المؤلف أم النص أم القارئ؟
منشور
أ د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
الحديث يطول عن (موضوعية) النص الإبداعي، وعن العلاقة بين المؤلف والنص، حتى قبل أن نصل إلى مقولات القراءة والقارئ، ويهب البعض بعيداً في هذا الشأن حين يرى ما كان يراه بارت بقطع كل صلة للمؤلف بنصه الذي يبدعه وعلى جميع المستويات ليقول بِـ(موت المؤلف). ونحن لا نريد في دراستنا القصيرة هذه، إذ تناقش هذا الموضوع، أن تفهم مثل هذه الآراء على ظاهرها، أو لنقل أن نفهمها فهماً ميكانيكياً، أو بالشكل الذي فهمه أحد حاضري مؤتمر علمي عقد في بغداد قبل سنوات، حين راح يتباكى على (حق) المؤلف الذي رأى أن مفهوم- أو ربما نظرية- (موت المؤلف)([1]) قد سلبته إياه، وبالتالي راح يدعو وبتوسل ويستعطف الجميع لحفظ هذا الحق للمؤلف. نحن نريد، بالطبع، أن ننطلق من المنطلق الإبداعي– النقدي نفسه الذي انطلق منه منظّرو هذا المفهوم، خصوصاً أن قول رولان بارت بأنه “حالما تبدأ الكتابة يأخذ المؤلف في الموت” إنما نراه نوعاً من انفلاتات الولع غير الموضوعي بالجديد والتجديد، إبداعاً كان ذلك أم منهجاً نقدياً، وهو انفلات طالما رأت مثله الآداب في العالم، ولذا فإن نتائجها أو منظوراتها سرعان ما يضعف تأثيرها وربما يموت. ونحن اذ نقول ذلك، وإذ لا نجد في واقع الحال ما يدفعنا إلى الحماسة المطلقة لرأي بارت، وإذ نرى أنه طالما كان هناك مؤلف وطالما كانت هناك كتابة كانت هناك إمكانية لوجود مؤلف بشكل أو بآخر، فإننا لا نختلف– كما قد يُفهم– مع طرح البنيويين القائل بأن “سلطة النص هي أعلى السلطات المحيطة بالإبداع” فالكثير من ظواهر الأمور وخفاياها تؤيد أن هذه السلطة هي حقاً أعلى السلطات، ولكن المهم هنا أنها ليست الوحيدة في هذا الميدان. بتعبير آخر نحن لسنا مع نفي كل ما قد يساعد أو يدعم هذه السلطة، خصوصاً إذا كان من أهداف قراءتنا النصوص قراءة نقدية مزيدٌ من الفهم والتذوق. “ثم إن النقد، كما قال إليوت ذات مرة، ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة لكي تُفهم الآثار الأدبية فهماً أكبر وتُتذوق تذوقاً أعمق”([2]). وإذا لم يكن رأي إليوت صحيحاً بشكل مطلق، فإنه يشتمل على النسبة العظمى من الصحة، وبالتالي “فكل ما أعان القارئ على أن يرى جوانب متعددة من حياة الأثر الأدبي كان نقداً ذا أثر”([3])، على حد تعبير الناقد الإنكليزي ديفيد ديتشس. واذن مع تسيد النص سلطة عليا هنا، فإن سلطاتٍ أخرى تلعب أدواراً، كبُرت أو صغُرت، في عملية الفهم والتذوق والنقد.
قبل أن نسترسل في هذا الجدل، لنعرج على عملية الخلق الفني من البداية، والبداية كما تُعرف هي التجربة، المعاشة أو المسموعة، بعبارة أخرى هي تعود إلى تجربة المبدع نفسه أو تجربة آخرين يعرفهم أو يسمع عنهم أو يعايشهم لتتلبسه تجربتهم تلك قبل أن تتحول بعد ذلك إلى القالب الفني الذي يعرفه أو يألفه، قصةً أو قصيدةً أو لوحةً.. إلخ. فالأدب، والإبداع عموماً، هو تعبير عن تلك التجربة التي ينقلها إلينا المبدع عبر القالب أو الوسيلة التي يرغبها أو المتوافقة مع اهتمامه أو تخصصه تبعاً لما يراه من ملاءمة بينها وبين التجربة. وفي كل الأحوال تبقى هذه الوسيلة أو الأداة، أيًّا كان قالبها– أداةً أو واسطة غير عادية بالطبع، ومن ثم كان من الطبيعي أن لا يكون المتلقّي لها عادياً، وبالتالي يجب أن تكون طريقة فهم هذا المتلقي غير العادي لهذه الواسطة غير العادية طريقة غير عادية، إذا ما افترضنا أن المتلقي يرى في النص ما قد لا يبدو في ظاهره. ويبقى المهم في ذلك كله أن ينجح المبدع أو الكاتب بنقل (تجربته) أو تجربة الآخرين، التي عرفها وعاشها داخلياً إلينا، عبر عمل إبداعي يتوافر له الصدق الفني. ونحن حين نقول هنا إن التجربة هي تجربة المؤلف أو الآخرين الذين عرفهم فإن قولنا لا يتناقض مع القول بأن العمل الابداعي هو تجسيد لتجربة المؤلف بشكل ما– محاكاة أم غير محاكاة وبقالب فني أم بغيره– ذلك أن المؤلف حين يتناول تجربة غيره، فإنما يكون ذلك بعد مشاهدة أو سماع أو معايشة– كما قلنا– يتبعها استيعاب وتلبس وانصهار ربما لا تتأتى لغيره، إلى حد أنْ تصبح- قبل أن تتحول إلى نص– تجربته هو، إذ “من البديهي أن الإنسان يغتني بنوعين أساسيين من التجربة: تجربته الذاتية، وتجربة الآخرين. وبقدر ما يسعى إلى إثراء تجربته الذاتية، وزيادة انفتاحه على الدنيا بواسطتها… فإن عليه أن يسعى إلى النهل من تجربة الآخرين، على تنوعها وتعقيدها”([4]). إن ذلك كله لا يكون متناقضاً مع ما يذهب إليه الفكر الإنكليزي بصفة خاصة، إذ درج على أن يرى الشعر “تعبيراً عن التجربة، وأن التجربة تفضي بنا إلى الشخصية، ومن ثم يقودنا الشعر إلى الشخصية”([5]). فلا يمكن لشاعرٍ أو لأديب أو مبدع بشكل عام، أن ينقل تجربة إلى نص أو خطاب إبداعي، دون أن يكون قد عاشها أو عايش أصحابها فأحسسها مع نفسه لتتلبسه في مرحلة من مراحل تطورها، قبل وصولها إلى مرحلة تجسيدها إبداعاً، بما يعني ذلك أنها لا بد أن تأخذ، أثناء هذا التطور، سماته مبدعاً. ولعل ذلك يكون أكثر اتضاحاً في أنواع أدبية بعينها، كالشعر الغنائي الذي غالباً ما يتحدث صاحبه إلينا من خلاله مباشرة. وهذا لا يتعارض– برأينا– مع ما يراه عز الدين إسماعيل، في سعيه لإثبات موت المؤلف إذ يقول: “إن في بروز الـ(أنا) ما يغرينا بالجري وراء صاحبها، حتى يخيل إلينا إننا قادرون على الإمساك بتلابيب الشاعر نفسه، ناسين أنه– أي الشاعر– قد لا يكون له وجود بيننا، وأنه قد يفصل بيننا وبينه فاصل هائل من الزمان والمكان”([6]). والواقع لا ندري لم لا يأخذ الدكتور إسماعيل هذا دليلاً على حضور المؤلف، لا موته، خصوصا أن ما بيننا وبينه “فاصل هائل من الزمان والمكان”، فذلك انما يعكس الصلة السرية الخاصة التي تربطه بتجربته من جهة وبنصه من جهة ثانية، ومن ثم، لأننا نرتبط بهذه التجربة من خلال القراءة والتلقي، فإنه مرتبط بنا أيضاً. ومن هنا كان إحساسنا بأننا نعيش النص وجوَّه وما يستتبع ذلك من تجارب المؤلف، وباقترابنا روحياً ونفسياً وطبيعةً من مؤلفين عاشوا في أزمان وأماكن بعيدة عنا أكثر من إحساسنا بمثل هذا الاقتراب من أناس هم على قاب قوسين أو أدنى منا، بالدلالة الحسية لهذا الاقتراب، ولذا ما عاد غريباً أن نجد مفكّراً كفاجيه يقول: “إني لأشعر بأني أقرب إلى شيسرون مني إلى جاري المهندس”، وأن يجد آخر أن شكسبير أقرب إليه من زملاء له في العمل. إن هذا الإحساس بالأنا، الذي ينتقل إلينا عبر (أنا) المؤلف في النص، هو إذن دليل نجاح وتوفيق في تجسيد المؤلف لتجربته من جهة، ودليل على تجسيد روح المبدع وسماته في نصه من جهة ثانية. وهكذا لا يكون إقحاما إذا ما لجأنا، من أجل مزيد من الفهم أو للتدليل على صحة فهمنا، أو للمساعدة في حل بعض (شفرات) النص أو المؤلف، أو من أجل استكناه فلسفته أو ربما للتنظير لبعض استنتاجاتنا، بل حتى من أجل مزيد من الاستمتاع والتحسس الجمالي، نقول: لا يكون إقحاما إذا ما لجأنا، من اجل ذلك كله، إلى المؤلف، كما لا يكون مبرراً إماتته، أو صم آذاننا عن همساته التي تتسلل إلينا من بين سطور النص، بل حتى من خارجه أحياناً. أفليس جميلاً وأكثر بعثاً للاستمتاع، ونحن نقرأ الكوميديا الالهية مثلاً، أن نعرف شيئاً عن حياة دانتي وحبه لبياتريشي التي تمارس تأثيرها في بعض فصول الكوميديا؟ وأن نعرف شيئاً عن جميل بثينة وحبه ونحن نقرأ عذرياته؟ وأن نكون على ألفة بخصوصية داغستان في حياة رسول حمزاتوف ونحن نقرأ أشعاره في عشق الوطن؟ ومع هذا نحن لا نجد ضيراً أن نقرأ نصاً بمعزل عن صاحبه، إذا ما كان هذا النص مستغنياً عنه، أو لنقل منغلقاً- إن صح التعبير– أو اذا ما شاء القارئ أو الناقد ذلك، وإنْ كنا نرى ذلك أمراً صعب التحقيق تحقيقاً تاماً غالباً. فحتى حين نفعل ذلك ضمناً ونحن نقرأ نصوصاً مجهولة المؤلف فإننا نسعى، في الحقيقة ومن حيث ندري أو لا ندري، إلى البحث عن مؤلفيها بين سطورها. فإني لأجد نفسي ميّالاً، وأنا أقرأ “الف ليلة وليلة” مثلاً، إلى أن أجد (مؤلفها) أو (مؤلفيها) متجسداً أو متجسدين في من أسمته الليالي ضمناً “شهرزاد”. وشيء من هذا يمكن أن يقال عن أعمال أخرى، مثل “ملحمة جلجامش”، إذ نجد مؤلفها متجسداً في شخصية العراقي القديم الذي تلبّسه، في بعض مراحل مدنيته، هَمّ الحياة والوجود والبحث عن سر الخلود.
( 2 )
واضح أن ما سبق– وإن بدا مختلفاً إلى حد ما– لا يتناقض مع القول بعدم ثبات معنى واحد أو فهم واحد أو دلالة واحدة لنص بعينه عبر الزمن أو لدى قرّاء مختلفين– وبين هؤلاء القراء نقاد بالطبع. كما أن عدم ثبات المعنى الواحد هذا بدوره لا يتناقض بالضرورة مع حضور المؤلف. فهو براينا يحضر بأشكال مختلفة أو لنقل بأبعاد متعددة تختلف باختلاف زوايا النظر التي نظر القراء إلى النص، وفي ضوء الظروف والنظريات المختلفة، ليرسل وربما يَمنح هذا النصُّ بذلك كلاًّ منهم ما لا يرسله لآخر، وهي رسائل ومعطيات هو قادر، بطبيعة بنيته، على إرسالها. ولعلنا إذ نتردد في القول إن مضامين هذه الرسائل وقدراتها التأثيرية موجودة في النص أصلاً، نرى أنها ذوات جذور أو أصول فيه، قد تعود بذراتها إلى المؤلف متمثلةً في تجربته بأشكالها المختلفة، وفي صدق هذه التجربة من جهة، وفي تألق التجويد الإبداعي أو الفني للتعبير عن هذه التجربة وتجسُّدِها بنيةً في أبعاد ومستويات مختلفة من جهة ثانية. لكنها لا يمكن أن يكون لها من وجود وهو ية وجود إلا عبر صيرورتها عن طريق القارئ. قد يتساوق مع هذا، قول رينيه ويليك: “عندما نرجع المرة بعد المرة إلى عمل قائلين إننا (نرى فيه أشياء جديدة كل مرة)، فإننا في العادة لا نعني أننا نرى المزيد من الأشياء من النوع نفسه، وإنما مستويات جديدة من المعنى، وأنماط جديدة من الترابط”([7]). وهذا بالتالي يؤكد ضمناً أن القارئ حين يكشف عن هذا فإنما هو يكشف عن أشياء زرع لها المؤلف أصولاً في نصه– ولنسمّها معاني أو مستويات أو أبعاداً– ولكن حتى وهي تعود بمثل هذه الأصول، كبُرت أو صغُرت، إلى شخصيته، فإنه لا يمكن أن يكون صاحبها بالمعنى التقليدي الذي كان يُعبَّر عنه قديماً بالقول هذا الذي أراده المؤلف، أو ما هذا الذي أراده. من هنا، وإذ يقول ويلك نفسه: “وقد حدثت في السنوات الأخيرة ردّة سليمة، تقر بأن دراسة الأدب يجب أن تركز أولاً وقبل كل شيء على الأعمال الفعلية ذاتها”([8])، ونحن قطعاً لا نختلف على ذلك، فإنه يقرّ أيضاً بفائدة شخصية المؤلف وحياته فيقول أيضا: “فبعد كل شيء نجد أن الأعمال الأدبية ذاتها هي التي تسوّغ كل اهتمام نبديه بحياة الأديب وبمحيطه الاجتماعي وبعملية التأليف الأدبي كلها”([9]). وعلى اية حال نحن بالطبع لا نذهب مذهب بعض النقاد عبر تاريخ النقد في اعتماد حياة المؤلف ودقائق شخصيته، كما كان يفعل الناقد الفرنسي سانت بوف في القرن التاسع عشر مثلاً، اذ كان “يعتمد، في ذلك، على المعلومات الدقيقة ليتبين أي نوع من الناس هو، وأثر حياته الطبيعية والمرضية ودلالة الصور التي يستعملها على استخدامه لحواسه وقواه”([10]). وفي المقابل نقترب روحاً من بعض- وليس كل- ما ذهب إليه نقاد ما بعد البنيوية تعلقاً بهذا، “الذين رفضوا كلياً فرضيات وادعاءات النقد الأدبي التقليدي. فمؤلفو الأعمال الأدبية بالنسبة لهم ليس لهم سلطة للسيطرة على معانيها أو تثبيتها. إن أصول العمل لا تكمن في ذهن المؤلف، بل في كل النسيج المعق للمعنى والمضمون الذي يخلق المؤلف منه النص. لقد صاغ بارت تعبيره (موت المؤلف) ليصف رؤية النص المتغيرة. فهو في كتابه (إس/زد) ينظر إلى النص على أنه (مجرّة) من الدالات يستطيع القارئ أن يفتحها بطرق متنوعة، وذلك من خلال فسح المجال لمختلف اللغات النقدية المتاحة ولكن ليس لأية واحدة منها أن تستطيع (غلق) مسيرة أو عملية الوصول إلى المعاني بفرض معنى أو دلالة محددة للدال. إن الدال سيبقى حراً دائماً، وقادراً دائماً على التشابك مع دالات أخرى من خطابات مختتلفة، ليُنتج معاني مختلفة”([11]).
إذن نحن مهما حاولنا أن نناور في مواقفنا ومفاهيمنا وفي تعبيراتنا لعزل النص عن مؤلفه، فإننا نخرج غالباً بنتيجة مصطنعة، تبقى مقبولة– إن قُبلت فعلاً– بحدودها النظرية فقط، وبشكل هامشي أو محدود فقط في تطبيقاتها، بينما يبقى المؤلف يلاحق الذين يهربون منه، مهما توهموا موته، بسمات شخصيته وذاتيته وروحه وسماته وتجربته الخاصة التي قد نعرفها حتى من قبل قراءة نصه موضوع القراءة أو النقد. كما كثيراً ما يبقى بمفاتيحه (شفراته) التي يهمس بها، إلى هؤلاء الذين يتكلّفون موته أو تغييبه المطلق، من بين سطور نصه لتساعد في فتح بعض (مغاليق) هذا النص. وهذا لا يعني أن يكون هناك إلحاح واقحام للمؤلف، أو لمتعلقاته وللمفاتيح التي يوحي بها للأخذ بها، بل تبقى للقارئ حتماً أبعادٌ، قد تكبر أو تصغر ولكنها تشكل في كل الأحوال سطلة لا يمكن تقزيمها، وهي أبعادٌ من الحرية للنظر إلى النص ومحاولة فهمه أو تحليله، باستحضار المؤلف أو بمعزل عنه، ولا نقول بإماتته بالطبع، أو بتجاوزه أحياناً، وبالوجود الفعلي للنص وليس على حساب سلطته كلياً. فيبقى صحيحاً، إذن، القول إن روعة العمل تكمن في ما يبدعه مؤلفه من تجارب ومعان وأبعاد ومستويات، وفي ما يُوحي به نصه؛ بعبارة أخرى في ما يمتلكه من “خاصية تعدد المعاني والقيم”([12])، وفي شخصية المتلقّي أو زاوية نظره إلى النص. ومرة أخرى نؤكد على أنه حين يقول امرؤٌ بالفصل المطلق، بين النص والمؤلف، الذي يقول به أصحاب مفهوم (موت المؤلف)، فان قوله لينطبق على النظرية والتنظير– ولكن غالباً بمعزل عن الحقل التطبيقي، نعني النص. أما إذا ما دخل التطبيق، فإنه يجد نفسه، صراحةً أو ضمناً، كثيراً ما يسعى إلى تلمس لمسات المؤلف وتلمّس مفاتيح النص لديه. فإذ يقول ناقد مثل جبرا إبراهيم جبرا– في “ينابيع الرؤيا”– مثلا: “أنا أفصل العمل الفني نهائياً عن حياة الفنان، أنا أؤثر أن أدرس ديوان شعر مثلاً، دون أن أعرف شيئاً عن حياة الشاعر الذي كتب هذه القصائد… [لأن] العمل الفني في النهاية يقف على قدميه مستقلاً عن صانعه”([13])، فإن الناقد نفسه لا يستطيع، في تناوله للعديد من الأعمال الشعرية والنثرية إلا أن يتجاوز هذا (الإلزام) الذي خُيّل إلينا أنه يفرضه على نفسه، كما فعل مثلاً في كتابه “الرحلة الثامنة” حين درس شعر عبد الرحيم محمود([14]). ومثل جبرا يفعل آخرون بلا شك. بتعبير آخر نقول حين نلغي من عملنا النقدي القصدية، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أو الحتم موت المؤلف، فأيّاً كانت سلطة القارئ والقراءة وأياً كانت تمرد هذه السلطة على المؤلف وعلى القصدية في النص، وتبعاً لذلك كان إقصاء سلطته وإيحاءاته هو ذاته، فإن كونه صانع النص- شئنا أم لم نشأ- قد يعني بدرجة ما معرفة مقصودة وواعية أو غير واعية ببعض أسرار النص وشفراته، على الأقل على سبيل الاحتمال والاجتهاد، ولكنه الاجتهاد المبني على الانطلاق من النص بوصفه صيرورة لا بوصفه منجزاً. وعليه فمعرفة المؤلف قد يعني اكتساباً لبعض تلك المعرفة، مع أن الإقرار بأنْ لا سلطة له- المؤلف- مفروضة علينا وعلى فعل القراءة. ولعل هذا كله يقرب هكذا قراءة من مناهج القراءة والتلقي والتأويل.
إن مفهوم (موت المؤلف) قد أُريد به خلق- أو اختلاق- منهج أو اتجاه أو نظرية لم يراعَ فيها، كثيراً وعملياً، الجانب التطبيقي. إن وضع نظريةٍ أو فرضيةٍ أو إيجاد موقف أو منهج لا يعني شيئاً أبداً ولا يكون صحيحاً بدون التطبيق العملي، مهما كانت أسسه المقدمة والمنطلق منها، وتبريرات وضعه وطروحاته منطقيةً ومقنعةً ذهنياً. فالصحة والخطأ، والدقة وعدمها لا تبين إلا في ساحة التطبيق. ولذا ليس غريباً أن يبدو رأي بارت، بأن “الكتابة قضاءٌ على كل صوت”، عند محاولة التطبيق، وهماً، إذ لا نجد له تجسيداً في هذا الجانب إلا بحدودٍ ضيقة جداً، وهذا لا يعني بدوره أن محاولتنا استحضار المؤلف أو، بتعبير أدق، الإقرار بحضوره وسيلتنا لفهم النص، بل يعني– كما قلنا سابقاً– أن يبقى للمؤلف وجود، يكبر أو يصغر تبعاً لطبيعة النص ونظرتنا إليه، وإن اختفى في فئة محدودة نسبياً من النصوص.
ثمة تساؤل، يبدو منسياً، يبرز في جانب آخر من الموضوع، وهو: أليس للمبررات أو الأسباب أو الطروحات، التي يقدمها النقاد ومنظرو مفهوم (موت المؤلف) ويدعمونه بها، أن تكون هي نفسها أداةً للدعوة لما يمكن أن نسمّيه (موت الناقد) أيضاً، كون الناقد، حين نتكلم عن القراءة والقارئ العادي والقارئ غير العادي للنص، عاملاً خارجياً، وأنه، في دخوله على النص مفسّراً ومحللاً ومنظراً ومعبراً عن فهمه له، يلغي مقولة (موضوعية النص وانقطاعه عن مبدعه)؟ إن هذا التناقض الذي يخلقه هؤلاء النقاد والمنظرون إنما يلغي جوهر طرحهم وفلسفته أو يضعفه ويوجب، في أقل تقدير، التخلي عن التطرف فيه، ولا نريد أن نقول- كما يقولون- إنه يوجّب (إماتة) مقولتهم أو نظريتهم كاملةً، لأن النص يبقى– رجوعاً إلى قول ويليك السابق الذكر– مركز اهتمام الناقد، مهما سيدعيه نقاد القراءة بعد حين. كما تبقى “سلطة النص هي أعلى السلطات المحيطة بالإبداع”، كما أننا لا نقول بالصح والخطأ في الأدب، فكما يقول دونالد هول، في كتابه المنهجي القيم “قراءة الادب”: “يجب الإقرار بأن الأدب شيء لا يتميز أو يتصف بالدقة، وأن (الحقائق) التي يقدمها لا يمكن التحقق منها عملياً بسهولة… ولكن هذا لا يعني، على أية حال، أنه– أي الادب– يعني أي شيء يمكن لشخصٍ أن يجده أو يراه فيه. فمع أن الآراء المختلفة والتي يمكن الدفاع عنها موجودة وشائعة فيه، فإن الخطأ في ذلك يبدو حتى أكثر شيوعاً… ولذا فالناس يقرؤون العمل الادبي نفسه باستجابات مختلفة… والفن الأدبي يؤكد أحياناً على شيئين متناقضين كونهما صحيحين، لأنهما كذلك فعلاً”([15]).
في ضوء هذا، ما كان لنا ان ننظر إلى النص الادبي قرائياً ونقدياً بنظرة واحدة، اذ “ليس في تناول المشكلات الأدبية طريقة مفردة يقال هي (الطريقة الصحيحة)، وليس هناك منحىً واحد إذا سلكه الناقد إلى الآثار الأدبية أفضى إلى كل الحقائق الهامة حولها”([16])، على حد تعبير ديفيد ديتشس. بتعبير آخر ليس هناك في الأدب والنقد صح وخطأ إلا بشكل محدود جداً، وتحديداً حين يمس حقائق تأريخية هي على أية حال ليست كثيرة كما هي ليست نصية، وعليه فهي لا تقلل من قيمة هذا التعميم. بدلاً من ذلك هناك ما نراه بشكل ما، لأسباب معينة وبتبريرات قد تقنع الآخرين وقد لا تقنعهم، وما نراه بشكل آخر لأسباب وتبريرات أيضاً لها نفس الحظ من من حيث الإقناع وعدمه. وهذا يقودنا إلى القول بإننا إذ نقر بحضور المؤلف والناقد، لا ننفي إطلاقاً القول بأن النص هو الذي يتكلم. إذ لا يمكن للمؤلف أن يحضر إلا من خلال النص، كما ليس للناقد أن يأتي بشيء أو رأي– سواء رجع إلى المؤلف أم لم يرجع، أو انطلق من ذاتيته هو أو من أفق توقعه- على حد تعبير بعض نقاد القراءة والتلقي– إلا من خلال ما في النص وبما يتحمله أيضاً. يبقى أن هذا الناقد أو ذاك قد يرى ويرينا نحن القراء معه ما لا نراه، وذلك بالتنوير الذي يلقيه على النص من خلال أدواته التي يكتسبها بموهبته ودراسته وتجربته. إذن ليس للمؤلف أو الناقد أن يوحيا أو يفرضا شيئاً ليس في النص ولا يوحي به أو لا يمكن أن يتحمله، بل هما يسلّطان الضوء على جوانب أو أبعاد أو مستويات قد لا نراها فيه، أو على أخرى يوحي بها أو يثيرها ولكن قد لا نسطيع نحن الانتباه إليها أو إدراكها. وأنْ ترى أجيال أو فئات مختلفة من القراء ما لا تراه غيرها، يقع ضمن هذا (الكشف)، بمعنى أنها ترى ما هو موجود في النص أو مما يحتمله، ولكن لم يحدث أن سُلّط ضوء خارجي– من مؤلف أو ناقد أو قارئ– عليه من قبل. وهذا مرة أخرى مما سيقول به بشكل ما بعض نقاد القراءة والتلقي فيما بعد. وإن استمرار مثل هذه الاكتشافات لعطاءات النص يعني بالطبع غناه وحيويته وقدرته- التي هي من قدرة منشئه- على منحه أبعاداً أو مستويات أو معاني متوالدة. ولذا ليس غريباً أننا لا زلنا نرى الجديد في أعمال شكسبير مثلاً مما يكشفه لنا النقاد ويقدمه معدو مسرحياته ومخرجوها. وديمومة هذه الاكتشافات إنما هي سر من أسرار حياة النص الشكسبيري، كما أنها سر عبقرية مؤلفه نفسه. وهذا بدوره لا ينفي أثر متلقّي النص أو ناقده، كما هو واضح هنا، فلطريقة التلقي ولزاوية النظر وللمنطلق الذي ينطلق منه هذا المتلقي، ناقداً أو قارئاً عادياً، فكرياً أو فنياً أو عقلياً، قبل قراءة النص أو أثناء قراءته، أثرها في رؤية ما قد لا يراه غيره. في هذا السياق نفسه تقريبا يأتي صحيحاً قول أحد النقاد: “ليس هناك قصيدة واحدة قد ثبت معناها عبر الزمن، بل يتغير هذا المعنى على الدوام، لا لأن القصيدة اختلفت– فشكلها الكتابي يظل في الأغلب الأعم ثابتاً– بل لأن قرّاءها أنفسهم قد اختلفوا”([17]). ولعلنا نقول إن هذا المعنى يتغير لأن زوايا النظر إلى القصيدة تتغير وتختلف باختلاف القراء أو حتى اختلاف قراءات القارئ الواحد. فمنطلقات القارئ الواحد أو القرّاء المتعددين تتغير وتختلف، وبالتالي يمكن أن يروا في قراءة معينة ما لم يروه في قراءة أو قراءات سابقة، أو لا يراه ولم يره غيرهم مما هو مضمَّن أصلاً في النص أو موحَى به أو حتى قابلٌ لأن يؤوَّل النص به. وعليه فهذا لا يكون دليلاً على غياب المؤلف أو موته، بدليل أن بعض هؤلاء القراء يتهيأُ لهم أن يروا ما لا يراه أو لم يره غيرهم من قبل، لأنهم يرجعون، من جملة ما يرجعون إليه، إلى المؤلف ويستعينون ببعض جوانب شخصيته أو دقائق حياته أو الظروف التي أحاط بتأليفه النص المعني مما قد تشكل إضاءات له، أو تفتح مجالات إيحاءات لا تتهيّأ لهم أو لغيرهم بدون بعض (حضورٍ) للمؤلف ووعيه ولا وعيه. ويبقى صحيحاً القول، أأحيينا المؤلف أم أمتناه، وأأبقينا على الناقد، أو على قارئ نستأنس برأيه ونحن نقرأ النص أم لم نبق عليه، إن القارئ هو الذي يحسّ بما في النص ويراه– وهذه حقيقة لا نتجاوزها– وعادةً ما يشترك مع النص في خلق معناه، ولكن أنّى لهذا القارئ أن يرى ما ليس له علاقة بالنص ظاهراً أو مضمَّناً أو موحى به؟ بعبارة أخرى أنّى له أنْ يرى ما لم يأت منشئه (المؤلف) به أو بأسسه أو بموحياته؟
( 3 )
كما لم نرتض بموت المؤلف عبر منح الوجود للنص فقط، فنحن لا نرتضي بما (ربما) لم يُقَل صراحة من تهميش لوجود النص وفعاليته بمنح بعض نقاد القراءة والتلقي الوجود الفاعل الرئيس، وشبه الكلي في تطرف بعضهم، للقارئ، بالرغم من ميلنا الشخصي لنقد القراءة ولدور القارئ المركزي في خلق معنى العمل الأدبي. فكما كان نقاد المناهج القديمة يبالغون في منح المؤلف السلطة العليا بوصفه المرجعية الرئيسة إن لم تكن الوحيدة في فهم النص، مما يُعبر عنه بالقول (هذا ما أراده المؤلف) و(ما أراد المؤلف هذا)، وكما انتهى النقاد النصيون بعد انتفاضتهم على ذلك، إلى المبالغة في عزل النص لا عن مؤلفه فحسب- مقولة (موت المؤلف)- بل في جعله بنية مغلقة– عند البنيويين عموماً- نقول كما فعل أولئك وهؤلاء هذا، فإن بعض نقاد القراءة والتلقي سينتهون إلى مبالغة شبيهة في تبنيهم القول بسلطوية القارئ ليقولوا مثلاً: “إن المهم في حقيقة الأمر ليست علاقة النص بالقارئ بل القارئ بالقارئ”([18]). ولكن يجب أن نقول ليس من المبالغة والتطرف القول بفرضية (القارئ الضمني)، لأن هذا القول لا يُلغي الآخر والسلطات الأخرى، خصوصاً حين نعرف أنه ـ”أمام الصعوبات التي تحول في كثير من الأحيان دون العثور على وثائق تارخية موضوعية تضيء عمليات تلقّي الأعمال، فإن كلاًّ من ياوس وغادامير قد لجأوا إلى فرضية القارئ الضمني، وتَمثّلَ في دراسة أبنية النصوص الأدبية ذاتها لرصد استراتيجيات المُرسِل الذي يتخذها كي يلفت انتباه المرسَل إليه مما يجعله يترك في النص فراغات كافية تسمح بتنشيط عملية القراءة في التعامل البنّاء للخلق الفني للعمل”([19])، وهو ما يعبر ضمناً عن دور من سيملأ هذه الفراغات، أي القارئ. فهنا إذ نتفق بشكل كبير مثلاً مع سامي مهدي حين يقول، في مقال له: “لقد كان النص الإبداعي، وسيظل، هو سيد الموقف في صراع النظريات والمناهج، فهو يحافظ على وجوده الموضوعي خارج كل القراءات”([20])، فإننا لا نذهب مع الناقد نفسه حين يقول فيما بعد: “أما النص الإبداعي فله وجوده المستقل عن نصوص جميع قرائه… وإذا كانت القراءات تتغير من منهج إلى منهج ومن قارئ إلى قارئ، ومن زمان إلى زمان، فإن النص نفسه لا يتغير، بل يبقى كما هو محتفظاً بتكوينه الأول، وكأنه حقيقة أبدية خالدة”([21]). فسامي مهدي يجانب واقعاً نعتقد أنه لم ينتبه إليه، وقد لا ينكره نقّاد القراءة والتلقي، ذلك هو أن الذي يبقى “حقيقة أبدية خالدة”، على حد تعبير الناقد، ليس النص تماماً بل كينونته المادية فحسب، وبين هذا وذاك فرق. كما ليس (النص) هو المقصود بما ينتجه القارئ، بل (العمل الأدبي) أو بشكل أصح (معناه) الذي لا يخلقه النص، والذي به فقط تكتمل كينونة العمل الأدبي، كما يوحي بذلك كلام سامي مهدي والكثير من النقاد، بل هو، أي النص، يشترك في خلقه. وما نأخذه هنا على كلام الناقد السابق ينسحب على قوله في مقاله نفسه:
“ولذا ليس صحيحاً القول: إن النص يبقى ناقصاً حتى يعثر على قارئه. فالنص مكتمل بذاته، وبما فيه من من مسكوت عنه، قبل أن يعثر قارئه عليه، وما يعثر عليه القارئ في النص ويصفه بأنه مسكوت عنه ليس هو المسكوت عنه… هو مجرد تأويل خاص به للمسكوت عنه الأصلي، وقد يجد هذا التأويل قارئاً آخر يخالفه، أو ينقضه، بتأويل آخر. وقد يكون التأويلان ضرباً من ضروب التقويل، اي إنطاق النص بما لا ينطق به بناء على نيّات القارئ وأهوائه وانفعالاته وتكوينه الثقافي والمعرفي وبناء على ذلك نقول: إن تعدد القراءات ليس دليلاً على نسبية المعنى الأدبي الذي يحتويه النص، كما يقول بعضهم، بل هو دليل على نسبية القراءة نفسها. وهذا يعود إلى طبيعة كل منهما. فالمعنى الأدبي هناك كامن في جسد النص، لا يزيد ولا ينقص، ولا يتغير ولا يتحول، بل يحتفظ بمحتواه الدلالي، ونسيجه الفني، وقيمه الإبداعية. وهو يواجه كل القراءات بحياد كامل واستعداد مطلق للانفتاح، ولا ينحاز إلى أي منها”([22]).
فنحن لا نستطيع أن نفهم كيف أن “المعنى الأدبي كامن في جسد النص، لا يزيد ولا ينقص، ولا يتغير ولا يتتحول”، على حد تعبير الناقد، وكلنا يعرف كيف أن هذا المعنى لا يتوقف أبداً عن التغير عبر الزمن؟ وكإنّا بالناقد هنا، حين يجرد القارئ مما هو جزء من عمله ودوره في العمل الأدبي، يعيدنا عما صار معروفاً من إيجابية القراءة والتلقي إلى سلبية التلقي، ضمن كلام ينطبق على النص القانوني وما يقترب منه من النصوص الدينية التي تكمن قيمتها ومعناها الموضوعيان فيها بمعزل عن القارئ، وليس على النصوص الفنية والأدبية. وفي ظل حقائق يصعب دحضها سيناقض طرح سامي مهدي المعبّر عن موضوعية وجود النص ووجوده المستقل الخالد، وعن رفض قاطع للقول بهيمنة سطلة القارئ، حين يقول: “لا أعني بهذا أن النص بنية مغلقة على نفسها ومكتفية بشبكة علاقاتها الداخلية، على رأي البنيوية. فهو في واقع الحال بنية مفتوحة نظراً لما يدخل في تكوينه من عناصر وموُجِّهات خارجية، ولما في نسيجه من علامات ورموز وشفرات تحيل إلى خارجه وتربطه بشكبة أخرى من العلاقات غير شبكة علاقاته الداخلية، ولكن هذا لا يلغي وجوده الموضوعي([23]). عن شيء يقترب من هذا يعبر الشاعر المترجم الأمريكي إليوت وينبركر، خصوصاً حين يفسر كيف أن كل قراءات النص الواحد تكون مختلفة بعضها عن البعض الآخر حتى حين يكون صاحبها الشخص نفسه، فيقول: “كل قراءة لقصيدة هي ترجمة لتجربة الفرد الخاصة ومعرفته- سواء أكانت تأكيداً أو تناقضاً أو توسيعاً. فالقصيدة لن يكون لها من وجود دون فعل الترجمة هذا. إن القصيدة يجب أن تتحرك من قارئ إلى قارئ، ومن قراءة إلى قراءة، في تحولات أبدية. والقصيدة تموت حين لا يكون هناك من مكان تذهب إليه”([24]). وإذا كان هذا ينطبق بشكل خاص على القصيدة، فإنه في الحقيقة ينطبق على كل نص إبداعي، ولا سيما حين يكون لغوياً. ولكن حين نتعامل مع النصوص اللغوية إبداعية وغير إبداعية، فإننا قطعاً سنحس فرقاً بين الإبداعية منها وغير الإبداعية، حتى ونحن نعرف أنها جميعاً لا ينكشف لها معنى حتى يكون لها متلق. “فليس من الممكن لأي قطعة لغوية تُقال من (معنى) حتى تُفهم من قارئ أو مستمع. فحين تواجهنا كلمات ما، فإننا نُجَرّ إلى تفسيرها، مع أنه في الكثير من الأحيان يبدو وكأن الكلمات التي تواجهنا لا تحتاج إلى تفسير إطلاقاً، لأن معناها قد يبدو وكأنه مكتوب على وجوهها، إذا جاز التعبير… [ولكن] النص الأدبي أكثر احتمالاً لإثارة التفسيرات المتنوعة من النصوص غير الأدبية. إنها كثيراً ما تكون مصممة لكي تسمح للقارئ بتقديم منطلق غني للتفسير. لكن هذا لا يعني أن التفسير هو، لهذا، ذاتي وانطباعي كلياً، وذلك لأن التفسيرات… تُنتج ضمن مجموعة من القواعد والأعراف. في كتابه (الشعرية البنيوية، 1975)، يحاول جونثان كولار أن يبرهن على أن النظرية النقدية البنيوية يجب أن تسعى إلى تفسير كيف أن القراء يتمكنون فعلاً من إنتاج معانٍ من النصوص. هو يؤمن بأن (البنية) تكمن ليس في النصوص ذاتها بل في مجموعة القواعد التي نتّبعها، حين نقرأ، ربما بدون وعي منا”([25]). فالنص الأدبي، مرة أخرى، لا يحتفظ إلا على ماديتيه ثابتةً لا تتغير، أما كل ما عدا ذلك فهو متغير وفقاً لتلقي القارئ له وللمحاورة التي تجري بينهما، بما يعني عندنا في الوقت نفسه نفي القول بحرية القارئ وهيمنته المطلقة وبعمله مستقلاً عن النص. فحتى إذا ما ذهبنا مع القول بأن “ما يدعوه بارت (متعة النص) يتمثل في حرية القارئ هذه بانتاج المعاني، وبمعنى ما بـ(كتابة) النص”([26])، فإن هذا لا يعني عندنا حرية مطلقة، بل هي القراءة المتحررة من أي معنى مقحم أو مفروض على القارئ من مؤلف أو نص أو أشياء أخرى. وحتى حين تبدو إلغائاً للنص بدايةُ قول بعض نقاد القراءة والتلقي “إن النص في ذاته ليس له أي قيمة تجريبية باعتباره أحد أطراف التواصل الأدبي… فالنص المبدئي في ذاته والذي لم تمسسه يد القارئ لا يدخل مجال البحث، فنحن لا نلتقي إلا النص المؤول الذي باشره الباحث بالقراءة”([27])، فإن تكملة هذا القول، كما نرى، تبيّن أنهم لا يلغون النص.
نعتقد أن هذا الخلاف وأحياناً التناقض وربما حتى الخطأ الذي قد يقع فيه بعض النقاد إنما يأتي من الخلط ما بين (النص) و(العمل الأدبي). فللنص وجوده بالطبع، ولكنه وجود مقتصر في ديمومته على ماديته، كما قلنا، وهو وجود منقوص إذا أردناه أن يعبر ويقدم معنى ودلالة تُتلقى. أما المعنى فلا يتحقق ليتحقق به وجود فعلي للعمل الأدبي إلا بوجود القارئ، وهذا بدوره قد لا يتنكر في كل الأحوال للمؤلف سواء أكان ذلك من خلال ما يعرفه عنه وبما توحي له به هذه المعرفة، أم بما قد يسمعه منه مما قد يقوده، في التعامل مع النص، في مسار غير المسار الذي سار به أو كان سيسير به لو لم يعرف شيئاً عن المؤلف ومنه. وهكذا فالمؤلف، في كل الأحوال، موجود، إن لم يكن بصراحة كلماته فبروحه وموحياته وربما بالرغبة التي تتلبس القارئ أحياناً للبحث عنه خيالاً أو حياة أو رأياً خلف الكلمات التي يقرؤها، وذلك ما يمنح هذا المؤلف بعضَ حياةٍ تتجاوز حياته الحقيقية، وتدوم دوام النص الذي يؤلفه، ولا يمكن لناقد أو قارئ، أن يمحوها من الوجود كلّيّاً، لا حقيقةً ولا معرفياً ولا قرائياً أو نقدياً، ما دام هذا النص موجوداً وما دام القارئ يتقبله، ولكن دون أن يعني ذلك أنه يستلب مركزية النص في العمل الأدبي. وقبل هذا لا يتنكر القارئ تماماً للنص، كما قد يذهب إليه بعض متطرفي مناهج القراءة. فالنص– كما يقول أحد النقاد- “يظل هو مصدر المعنى والدلالة، إلا أن ذلك لا يمنعنا من فهم رؤيا المؤلف لإضاءة النص كلما كان ذلك ضرورياً. لكننا من الجهة الأخرى نرفض ذلك الموقف المتطرف الذي أعلن عنه (النقد الجديد) في أمريكا وإنكلترا… [الذي يقول] إنه لا يجوز الاحتكام إلى الشاعر عند قراءة القصيدة، والاكتفاء بالنص وحده، وهو موقف جمالي أعادت البنيوية فيما بعد صياغته بالصورة التي سيّدتْ النص على ما عداه من عوامل خارجية وداخلية معروفة… ونرى هنا أن العملية الأدبية عملية إبداعية– أي عملية خلق، وأن المبدع– أو الخالق– هو المؤلف، ولذا يظل العمل الأدبي منتمياً لخالقه”، ولكن دون أن يكون له سلطة مفروضة بالضرورة على النص بسلطته المركزية، خصوصاً في ظل سلطة ثالثة عامله في تحقق المعنى للعمل الأدبي، نعني بها سلطة القارئ. وهذا كله يقودنا إلى تمييز الوجود الحقيقي للسلطات الثلاث: المؤلف والنص والقارئ، مع ميلنا شخصياً، وبدون أن نعني هنا مصادرة للرأي الآخر، أي الإيمان بمركزية سلطة النص.
[1]) ونحن نميل إلى أن نسميه (تغييب المؤلف) الذي نراه أدق في التعبير عما يُراد له التعبير عنه.
[2]) ديفيد ديتتش: مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق، ترجمة د. محمد يوسف نجم، بيروت، 1967، ص599.
[3]) المصدر السابق.
[4]) جبرا إبراهيم جبرا: ينابيع الرؤيا، بيروت، 1979، ص71.
[5]) عز الدين إسماعيل: الخطاب الشعري، جريدة (الجمهورية)، بغداد، 28 تشرين2 1987.
[6]) المصدر السابق.
[7]) أوستن وارين ورينيه ويلك: نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، 1972، ص320.
[8]) المصدر السابق، ص680.
[9]) المصدر السابق، ص679.
[10]) محمد غنيمي هلال: في الأدب المقارن، القاهرة، 1963 ، ص49. وانظر:
Rene Wellek: A History of Modern Criticism 1750-1950, Great Britain, 1981, Vol.1, p337-338.
[11]) Selden: Practising Theory, p76.
[12]) أوستين وارين ورينيه ويلك، نظرية الأدب، ص320.
[13]) جبرا إبراهيم جبرا، ينابيع الرؤيا، ص73.
[14]) انظر جبرا إبراهيم جبرا: الرحلة الثامنة، بيروت، 1979، ص29-30.
[15]) Donald Hall: To Read Literature, New York, 1983, p.vi.
[16]) ديفيد ديتشس: مناهج النقد الأدبي، ص547.
[17]) عز الدين إسماعيل: الخطاب الشعري.
[18]) صلاح فضل: د. صلاح فضل: مناهج النقد المعاصر، ص121-122.
[19]) المصدر السابق، ص123.
[20]) سامي مهدي: سلطة النص وسلطة القارئ، النص علامة ثبات والتأويل تعليق، جريدة (الدستور)، عمّان، 11 كانون2 2008، ص4.
[21]) المصدر السابق.
[22]) المصدر السابق.
[23]) المصدر السابق.
[24]) Susan Bassnett: Traveling through Translation, Comparative Critical Studies 6, 1, 2009, p14.
[25]) Selden: Practising Theory, p49-50.
[26]) ibid, p113.
[27]) صلاح فضل: مناهج النقد المعاصر، ص122.