسلمة والإبقاء على الإبنة الخطأ حماية لها من مصير سيء قد يحلّ بها إنْ هي ذهبت للعيش مع العائلة المسلمة مكان ياسمين ابنتهم المستعادة، ثّم العمل على أن تستكمل ياسمين دراستها، والعمل على أن تهاجر الأسرة كلّها إلى خارج العراق نتيجة تأزم الوضع العراقيّ بعد 2003 والهجرة ومتابعة شؤون ابنتها ياسمين التي رفضت الهجرة وفضلت البقاء في العراق عبر زيارتها بين حين وآخر لمتابعة شؤونها ومشكلاتها مع زوجها الذي اختارته رغم عدم موافقة ماري. إنّها وعلى أيّة حال تقوم بأفعال كثيرة. فهي ((تذهب إليه (إلى محمد أبي ياسمين الأخرى الحقيقيّ)… بدت متأكدة أنّها تستطيع إقناعه بما تريد.. لديها سحر خاص ولسان راقص جعلها تعبر الحاجز إليه… ستتوصل إلى حلّ لتفكيك تلك المشكلة وإيصالها إلى برّ الأمان)). و((ماري بذكائها الشديد كانت تراقبني عن بعد… أما عندما ظهر إبراهيم أخو هاجر في حياتي فقد حدست فوراً أنني لن أهاجر معها إلى كندا… حاولت أن تزيح إبراهيم عن طريقي بطريقتها الذكية الخفية)). و((ماري الآن تريد البحث عن حريتها في مكان جديد.. تريد أن تهاجر فيتبعها أدور وعبد الأحد وياسمينتان))(27).

وتختلف الشخصيتان كلّيّاً. فالأولى كلامية أما الثانية فهي فعلية. وتترتب على ذلك مجموعة من الخصائص المتصلة بكلّ من الشخصيتين حيث الأولى سلبية. فالجدة صبيحة تقول عن زينب ((الكبيرة كانت ذليلة فقيرة)) (28) والثانية إيجابية فـ((ماري التي تجري وتضحك وتقودني إلى نتيجة واحدة… هيّا إلى العالم))(29). الأولى ثابتة، فزينب ((عاشت مظلومة وماتت مظلومة)). و((المسألة الكبرى هي أن تتحرك زينب من مكان إلى آخر.. وعندما تريد عبور الكرخ إلى الرصافة تقدّم رجلاً وتؤخر أخرى))(30) والثانية متطورة ((صاخبة بالحركة)) و((بكلّ سهولة تنتقل… من مكان إلى مكان… بقيت في الأردن ثلاثة أعوام قبل أن تطير إلى كندا… أصبحت تزورني للإطمئنان على زواجي))(31). الأولى تموت ((زينب المظلومة ماتت)) (32) والثانية تستمر في الحياة. الأولى تخسر ابنتها (فتموت لذلك حزينة) ((أمي زينب قد ماتت وهي تدري بأنني لست ابنتها))(33) كما تخسر الثانية، ((قالت (الخالة زمان) لماري إنه (أي الأب) مطمئن عليها (ياسمين ابنته) معكم ما دامت مريضة وتحتاج إلى علاج مستمر، ومطمئن عليها أكثر ما دامت مع ابنته الأخرى ياسمين التي يثق بخلقها وأدبها)) (34)، والثانية تربح البنتين((تمسكت ماري بياسمينها)) (35). الأولى تُروى حكايتها والثانية تهتم بمصير عائلتها وحياتهم. الأولى تعيش في الماضي ((أمي زينب كانت فصلية ابنة فصلة، وابنتها ستكون فصلية أيضاً))(36). والثانية تعيش للحاضر والمستقبل ((ماري أفكارها واضحة عن كلّ شيء.. ترسم صورة للفكرة كما هي موجودة في رأسها لا كما يجب أن تكون)) (37). الأولى تسبب الفشل لمن يعيشون معها أو يصغون إليها فياسمين تفشل لأنّها تختار زوجها بحساسية زينب وعاطفتها ((وكأنّ روحي قد أصبحت شظايا متناثرة تعجز قبضة جسدي عن الإمساك بها))(38). والثانية تساعد من يقتدون بها على الحياة حياة أفضل. الأولى تصنع الرواية أما الثانية فتقترح الحلّ.

