حلم وردي – بشرى البستاني دراسة اخرى

حلم ميسلون هادي الوردي.. من العنوان إلى مكابدة الشخصية والمكان الدستور 18-6-2010

د. بشرى البستاني



تستهل الراوية رَوْيَها لحظة الانفلات من أسر المجموع ، ومواجهة الذات بأبعادها الداخلية ، عودة إلى المركز الذي هو دواخل الإنسان. وهذا المركز لا يحقق ذاته ويعمق ثراءه إلا من خلال حركة الذات في الخارج ، فلحظة المواجهة هي لحظة من أجل إحكام التوازن بين عالمي الداخل والخارج ، والميزان هو منظومة القيم التي تنهض بوعي الذات ، وتقيم أركان بنيتها: “في رأسي أتكون من جديد كل مساء نفساً أخرى جديدة بعد أن أحاسب الأولى على ذنوبها وأخطائها ثم أطويها في خلوة الليل فوق آلاف النفوس التي تنام معي كل يوم…”.

وتواصل الراوية بوحها متنقلة ما بين الداخل حيث الحديث مع القلب إلى الخارج ، حيث تتناوب بين مظاهر الإيجاب والسلب ، لكنها تحاول ، دوماً ، الانتقال من السلبي إلى الإيجابي ، ترصيناً لإمكانية التحول من مشاعر الضعف إلى تصميم القوة في رموز صغيرة ولكنها دالة: منها ما هو طبيعي أو صناعي لكنها ـ في كل الأحوال ـ تؤدي وظيفتها المقصودة: “وتحت السماء يمر الغيم خفيفاً ، ثم يذوب فيترك خلفه شمساً دافقة ترقص لها أغصان اليأس المزروع على شكل قوس… كان يابساً منذ عامين ، والآن استعاد لونه الأخضر اللماع ، وعاد إلى الحياة بعد أن كاد يموت من العطش…”.

وبحساسية مرهفة تلتقط الراوية قصة جرس الباب وما كان يقع عليه من مهمات الإنذار ، غالباً ، ومهمات التبشير ت إلى حد ما ـ فهو الشاهد على الفرح والحزن ، وعلى الحقيقة والخطأ ، هذا الجرس “يتحدث اليوم بالحق بعد أن كان صامتا طوال سنوات عديدة لا يقرعه أحد وان قرع ، فالكل يفزع ويهرع ، خائفاً ، إلى النوافذ…” وحقيقة الذعر من رنين الأجراس كارثة عاناها العراقيون جميعاً ، ومات بسبب أمراضها الخطرة والمفاجئة كثيرون: لأن رنين الجرس كثيراً ما كان يعني إنذاراً بفقدان عزيز أو حبيب في جبهات القتال المتعددة ، وجرحه أو فقدانه ، “هذا الجرس قرعه الكثيرون ، والآن عافوه وخرجوا جميعاً ، فراراً من النار والدمار ، إلى الشتات وبلدان الجوار…” وتواصل الراوية الوقوف عند معاناة شعبها وأوجاع وطنها المجروح بسكاكين العدو ، ترصد أحزانه ودمه المسفوح ظلماً ، وليالي مدنه المظلمة العارية من أقراط الضوء وقلائد الكهرباء ، كما تسترجع عذاب الحصار ، وتقف عند خراب الحروب وتهديم الكيانات الجمالية في حياة أهلها.. البيوت التي هجرها العراقيون إلى الشتات ، الشوارع التي تكسرت بوطء الدبابات والمدرعات والمفخخات والعبوات ، المحلات والأسواق المقفلة ، والمرأة التي انطفأت أنوثتها بهجرة الرجل الذي كانت تنتظر ، والذي فضل الرحيل على رؤية وطنه يتهدم حجراً فوق حجر ، لكن “ختام” رفضت الهجرة معه واختارت وطنها بكل ما فيه ، وظلت تعيش باليأس والأمل ، بالحزن والفرح الموعود بالخلاص ، إذ يتحول اهتمامها من الخاص إلى العام ، من الحبيب الراحل إلى الوطن المشتعل ، إن الكناري في قفص ختام هو حلمها الجميل في كل ما كانت تتمنى ، وهو الوطن المغدور ، والجمال الذي يحتوي في ألوانه الخصب في الأخضر ، والضوء في الأصفر ، والأرض في اللون الترابي: إنه الطائر الذي يختصر الحياة ، وهي ـ إذ تطلقه إلى الأعلى ـ فإنما تختار الوطن خلاصاً ، تختار التعالي على التشرد والشتات والانفصال ، وقذفها القفصَ خارج البيت محاولة للتخلص من وهم الماضي وشباكه ، والالتفات إلى معالجة واقع يحتاج إلى حوارية يومية.

وفي بنية روائية محكمة ، تدير الراوية حركة الشخصيات في عالم روائي استمد إشاراته من واقع العراق الذي جثم عليه بؤس مطبق وانفتحت أبوابه بفعل فاعل لكل أنواع العدوان والمكيدة: “كانت مصابيح بيوت الشارع مطفأة جميعاً: لأن موعد تشغيل مولدة المحلة لم يحن بعد ، وكانت “ختام” تخرج إلى حديقة بيتها وهي تحمل الفانوس بيد وقفص الكناري الفارغ باليد الأخرى ، وتسير على مهل باتجاه الباب الخارجي للبيت متلمسة طريقها بصعوبة في الظلام ، وينساب جسدها على مهل كمن يمشي حافياً على فراش من زجاج…” هذه المرأة غريبة من وجهة نظر الساردة ، لكن تحديد سمات الشخصية الطبيعية ما يزال في غاية الصعوبة في العلوم النفسية ، كون الشخصية ذاتها ما تزال عصية على الفهم بسبب تعدد سماتها والاختلافات القائمة بينها حد التناقض. وبرغم ذلك ظل افتراض أن شخصية كل فرد تتواجد على ثلاثة مستويات: أولها ما يظهر للناس من صفات الفرد ، تلك الصفات التي يحكمون عن طريقها على شخصية صاحبها ، والمستوى الثاني هو ما يعرفه الفرد عن نفسه وما قد لا يظهر للآخرين ، أو يتلاءم مع نظرتهم إليه أو حكمهم عليه ، والمستوى الثالث هو ما لا يظهر من سمات الشخصية لا للآخر ولا حتى للفرد نفسه ، وهذا المستوى يظل كامناً في انتظار ما يمكن أن يظهره من عوامل التفاعل بين الفرد ومحيطه ، وقد يظل خافياً ما لم يتعرض الإنسان للإرهاق والشدائد ، والحقيقة أن الأمر المنطقي في النظر إلى الشخصية الطبيعية هو ضرورة الجمع بين هذه المستويات في كيان واحد ، وأن ننظر إلى شخصية الفرد الحقيقية على أساس الجمع بين الإمكانية والواقع ، وما لم نستطع التوصل إلى إدراك إمكانيات شخصية الفرد كاملة ، فإن حكمنا على طبيعة تلك الشخصية سيظل ناقصاً ومعرضاً للخطأ. من هنا تغير رأي الراوية بشخصية ختام بعد أن اكتشفت نبلها وعمق أحاسيسها الإنسانية والوطنية ، وقوة عزيمتها.

إن كل الوقائع المفجعة التي أدارتها الراوية لم تثن الشخصيات عن إرادتها التي تمجد الحياة برغم الخوف المحيط بكل شئ ، والنابع من كل شئ ، والمتربص الإنسانَ في عقر داره. الخوف خطيئة العصر الكبرى لأنه ، وحده ، القادر على كسر الإنسان وشل بهجته والعمل على المساس بكبرياء إنسانيته وتعطيل طاقته ، فالخوف يولد القلق ، وكثيراً ما يعمل ذلك على تعطيل طاقة الإنسان ويصرفه عن الانهماك في عمله وممارسة حياته اليومية بشكل طبيعي وإنسيابي: “كل الهواجس حاصرتني كما الجدران ، فأقعدتني في مكاني ، ولم أستطع مغادرته من شدة الخوف بل اكتفيت بالتلفت حولي بذعر… ولم أكد أصل إلى غرفة الضيوف حتى دوّى انفجار قريب تكسرت له بعض زجاجات البيت ، وراحت المروحيات تحلق في الجو بعد قليل ، وجاءت سيارات الشرطة بصفاراتها تعوي وتصرخ… فإذا بنا نرى رجلاً غريباً وبيده سكينة مطواة شهرها بوجوهنا فور أن أصبح قريباً منا فامتلأ قلبي رعباً وكاد يُغمى علي من شدة الذعر.” هكذا عاش الإنسان العراقي سبع سنوات ، وما يزال. لكن ، برغم كارثية الصور التي تتشكل داخل الرواية فناً ينبض بالمقاومة ، إلا أن الرموز العراقية تنهض شاهدة على الحقيقة وناطقة بها.

“قال القائد الأمريكي لختام بغضب: ولكن ماذا تفعلين هنا؟ قالت بحزم وغضب أشد: هذا بيتي ، أنت الذي ماذا تفعل هنا؟”.

نعم هذا بيتها الذي تقف فيه وسط الشجر والزهر والآس المتجذر من أجيال وسنين ، وهو الطارئ الذي كذب وعده.

فختام تدرك أهمية البيت في حياة الإنسان: فهو كوننا الأول ، إنه واحد من العوامل التي تدمج أفكار الإنسانية وذكرياتها وأحلامها ، وهو الفضاء الذي يمثل إلفة المكان من الداخل ، ويُنحّي عوامل المفاجأة ، ويخلق استمرارية تمنح الإنسان أمانه ، وتحميه من التفتت الذي أشار اليه باشلار: فالبيت جسد وروح حيث يصبح للوجود قيمته ، والحياة تبدأ بداية جيدة ، مسيجة ومحمية داخل البيت.

إن قدرة الراوية على بث الإحساس بالتماسك وحب الحياة والتشبث بعوامل البقاء والاستمرار ، بدءاً من أصغر وردة أو غصن آس في حديقة البيت ، هو الذي أشاع الأمل في الرواية وعمل على تشكيل كونْ ينهض فيه الإنسان العراقي مقاوماً ومصراً على الحياة ، ما يؤكد انحياز هذا النوع من الأدب إلى قضية الإنسان واهتمامه في بناء شخصيته ، والعمل على كشف أعدائه ، والمخططات التي تسعى إلى استبعاد الذات الإنسانية التي دأب خطاب ما بعد الحداثة على تهميشها وإزاحتها عن المركزية التي تليق بها ، ونفيها المتعمد من قبل مناهج واتجاهات كرستها البنيوية ، ومن قَبلها الماركسية والفرويدية ، ومن بَعدها توجهات ما بعد البنيوية بكل ما آلت إليه من عمل على نفي المعنى الإنساني ، وتغييب فاعليته البناءة.

إن الراوية في سرد ميسلون هادي تقدم شخصيات متماسكة تستحق أن تطرح لتزويد الإنسان العراقي المغدور بالقوة التي يحتاجها ، وبالجلد والقدرة على التجاوز: لأنها شخصيات تمتلك القدرة على المواجهة والتفكير المتأني في الشدائد ، وتجيد صنع قرار وسط المجزرة ، وهي ـ برغم آلة الدمار المسلطة عليها والهادفة إلى تفتيتها ـ تواصل الحياة بصبر لأنها شخصيات تتسم بالمرونة إلى جانب الصلابة ، صلابة داخلية ومرونة في معالجة مصاعب الحياة من حولها والتغلب عليها ، وهي ـ برغم الدمار المحيط بها ـ تمتلك السمة الإيجابية في حب الحياة والقدرة على الحلم وسط الظلام ، فضلاً عن كونها قادرة على تأجيل أحلامها إذا ما اصطدم حلمها بمفاجآت الواقع من خلال وعيها الظروفَ المحيطة بها ، وهي ، إذ تؤجل ، تمتلك اليقين بحتمية التحقق ، وتلك هي الفكرة الكامنة من وراء تشكل هذا النص رواية.

ناقدة وأكاديمية عراقية



عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الكاتبات العربيات وروايات الحرب – عزيزة السبيني

قضايا أدبيةالكاتبات العربيات وروايات الحرب ـــ عزيزة السبينيالموقف الادبيساد اعتقاد لفترة طويلة من الزمن أن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *