ميسلون هادي تقود نصها الي رومانس الخيبة
إغواء سردي محسوب و مسموم
جريدة (العراق اليوم)
11/12/2007
حسين سرمك حسن
قلنا في مناسبة سابقة ان ميسلون هادي هي اهم و أروع حالمة في الادب القصصي العراقي و هي الاكثر اقتدارا في الامساك – و باحكام – بشروط التقنية الحلمية في القص , ولم يستطيع اي كاتب او كاتبة في العراق منافستها او مضاهاتها في هذا المجال . و يتجلي هذا الإقتدار في مجموعتها القصصية : الشخص الثالث الصادرة ببغداد – 1983 . الفراشة – بغداد – 1985 ، اشياء لم تحدث – القاهرة – 1990 . رجل خلف الباب – بغداد – 1994، لا تنظر الي الساعة – بغداد – 2000 .
قصة ميسلون تسرد عادة بلغة شفافة ذات إيقاع هادئ , و بمفردات يومية بسيطة بعيدة عن اللعب الشعري بدعوي تداخل الأجناس ( إنها لغة قص ) . و وقائعها تتحرك مناسبة بخطوات رخية علي ارض واقع متموجة , تظللها زرقة غائمة للطبقة الأوطا من طبقات سماوات المخيلة حيث لا انفلاتات فنظارية ولا اجتياحات غرائبية , فقط حركة موجية منضبطة , نبضات , و أحيانا دفعات تتناوب في صعود و هبوط حيي و اسر بين يقين واقع مترجرج و مهتز , و انثيالات شكوكية ذات هدوء ماكر لسماء مخيلة رصينة , و الإمتياز الفريد لنصوص ميسلون هادي هو أنها تستدرجك باغواء سردي محسوب و مسموم للدخول في عوالمها هذه و تلبس تحولاتها النفسية بحيث انها تجبرك – في كثير من الاحيان , و بعد ان تنهي النص – علي ان تفرك بصيرة قدراتك مثما يفرك الحالم عينيه مشككا و هو ينتقل من النوم الي اليقظة و عند ختام اي قصة من قصص ميسلون , ستشعر بان هناك بقايا من إمتدادات لزجة لأذرع هلامية من واقع التجربة المركبه تعلق بنسيج ذهنك و تربكه – ستتساءل عن اي واقع كنت فيه , و ستحس بحاجة الي رحلة انتقالية بين خدر الحلم النصي المغيب و صحوة الواقع الصادمة . وقد ظلت هذه الخالقة الحالمة منسجمة مع ذاتها و مستجيبة لاشتراطات حلمها المديد فقدمت لنا اروع النتاجات القصصية لكن ميسلون هادي من المبدعات اللائي يعين – وبقوة – صلة الادب بالحياة و الابعاد الجسيمة لمسؤولية الكاتب تجاه شعبه و ناسه و هموهم و قضاياهم الملتهبة. [ وقفة : يقول الاستاذ (( حسين جمعة )) في تقديمه لكتاب (( ظاهرة الادب الصهيوني – إطلاله علي : المصطلح , النشاة , الموضوعات ))(1) : (( و عليه فالادب الصهيوني لم يكن محايدا في يوم من الايام عن افكار اهله و اهدافهم , و هو يرد علي كثير من مدعي الفن للفن من العرب . إذ يرون ان الأدب يفقد قيمته إذا حمل رسالة وطنية أو قومية , ما يجعلنا .. نتساءل : أين يقع هؤلاء المدعون مما كان عليه الادباء الصهاينة ؟ فالأدب ايا كان جنسه و نوعه إنما هو حدث وطني و قومي و كوني , ومن ثم يصبح معبرا عن طموحات اهله و همومهم و قضاياهم , و مثيرا لانفعالاتهم و حماستهم في سبيل إنشاء الوعي بها ثم الدفاع عنها و ارتباطا بهذا الموقف نقول ان الكثير من النقاد و الكتاب العرب المبهورين حد الإنسحار السلبي بمفاهيم الحداثة و ما بعد الحداثة الغريبة عدوا رواية ((عوليس )) لجيمس جويس فاتحة التحديث في الرواية العالمية , في حين ان جويس لم ينس هموم و تطلعات الشعب اليهودي في خضم تصديه للتحديث . فهو يتحدث عن ارض الميعاد و حلم العودة الي الارض المقدسة و عن حيفا …. الخ و الأهم هو انه حاول خلق بطل معاصر – يهودي تحديدا – يقابل يوليسيس بطل (( أوديسة )) هوميروس (2)راجع كتاب ]
و هكذا قررت هذه اقاصة – و بحزم – الإمساك بجمرة الواقع العراقي الجحيمي و التصدي بمثابرة عزوم للتحديات الرهيبة التي عصفت بشعبها بفعل الحروب و الحصار الجائر المدمر و الإحتلال البغيض . وقد حصل هذا التحول بصورة تدريجيةبدات من قصتها القصيرة (( العالم ناقصا واحدا )) و التي حولتها الي رواية في ما بعد ثم في رواياتها الثلاث : (( يواقيت الارض )) و (( العيون السود )) و (( الحدود البرية )) و وصلت مستوي نفسيا و فنيا متقدما في قصتها القصيرة (( حسن السير و السلوك )) ومن المؤكد أن نتاجها القصصي و الروائي المسخر للإلتحام و التجسيد الحي لفاجعات شعبها ومآسيه التي بلغت حدودا فاقت كل تصور , حدود ما بعد سوريالية سينمو ويتطور .في مجموعة (( رومانس ))(3) نلمس و بوضوح مثل ذلك التحول الذي أشرنا إليه , فقد اختارت القاصة – و بذكاء – قصة (( الكاتب ينسي .. القارئ هو الذي يتذكر )) لتكون اول قصة في هذه المجموعة , هذه القصة تنتمي الي تقنية مرحلتها الاسلوبية السابقة وهي مهداة الي (( جليل القيسي .. أمير القصة العراقية )) و هذا القاص معروف باعتماده توظيف الموروث الاسطوري و التحليق في سماواته القصية . بطل القصة و اسمه (( جليل )) هو كاتب مبدع تصفه القاصة بانه (( امير الاحلام )) كلها , هو كتلة من الخلق يمد اصبعه الي لفافة جاره الذي طرق بابه ليحصل علي علبة كبريت فتشتعل. يدعو الامير جاره للدخول فيجد الصالة مكتظة بدوستوفيسكي و تولستوي و بورخس و همنغواي و هيرمان هيسه و بيكيت و الصائغ و التكرلي و محمد خضير )) و يتناوب علي الغناء فريد الاطرش و عبد الحليم حافظ … و بعد تفصيلات فنطازية جميلة ومتسقة ينتبه الامير لطرقات أخري علي الباب ليصحو من حلم يقظته الباذخ .
عمر العراق الماساوي
في القصص التسع الاخرى تتناول القاصة التداعيات المريرة التي تجتاح مجتمعها بقسوة بالغة وما نتج منها من هموم و معاناة متصلة و موجعة ناء تحت ثقلها المواطن العراقي الجبار , فتحول هو صاحب القدرة الخرافية علي التحمل عبر عمر العراق الماساوي المتطاول الي هدف لكل تمظهرات السادية البشرية و نزوعها الحيواني الشرير الذي وجد متنفسه في تحطيم ((أخر )) يمثل كبش فداء و تمثل في المواطن العراقي . أدركت ميسلون ان كل العدوانات و الحروب و الحصارات و التجويع تبغي تحقيق غاية اساسية خطيرة مرتكزها الاول يتمثل في تجريد المواطن العراقي من القدرة علي الحب و تحويله الي كائن غريزي خاضع و تابع لنداءات الإشباع الجسدية الحيوانية الفجة . يطلق المختصون تعريفات موجزة لتمييز الانسان من الحيوان فيقولون عن الإنسان أنه : حيوان ناطق او حيوان إجتماعي او حيوان معادي يقتل ابناء جنسه … ولكنني اري ان من الممكن القول ان الانسان حيوان رومانسي و انه حيوان ذو امل . و نزع القدرة علي الحب من روح الإنسان هو الذي يمسخ وجوده . هذا التبلد تجاه خسارات المسرات الشفيفة . غياب الرعشة عند مواجهة الجمال , الشعور بخواء الكينونة ولا جدوي الصيرورة , خلع الرهبة من الموت من النفوس – هذه الرهبة التي قدمت اعظم عمل ادبي ملحمي في التاريخ و هو ملحمة جلجامش – , تقديم ما هويومي عابر علي ما هو وجودي و كوني وثابت في معانيه الروحية .. الوقوع منهكا تحت سطوة ضغوط البقاء في نهاية اليوم بلا امل في غد …
في قصة (( كومبارس ))(4) تعالج ميسلون – من خلال كومبارس خائب محنة الخيانة التي تحولت من كفر في الحياة العربية الي وجهة نظر . (5)
وفي قصة (( مكالمة هاتفية )) تتحدث الكاتبة عن الهموم اليومية لام عراقية و تزرع في النفس غصة من خلال سلسلة طلبات طفلتها التي تطرحها علي ابيها من خلال سماعة الهاتف الذي يظهر في النهاية أنه عاطل منذ ايام .
ومن المهم الإشارة الي سمة اخري تسم هذا التحول الاسلوبي لدي هذه المبدعة وهي روح السخرية الصارخة التي تطبع هذه القصص لكنها ليست سخرية المرفهين البيضاء , انها سخرية الإنسان المقهور السوداء . ولا اتذكر أنني قد مررت بانفعال مماثل للإنفعال الذي خلقته في نفسي قراءة قصة (( رومانس .. او نصف هنا و نصف هناك )), فقد انفجرت ضاحكا بقوة و لأكثر من مرة , الامر الذي أثار دهشة من حولي وهم لا يعرفون أن أحشائي كانت تتقطع ألما و انا اضحك في الظاهر , عالمان متناقضان حد اللعنة يتواجهان في ساحة عيادة للامراض النفسية . فتاة رومانسية حالمة تفتتح قصة معاناتها بجملة للروائية (( إيزبيل اللندي )) تقول فيها :
(( ان افضل دواء لضيق التنفس هو العناق الطويل من محبوب ))
وتري ان ((أم كلثوم )) قد حولت لغز النظرية النسبية لاينشتاين الي محض شعر و تأوهات عندما قالت لحبيبها في اغنيتها (( أنساك )) بان السنين قد مرت مثل الثواني معه وفي حبه , و ان الخيال قد بلغ بها درجة التجلي عندما تحدثت عن فكرة الاستنساخ البشري قبل اكتشافه بسنوات , فقالت لحبيبها في مقطع أخر من تلك الاغنية , و بصوت مسحته اللوعة بالاسي بانها إن كانت تقدر أن تحب ثانية فستحبه هو .. )) هذا الانموذج الإنساني الباهر و المهدد في العراق المحاصر يحاول إيجاد علاج لمحنته علي يدي طبيب للامراض النفسية هذا الطبيب هو الانموذج المقابل , نتاج الحصارات التي تخلع من الأنسان القدرة علي الحب … القدرة علي ان يكون حيوانا رومانسيا ليصبح ماكنة استقبال و تفريغ حاجات بقاء يومية … فهو ينصحها بأن تترك عادة التحدث الي نفسها بصوت عال و ان تتحدث بدلا من ذلك الي الناس عن امور يومية و إن لم تعد مهمة من أجل الرفاهية فهي مهمة من اجل البقاء علي حافة الحياة , كالتحدث في امور الانقطاع المبرمج للتيار الكهربائي و اسعار الطماطم و الباذنجان و مناقشة جودة مواد الحصة التموينية … الخ . و الامر انه ينصحها – هي الحالمة الجريحة بأن لا تستمع للأغاني الرومانسية الحزينة .. و يحدثها طويلا عن المجمدة و فرزنة الخضار … وفي مقارنة تثير المرارة و تمزق الروح تقول المريضة : (( قلت لنفسي هل هذا الطبيب مجنون جدا .. ام عاقل جدا .. يقطع علي طريق الصعود الي اعلي كلما اردت إخباره ان الدورق الذي خلف عيني مملوء بالماء لا بالحجارة , و كلما سالني احد :
ما بالك ؟
سال الماء منه دمعا مدرارا لا يليق الا بطفلة صغيرة رفضت امها ان تصطحبها معها الي السوق القريب من البيت .
ولكن ما بك ؟
خلته يرفع اصبعيه بشارة النصر من خلف زجاج الحافلة ثم فهمت بان سمك الزجاج يجعله يستخدم لغة الإشارات ليخبرني بانه عائد بعد شهرين .
وهل عاد ؟
ثماني سنوات مضت ولم يعد )) .
و هكذا تتلاحق المواجهة الحوارية الساخرة و المؤلمة في الوقت نفسه بين الفتاة المحبة الصابرة المخذولة بعلاقة حب محبطة جعلتها ((نصفا هنا ونصفا هناك )) و التي استولي عليها الاسي و تخشي المستقبل الذي قد يعيد حبيبها الغائب وقد اصبح غريبا عنها و عن واقعه السابق و بين طبيب متخصص في معالجة نفوس الناس الخائبة , المثكولة فاذا به قد تدحرج منساقا مع صخرة الخراب فيصبح (( مختصا )) بمفردات البطاقة التموينية و فرزنة الخضار و الأحذية و لحم الدجاج المدعوم . و ليس عبثا ان القاصة قد اختارت انموذج الطبيب النفسي بمعاينة الرمزية العميقة لتكشف عنف و حجم الخراب الذي اصاب مجتمعها حين إمتدت مخالب الدمار لتشوه نفوس أطباء النفوس و تنسيهم دورهم ذا الدلالات الخطيرة . و في ثنايا القصة تبث الكاتبة مواقف و تعليقات تثير الإنتباه بإيحاءاتها النفسية و الإجتماعية بالغة الخطورة و الحساسية . تقول في احد المواضع : (( اعجب من الخيال طبيبي هذا , فقد طلب مني بعد ذلك أن اقول اي شيء يخطر علي بالي , عدا حكاية الإصبعين المرفوعين بشارة النصر , ربما لأنه مل سماعها ))
وهي بهذا تقدم مؤشرا عن اشواط الياس الطويلة التي قطعها المواطن العراقي الذي ينتظر , و منذ فجر التاريخ , انفتاح أبواب الفرج التي يسمع الجميع يرطنون بانه قريب , هذا الياس الذي رسخه تراكم النشدائد الفاجعة حتي اصبح امل العراقي جملا من المستحيل ان يدخل في سم الخياط وفي موضع اخر تقول القاصة للطبيب وهي تحدثه عن قلقها الممض المرتبط بعودة حبيبها الغائب :
(( أتعرف بماذا يذكرني غيابه ؟ بجارنا الاسير الذي عاد في العيد الماضي من ايران بعد ست عشرة سنة قضاها في معسكر قرب الحدود الإيرانية الروسية … أولاده لا يعرفونه .. و بناته يخجلن منه و كأنه رجل غريب ..أليس هذا مؤلما للغاية ؟ ))
غثيان وجودي أو أستلاب جنسي
وهذه كارثة – كارثة اقتراب الاب الاسير العائد و انفصاله النفسي عن عائلته – عشتها عمليا في عيادتي النفسية وهي تشمل بتائيراتها السلبية مئات الالوف من الاسري العائدين و زوجاتهم و ابنائهم . فبأي مزاج سيقرا هذا الاسير العائد المحطم قصة (( حدائوية )) تتحدث عن متاهة أو غثيان وجودي أو أستلاب جنسي ؟ وكم ستكون درجة انفعاله عالية الاحترام حين يقرا من هذا النوع الذي بين ايدينا و حيث تاكد عمليا و علميا ان اغلب الاسري العراقيين العائدين و زوجاتهم و حبيباتهم قد اصبحو , نفسيا , نصفا هنا و نصف هناك )) ؟
في القصص الست المتبقية : (( بداية ليل )) , (( يدان )) , (( اقراص السعادة )) , (( دانتيلا في يوم ممطر )) , (( حشرات )) و (( جورب رجالي )) تتناول الكاتبة هموم انسانية ساخنة باسلوبها المتفرد و منظوراتها المتميزة الامر الذي يجعل (( ميسلون هادي )) من مبدعات عصر المحنة القلائل المثابرات و المجيدات .
هوامش :
ظاهرة الادب الصهيوني ( إطلالة علي : المصطلح , النشأة , الموضوعات )
محمد توفيق الصواف – قدم له د . حسين جمعة سلسلة الكتاب الشهري – اتحاد الكتاب العرب – 2007 .
البقع الارجوانية في الرواية الغربية – حسن حميد – اتحاد الكتاب العرب – دمشق – 1999 . راجع دراستنا عن قصة (( حسن السير و السلوك )) في صحيفة (( الزمان )) – 2002 .
رومانس – قصص – ميسلون هادي- اتحاد الكتاب العرب – دمشق – 2000 .رجع دراستنا هذه القصة في كتابنا (( ميسلون هادي – و ادب عصر المحنة )) – دار الشرق – عمان -2004 .