النوعان من الشخصيات في داخل المشهد تسهمان في تشكيل العالم الروائيّ، فالأولى تمدّه بالسرد والثانية بالأفعال اللازمة لخلق الحبكة والتشويق الضروريّ للتواصل مع القرّاء، ولإبداء الموقف. وبالتالي تسهمان في إقامة مساحتين مختلفتين ومتضادتين تماماً ضروريتن للتمثيل للراهن العراقيّ الحاليّ بمشكلاته التي ترجع في مجملها إلى تمايزات الإنتماء الدينيّ والمذهبيّ، ولإنتاج موقف من ذلك الراهن. وكلّما زادت حدّة الإختلافات بين النوعين ازدادت قدرة النوع الثاني من الشخصيات على الفاعلية والتأثير.

أما النوع الثاني من الشخصيات فهو المقصور على الساردة أو الذي تمثله ياسمين الساردة التي تتخذ لها موقعاً في العالم الراوائيّ من خارج الأحداث (أو المشهد) وهو يبدأ قدرياً وصدفوياً وعبثياً، لأنّه نادر الحدوث. فمن النادر جدّاً أن يجري تبديل طفلتين تُولدان في ذات اليوم في المستشفى ذاته وتُسميان بالاسم نفسه مصادفة فتأخذهما الممرضات للمشاركة في احتفالية تُقام بمناسبة المواليد في يوم 29/شباط الذي يأتي كلّ أربع سنوات ثم تعيدانهما متبدلتين، فتقع ياسمين ابنة العائلة المسيحية للعائلة المسلمة والعكس(39).

ولكنْ هذا الموقع القدريّ الذي بدأ سلبياً في المرحلة الأولى من حياة ياسمين وحيث كانت جزءاً من الأسرة المسلمة التي اخضعتها لرقابة شديدة ولزيّ إسلاميّ، وراقبت كلّ تحركاتها وحددتها في دائرة الإستماع لمرويات نساء العائلة متشابهات الظروف والمصائر.. مع كلّ ذلك تتحول فيما بعد إلى موقع إيجابيّ فعّال، آخذة دور المراجعة لسرديات القهر في ظروف ياسمين الجديدة التي وفرت لها فرصة إختبار تلك السرديات عملياً من خلال الإصرار على خيارها، ورفض الإنصياع لرغبة الأمّ الأصلية ماري، لتتحول إلى دور الفعل فهي تتزوج من تريد، وتعيش معه، ثم ترفضه لمحاولاته إعادتها الى دورها القديم ((كان إبراهيم يتحدث عن ملكه الذي يجب ألّا يصافحها أحد… قال لي إلبسي الحجاب ولا تجلسي منفردة مع الأجانب… ودارت الأيام وصار شَعري بالنسبة له أهم شؤون حياته على الإطلاق.. أصبح ينظر إليه كما كان أبي ينظر إليه فعرفت أنّه سيعصر ياسمين مثل الخرقة)) (40). وإلى ما كانت عليه في عائلتها المسلمة وفي سرديات القهر الذي وجدت أمّها زينب عليه، متكلمة غير فاعلة. لتطلب الطلاق وتصرّ عليه، ولتأخذ زمام تربية ابنتها الوحيدة المعاقة عقلياً، ولتقرر مواجهة وضع الابنة للوصول بها إلى مستقبل مختلف غير ذلك الذي أُريد لهنَّ معا.

إنّ رواية من هذا النوع، وكما تقول يمنى العيد في معرض حديثها عن رواية الظل والصدى ليوسف حبشي الأشقر، تهيئ لكتابة تستعيد موقع الفاعل في علاقتها بموضوعها. فمقابل انسي يبرز اسكندر في صورة فاعل وكأنّه خارج المشهد(41). ومقابل زينب وماري اللتين تبدوان شخصيتن رئيسيتين تمثلان قطبين مختلفين ومتضادين في كلّ شيء، وداخل المشهد تسهمان في رسم عالم الرواية، وتحركان الأحداث، هناك ياسمين التي تبدو أولاً خارج المشهد كليّاً، وبطريقة عفوية وقدرية، لتكون، في البداية، غير مؤثرة لا فعلاً ولا سرداً، ولكنّها تتحول إلى شخصية فاعلة لقدرتها النسبية على التحرك بين القطبين أو المساحتين بحرية ومن دون ممانعة او رقابة أو رفض من الطرفين، ولتمسكها بموقعها المتفرد رافضة الإنتماء لأيّ دور من أدوار الشخصيات داخل المشهد أو المساحتين المتمايزتين دينياً وإجتماعياً وثقافياً. فهي ترفض الإنتماء الكلّيّ لسرديات الأمّ الخطأ والذوبان فيها، كما ترفض القيام بأفعال الأمّ الأصلية، أو ما تريده منها، لتقيم سرديتها الخاصة بها من خلال التجربة، وتحمّل مسؤلية الخطأ والرغبة في معالجة نتائجه وصولاً إلى اقتراح حلّ يبدو رمزياً، ولكنّه واضح يقوم على الإرادة الفردية والحرية الضروريتين لإقامة الحياة الفردية أو الإجتماعية على السواء.

على سبيل النتائج:

لقد ساعد ذلك التنوع في المواقع للشخصية داخل الرواية على:

  • تشكيل المساحات الروائية الرئيسة التي ستنتج السرد والدلالة، أو ستقوم بتمثيل الراهن العراقيّ الذي لا تستطيع رواية عراقية أن تتخطاه لفداحته ولحجم حضوره الإنسانيّ والثقافيّ في الحياة العراقية في هذه الحقبة. فمن خلال زينب وماري اتضحت الفواصل الدقيقة والحادّة المتغايرة التي ينطوي عليها المجتمع العراقيّ، مُشاراً إليها من خلال أسرتين تشكل الأنثى في أحداهما الموقع الأدنى فعلياً ولكنّه الأكثر تأثيراً عاطفياً وسردياً. بينما تشكل في الثانية الموقع الأعلى فعلياً، ولكنه الأقل تأثيراً سردياً وحتى واقعياً. فالأمّ سرعان ما تنسحب من حياة ياسمين بهجرتها العراق بعد تصاعد الأحداث السيئة فيه.
  • زيادة فاعلية الساردة التي تأخذ سردياً موقعها من عدم انتمائها النهائيّ إلى واحدة من المساحتين المتمايزتين داخل العالم الروائيّ، فهي في الأصل تنتمي إلى الأسرة المسيحية أي بالدم، وبالتربية والنشأة تنتمي إلى الأسرة المسلمة. هي سردياً تنتمي إلى زينب التي تحبّ حكاياتها، وتعشق تمازجها العاطفيّ مع وجودها. فتلك تقول لها إنها ستموت إذا أخذها أحدهم منها، أو إذا ضاعت هي منها لأيّ سبب(42). بينما تنتمي في الفعل إلى ماري التي تُفضل أن تقرر وتختار الحياة الأفضل، وإن كانت هي بطريقة ما لا تهمل قلبها ورغبتها وإحساسها، فهي تميل إلى تجربة الحياة واكتساب الخبرة من خلال ذلك. ولذا تُقدِّم على الزواج ممن تحبّ، وتختار بقلبها رغم عقلانية ماري وتحذيراتها. فهذا سيجعلها أقدر على التصرف، وتحمّل المسؤلية، وعيش حياتها بطريقتها لا كما يرسمها لها غيرها أيّاً كان، فتتحول إلى أداة بيد من يفكر لها ويختار لها.
  • تقديم طرق متعددة للوجود والمعرفة والحياة تعكس واقع المجتمع وطبيعته وتسبغ على الرواية حيوية ضرورية لها، مع إظهار إمكانية ثانية فاعلة تمثلت بشخصية ياسمين التي كانت ومن خلال تنقلها بين الحدود الإجتماعية والدينية والثقافية تعمل على تدمير تلك الحدود وإبراز عيوبها ومشكلاتها لإثبات أنّ أيّ تحجر ضمن حدٍّ منها سيؤدي إلى نتائج سيئة. فالبقاء في دائرة زينب سيؤدي إلى الموت، وإلى الهزيمة، وإلى الخسارة. كما أن الإنتقال إلى دائرة ماري لن يؤدي إلى غير التخلي عن أيّة رغبة في التميّز وإقامة الحياة الشخصية والنجاح في تخطي المشكلات المستجدة. وهي على أيّ حال لن تقدّم حلّاً سوى الهجرة والفرار من الوضع القائم، الشيء الذي ترفضه ياسمين نهائياً.
  • ستحيلنا هذه النقطة الأخيرة إلى واحدة من أهم ميزات هذه الرواية وهي تعدد الرؤى الشفيف، على طريقة تنفس الغزلان كما يصف إيكو(43)، الذي ينتج بهدوء ودون إعلان واضح أو من خلال تعدد الرواة المعتاد في الرواية العربية، وما يتطلبه من محاولات زائفة لتقديم وجهات نظر مختلفة شكلاً ولكنها في الغالب غير مقنعة سردياً وإنسانياً كما هو شأن الرواية التي تتبنى تعدد الرواة الظاهر تقنياً دون أيّ إثراء دلاليّ أو فنيّ حقيقيّ. إن الرواية عبر موقع ياسمين عملت على نقل وجهات نظر وطرق حياة وأفعال متنوعة من المجتمع، من دون تبني موقف محدد، أو رفض الآخر، أو تقديم تبريرات للرفض أو القبول، أو حتى إعلان طريقة حياة جديدة ثالثة بصراحة وكردة فعل تجاه أيّ موقع من المواقع في الرواية أو أيّة شخصية من الشخصيات. بل إنّها تحركت بين الحدود بعفوية وتلقائية وأقامت فاعليتها دون ضجة ودون تبريرات كلامية ودون نفيّ أو نقض لأيّة جهة أخرى أو تصرف، لقد قامت بما يشبه إنتاج “إضعاف التعظيم الذاتيّ” الناتج من تعدد الرؤى والمواقف وطرق العيش كما يقول كتاب الردّ بالكتابة(44)، وهو الأمر الذي تحتاجه الثقافة العراقية في هذه المرحلة تحديداً لتجاوز مأزقها الحاليّ. والأمر الذي أعتقد أنّ قلّة من الروايات العراقية في العقد الأخير عملت عليه وبطريقة سردية عالية الموضوعية كما فعلت ميسلون هاديّ ومن خلال عنصر الشخصية الذي ظل في الرواية العراقية أسير التأطير الذهنيّ والتنميط المكشوف في الأكثر وفي حالات أخرى خاصة في الروية التي كتبت ما بعد 2003 ظل ثانوياً وباهتاً تحت ثقل الحدث الجلل.
  • افترض إذا سُمح لي بأن أقرأ الرواية بطريقتي، أن ياسمين هي ما ينبغي أن يكون عليه المثقف، وتكون عليه الثقافة من تفكيك حالة التضخيم الذاتيّ التي تستولي على العقل العراقيّ في هذه الفترة وتتجه به إلى المزيد من الإحتراب والضعف، وفي مختلف المجالات، ولن يكون ذلك إلا من خلال إصغائه (أعني المثقف) واستفادته من السرديات المكونَة للهوية العراقية على اختلافها لتقديم حلّ عمليّ للازمة الراهنة بغض النظر عن كارثية ما تنتجه (من حاضر متخلف عقلياً بل في كل شيء). ولكن لا بدّ من اقتراح بديل عمليّ من خلال الفصل بين السرديات التقليدية والقديمة والضرورية للتميز والإحساس وبين الآخر العقلانيّ وصاحب الحلول المُنقذَة من الهاوية، ولكن المجرِدة للذات من رغبتها الطبيعية في التفكير والإختيار والتجربة والوصول إلى الحلول المناسبة وتحمل نتائج التاريخ ونتائج التجربة الحالية بعيداً عن الانمساخ.

        الهوامش

  1. زينب وماري وياسمين (رواية)، ميسلون هادي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1/2012.
  2. يُنظر: سؤال الرواية في العراق “استفتاء”، مجلة الأقلام، س28، ع7-8، تموز-آب-1993.
  3. يُنظر: زينب وماري وياسمين (مذكور)، 15.
  4. السابق، 11.
  5. السابق، 127.
  6. السابق، 202.
  7. السابق، 92.
  8. خطاب الحكاية “بحث في المنهج”، جيرار جنيت، ترجمة: محمد معتصم وآخرون، المجلس الأعلى للثقافة، ط2/1997، ص256-257.
  9. يُنظر: الهوية العراقية في انشطارها بين ثقافتين، سلمان زين الدين، جريدة الحياة البيروتية، نُشر بتاريخ 12/1/2013. يقول الكاتب في إشارة إلى بعض مشكلات الحبكة في الرواية: ((وبعد سبعة عشر عاماً، تهتدي أسرة عبدالأحد المسيحية الغنية إلى ابنتها المفقودة ياسمين، بطلة الرواية وراويتها، التي تربّت عند أسرة محمد المسلمة الفقيرة، من دون أن تقول الرواية كيف حصل ذلك، ما يُشكّل فجوة في مسار الأحداث)).
  10. استفتاء حول حاضر ومستقبل الرواية العراقية، الأقلام، العدد 5، س2، شباط 1977، ص 69.
  11. السابق، خضير عبد الامير، 71.
  12. ميسلون هاديّ: أنظر إلى العالم من خلال هويتي كامرأة، حوار أجراه صفاء ذياب، جريدة الصباح، العدد 2790 تاريخ 3/4/2013.
  13. النص السردي “نحو سيميائيات للإيديولوجي”، سعيد بنكراد، دار الأمان-الرباط، ط1/1996، 94.
  14. السابق، 94-95
  15. سيميائيات آيديولوجية، د.حبيبة الصافي، محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع، سورية-دمشق، ط1/2011،ص143.
  16. ينظر: تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (1870ـ1938)، د. عبد المحسن طه بدر، دار المعارف، القاهرة، ط5، ص46ـ47. يقول المؤلف إن ((نزول المصريين إلى ميدان النتاج الروائي ومنافستهم للمهاجرين من الشوام ومحاولة استغلال الأشكال الروائية العربية القديمة (جاء) للتعبير عن أفكارهم الإصلاحية)).
  17. دافع محفوظ عن الفصحى في الرواية بشدة، ينظر: التعبير الأدبي وصورة الواقع عند نجيب محفوظ، سامي خشبة، مجلة نزوى، شهر6، 2009.
  18. مقولة الشخصية كائن من ورق مشهورة عن البنيويين. راجع: مستويات دراسة النص السردي “مقاربة نظرية”، د.عبد العالي بو طيب، مطبعة الأمنية، الرباط، ط1/1999، ص43 وما بعدها. وراجع أيضاً: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، د. حميد لحمداني، المركز الثقافي العربي، ط3/2000، ص50 وما بعدها.
  19. يُنظر: الرواية العربية “النشأة والتحول”، د. محسن جاسم الموسوي، دار الآداب ـ بيروت، ط2/1988، ص46.
  20. يُنظر: نظرية الرواية في الأدب الإنكليزي الحديث، دراسات بقلم هنري جيمس وآخرين، تر: د. أنجيل بطرس سمعان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1994، ص56. وترى وولف ((أن الشخصية أساس الرواية وأن الشكل الروائي قد خلق للتعبير عن الشخصية)).
  21. أركان القصة، ا.م. فورستر، ترجمة: كمال عياد جاد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001. يقول فورستر في ص103: ((إن أساس الرواية الجيدة هو خلق الشخصيات، ولا شيء سوى ذلك)).
  22. ينظر: السابق، 163ـ165. تحليل لشخصية (ميتا) في الأخوة كراموزوف، وإظهار لأوجهها الإنسانية المختلفة. ويظهر في المقطع الروائيّ (ميتيا) المتهم بقتل والده مع مجموعة من الأشخاص وهم يراجعون شروط اتفاق للمرة الأخيرة، وقام ميتيا رقد على صندوق كبير مغطى بسجادة، وفي الحال استغرق في النوم، ورأى حلماً غريباً.. كان مسافراً في مجاهل الصحراء الروسية وكان يركب عربة يجرها زوج من الخيل يقودها فلاح، وعلى مسافة كانت هناك قرية، وكان يستطيع أن يرى الأكواخ المحترقة، وكانت هناك فلاحات اجتمعن على جانب الطريق نساء كثيرات كلهن مخيفات واهنات وقد غطى لون بنيّ وجوههن وخاصة امرأة عجفاء وكان بين ذراعيها طفل صغير يبكي وقد بدا ثدياها جافين ليس فيهما قطرة واحدة من اللبن. واستمر الطفل في بكائه ومد يديه الصغيرتين بقبضتيهما الصغيرتين الزرقاوين من البرد. وسأل ميتا وهم يندفعون في مرح لماذا يبكون؟ لماذا يبكون؟ فأجاب السائق إنه الرضيع.. إن الرضيع يبكي. وسأل ميتيا بإصرار وغباء ولكن لماذا يبكي؟ ولماذا يتركون ذراعيه الصغيرتين عاريتين؟ لماذا لا يغطونهما؟ ماذا؟ لأنهم فقراء، أتت عليهم النار. ليس لديهم خبز. إنهم يسألون الناس في الطريق لأن النار أحرقت دورهم. وبدا ميتيا وكأنه لا زال لم يفهم، كلا.. كلا.. لماذا لم تقف؟ هؤلاء الأمهات الفقيرات هناك. لِمَ يكون الناس فقراء؟ لماذا يكون الرضيع فقيراً؟ لماذا تكون مجاهل الصحراء جرداء؟ لماذا لا يحتضنون بعضهم البعض ويتبادلون القبل؟ لماذا لا يغنون أغاني المرح؟ ولماذا اسودت وجوهم هكذا من البؤس الحالك؟ لماذا لا يطعمون الرضيع؟ ورغم أن أسئلته كانت خالية من من العقل والشعور إلا أنه أحس بأنه يريد أن يوجهها فقط. وعندما يستيقظ ميتا يجد تحت رأسه وسادة لم تكن تحته عند نومه ولذا يشعر بالرحمة والشفقة ويبكي فرحاً.
  23. الرواية الغائبة، محمد خضير،” مجلة آفاق ادبية، ع1، كانون الثاني-شباط-آذار، 2012، س2، ص65.
  24. يُنظر: الرواية العراقية في العقد الأول من القرن “واقع وحقائق ومؤشرات”، د. نجم عبد الله، صحيفة المدى، مقال منشور بتاريخ 9/9/2012، يقول د. نجم: ((يجب أن نعرف أن عدد الروايات الصادرة خلال فترة عشر سنوات ممتدة من 2001 إلى 2010 هو 300 رواية تقريباً. ولكي يميز القارئ ما يعنيه هذا من ناحية الأهمية والدلالة…)).
  25. زينب وماري وياسمين (مذكور)،71-72.
  26. السابق، 15 و133.
  27. السابق، الصفحات: 70 و109 و118.:
  28. السابق، 15.
  29. السابق، 61.
  30. السابق، الصفحات: 44 و132.
  31.  السابق، الصفحات: 94 و131.
  32. السابق، 44.
  33. السابق، 36
  34. السابق، 92.
  35. السابق، 69.
  36. السابق، 71.
  37. السابق، 31-32.
  38. السابق، 111.
  39. السابق، 122.
  40. السابق، 115-116.
  41. الكتابة تحول في التحول، د. يمنى العيد، دار الآداب-بيروت، ط1/1993، ص69.
  42. زينب وماري وياسمين (مذكور)، 94.
  43. آليات الكتابة السردية، أمبرتو إيكو، تر: سعيد بنكراد، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط1/2009، ص48. يقول إيكو: ((هناك روايات تتنفس مثل الغزلان وأخرى مثل فيل أو حوت)).
  44. يُنظر: الرد بالكتابة “النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، بيل أشكروفت وآخرون، تر: د. شهرت العالم، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1/2006. ويتحدث الكاتب عن امتداد الشخصيات الروائية وما يترتب عليه من تعقيد للعلاقات ووجود طرق عديدة للوجود والمعرفة ((والأفعال لتدمير إقامة أية فكرة أو طريقة واحدة للوجود على نحو بديهيّ)) ص171. وهي آلية يسميها الكتاب في مكان آخر “الإزاحة عن المركز” ((التي تنتج من تعدد الرؤى لإضعاف التعظيم الذاتي)) ص172.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

نبوءة فرعون – وسن مرشد

وسن مرشد   توظيف التراث الشعبي وأهميته، قراءة في رواية “نبوءة فرعون”لـ (ميسلون هادي) يعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *