زينب على ارض الواقع – حسين سرمك حسن

 ميسلون هادي : إختصاصية السرد المنضبط بين الواقع والخيال

————————————————————

                    حسين سرمك حسن

صحيفة المثقف 5-9-2011

وأيضا في موقع الناقد العراقي 18-6-2011

في قصّة “زينب على أرض الواقع” من مجموعتها القصصيّة “رجل خلف الباب” الصادرة في بغداد في عام 1994 تقول القاصة والروائية المبدعة الكبيرة “ميسلون هادي” على لسان الراوية:

“-أنا لا أكتب قصصاً واقعية، وأكتب في النقطة المشتركة بين منطقة الواقع ومنطقة الخيال”.

ثم توجه الراوية الكلام إلى الأسير العائد الذي يطلب منها أن تكتب قصته: “هل تعثر حفريات الآثار على سبائك الذهب أم على أساور وقلائد  وأقراط؟.. تقريباً هذه هي وظيفتي؟.. أن أحوّل السبائك إلى أقراط وأساور وقلائد…”

وقد قدمت ميسلون هادي الكثير من الأقراط والأساور والقلائد القصصية في عالم الأدب القصصي العراقي والعربي منذ صدور مجموعتها القصصية الأولى “الشخص الثالث” في عام 1985 متمسكة بالرؤية التي حددتها بدقة ووضوح في الحوار القصصي الذي قدمناه قبل قليل. في تلك المجموعة أحسسنا، ولو بتردّد، أن ثمّة لوناً جديداً من ألوان الكتابة القصصية بدأت إرهاصاته تتشكل على أرض الإبداع القصصي العراقي بشكل أولي وبسيط. وقد تجسّد ذلك بشكل خاص في قصتي “الطاحونة” و”الشخص الثالث”. ولم تكن وقائع هاتين القصتين تجري في المساحة المشتركة بين منطقة الواقع ومنطقة الخيال فحسب بل كانت مركبتها تتحرك ذهاباً وإيّاباً في طريق ذات ممرين بين هاتين المنطقتين مُوقعة القارئ في لعبة لذيذة من الإيهام والتشكّك وعدم اليقين والإثارة. وقد استفادت القاصة  في ذلك وباقتدار من تقنية القصّة البوليسية في تصميم مسارات مربكة ونهايات ملغزّة، مفتوحة. أمّا القصص الأخرى من تلك المجموعة فكانت في أغلبها سردية مباشرة مثل قصص أيّ بداية إبداعية.

ولكن هناك سمة أخرى تميّز هذه القصص المبكرة تنبغي الإشارة إليها وذلك لأنها سمة إبداعية شاملة في الفن القصصي لميسلون هادي نمت وتصاعدت مع تطوّر هذا الفن، وظلت مسيطرة على أجوائها القصصية حتى الآن ألا وهي سمة سيادة مناخات الموت والخراب ودوافع الإنسان العدوانية. ففي نفس قصّة “زينب على أرض الواقع” التي اقتطعنا منها حوار الافتتاح يطلب الأسير العائد من القاصة أن تضع نهاية سعيدة لقصته التي طرح خطوطها المركزية عليها، والتي تمثّلت في اختفاء حبيبته “زينب” بلا أثر يدله عليها بعد عودته من الأسر. تقول القاصّة:

“-يؤسفني أن لا ألبّي طلبك، ولكن النهايات السعيدة ليست من اختصاصي، كما أنها لا تلائم هذه القصة”، وفعلاً في ساحة القصة والرواية العراقيتين هناك قليلون ممن يستطيعون تصميم نهايات فاجعة لكن هادئة مثل ميسلون هادي. انظروا كيف ترسم بتصميم محسوم نهاية مدمّرة لقصّة هذا الأسير مع حبيبته:

“-حسن، أنا كنت سأجعل زينب تجلس ذات يوم خلفك في الحافلة تفصلها عنك مسافة تقل عن المتر الواحد..

هتف بصوت عال:

-ولكنني سألتفت وأراها..

-لا.. لن تلتفت.. ولن تراها… ولن تحسّ بوجودها على الإطلاق سيشغلك الطريق عن رائحتها وحفيف ثوبها، وهي أيضاً ستشغلها الذكريات عن ميلان رأسك وصوت سعالك… وستنهض من مكانها فيصبح صدرها فوق رأسك تقريباً ويمسّ قميصها شعرك من الخلف فتتململ في جلستك وتسحب رأسك إلى الأمام، ولكنك لن تلتفت، فتهبط هي من الحافلة دون أن تراها أو تراك…

تهاوى على كرسي بقرب الباب وأجهش في بكاء حارق وكأنه أدرك للمرّة الأولى منذ أن عاد من الأسر أنه قد أضاع زينب إلى الأبد”.

إن للموت الفضل في فرك الصدأ عن وجه الحياة ، ولموضوعة الموت، وهذا ما تدركه ميسلون بقوة، الفضل الأول في الأثر الباهر للإبداع عموماً. هذا ما تجده في ملحمة جلجامش وأوديب ملكا وهملت و”الجريمة والعقاب” و”الأخوة كرامازوف” و”مدام بوفاري” و”الأحمر والأسود” و”الحرام” و”الرجع البعيد” وغيرها. بحضور الموت يصبح لهذه اللعبة المقيتة المساة بالحياة ثمنا فاحشا. وقد استولت موضوعة دوافع الموت والدمار على الأدب القصصي لميسلون هادي بصورة صارخة ووظّفتها بصورة ممتازة جداً حتى بلغت، مع تقنية الإيهام، ذرىً عالية من التجويد والرفعة الباذخة في مجموعتها “رجل خلف الباب”-1994، و”لا تنظر إلى الساعة-1999، فمن مجموع اثتني عشرة قصّة في المجموعة الأولى هناك عشر قصص تسيطر عليها عوالم الموت ومشاعر التشاؤم والإحساس بالخواء، ومن بين أربع عشرة قصة في المجموعة الثانية هناك اثنتا عشرة قصّة تعالج (ما يبعثره الزمان ولا يفلح في لملمته المكان) كما تقول القاصة في الإهداء الذي وضعته لإحدى قصص مجموعتها (لا تنظر إلى الساعة).

إن واحداً من عوامل التجويد والرفعة التي أشرت إليها، وهي سمة أخرى من سمات فن ميسلون القصصي، هو أنها تطرح (فلسفتها) حول صراع دوافع الموت والحياة من خلال وقائع و(حكايا) يومية بسيطة، فقصصها، هي قصصنا.. وأبطالها هم نحن تحديداً… نرى فيهم ملامحنا وهوياتنا وأقدارنا البائسة.. موظفون وربّات بيوت وأطفال وأرامل.. وكثيراً ما تكون الحافلة أو غرف البيت مسرحاً لوقائع قصصها، ومن اليومي المعاش والعادي تصنع القاصة نسيج رؤياها المركزية. وقطعاً فإن الصعود ممّا هو بسيط ومألوف في مسارات الحياة وجعله أغطية لطرح أعقد معضلاته يتطلب براعة فائقة وتمكناً محكماً من أدوات فن القصّ.الالتصاق الحميم بالناس وهمومهم اليومية أمر متوقع من قاصّة نجد أن فعلها الحقيقي يترعرع بثراء وغنى في تربة حياة هؤلاء البشر ومعاناتهم، وترى أن تلك (الشطحات) الحداثوية وما بعد الحداثوية قد طوّحت بالقصة بعيداً عن أرض الواقع، وقطعت جذورها وجعلت ملامحها شاحبة و(مصنّعة). في فن هذه الروائية نجد انسجاماً محبّباً وتلقائياً بين لفظها ومعناها أو بين صورتها ومادتها. جملها قصيرة وفقراتها قصيرة أو متوسطة الطول خالية من أي جملة اعتراضية تعكس العسر والتصنّع الذهني ومفرداتها بسيطة مألوفة. ورغم إيماننا بأنّ حياتنا كلها استعارة ووجودنا (مجاز) إلاّ أنّ هذه المبدعة كانت محقّة في عدم لجوئها إلى لغة الشعر إلاّ وفق حدود محسوبة. إنّ لغتها لغة قصّ، وإذ تركت لغة الشعر للشعر، فإنها استخدمتها في (مواقف) تتطلب ذلك بشكل خاص في قصص تدور حول موضوعة الحبّ وتنحو منحى رومانسياً.

ولكن لنفس هذه السمات المركزية ومعها الكتابة في منطقة امتزاج الواقع بالخيال أو اللعب المنضبط بينهما وسطوة موضوعة الموت، دور بارز في تفتح موهبة هذه القاصة وشهيتّها الروائية في عصر المحنة السوداء الذي نعيشه. لقد قامت ميسلون هادي بنشر رواية قصيرة عنوانها “العالم ناقصاً واحد” كانت قد نشرت في مجلة “الأقلام” العراقية فصلاً منها حمل العنوان نفسه في عام 1996، ومعها اعتقد البعض وقتها أن القاصة قد دخلت مصيدة خطيرة ظاناً أنها ذات نفس سردي قصير، بالإضافة إلى أن الرواية تتطلب صبراً خرافياً قد لا يقوى عليه المبدع العراقي. ولكن القاصّة (الروائية الآن) حسبت هذا الأمر بدقّة ولم (تمطّ) وقائع قصتها بشكل قسري ومتعسف وصممت لها ثوباً روائياً قصيراً وفرّ لها النجاح. بعدها قدمت القاصة رواية أطول من الأولى وهي “يواقيت الأرض”-2001، ثم أتبعتها بالرواية الثالثة وهي “العيون السود” -2002، فالرابعة “الحدود البرية” والخامسة “نبوءة فرعون” لتتوجها بواحدة من أروع روايات المحنة بعد الاحتلال البغيض وهي “حلم وردي فاتح اللون” .ويهمني أن أقول إن نضجاً هائلاً قد حصل في أسلوب ولغة وحبكة ورؤيا القاصة. سألت يوماً المبدع العراقي محمد خضير: كيف حصل هذا التحوّل الأخير في أسلوبك القصصي في مجموعة “رؤيا خريف” وبشكل خاص في قصّة “صحيفة التساؤلات”؟، فأجابني بأنّه وجد أنّ من المستحيل عليه أن يكتب بنفس الطريقة السابقة بعد أن شهد المحنة التي حصلت في مدينته البصرة خلال حرب عام 1991. وأعتقد أن من المستحيل على أي مبدع حقيقي أن لا تهزّه فاجعة الاحتلال والخراب وتنعكس آثارها على إبداعه شكلا ومضمونا .

أخيراً اعتقد أن مبدعين معدودين في العراق والوطن العربي، مادامت المحنة عاصفة شاملة، لم يسقطوا في فخ الإحباط وبراثن الكآبة القومية ونفض اليد من دور الأدب في وجه الوحش العولمي، ونظروا إلى لهيب المحنة الطاحن كفرصة تاريخية لا تُعوّض لإنضاج إبداع عربي وإنساني مقاوم، ودون أدنى شك، ومن وجهة نظري الشخصية على الأقل، فإنّ القاصّة والروائية العراقية ميسلون هادي في طليعتهم . فتحية للمبدعة الكبيرة ميسلون هادي .

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

نبوءة فرعون – وسن مرشد

وسن مرشد   توظيف التراث الشعبي وأهميته، قراءة في رواية “نبوءة فرعون”لـ (ميسلون هادي) يعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *