قصة حُسْن السير والسلوك

حُسْن السير والسلوك

ميسلون هادي

نفضت خرقة المسح أكثر من مرة  وتفحصتها جيداً قبل أن ترويها بالماء، لتتفادى أية سحلية أو خنفساء أو فراشة برية قد تفزع عندما تجد يداً غريبة تمتد إليها أو قد تلسعها دفاعاً عن نفسها،وهذا ما حدث عندما رفعت المكنسة عن الأرض قبل سنين، فانقضّت على يدها نحلة ختلت بين خوص المكنسة ، وعالجتها بلسعة مؤلمة اشتعلت في سبابتها كالنار .

عصرت خرقتها في دلو الماء وهي تفكر في أشياء كثيرة يجب أن تزال من على جدران وزوايا المنزل.. أشياء مثل أسماء وأرقام هواتف وعناوين مدوّنة على عجل في قصاصات محفوظة هنا وهناك بخط يدها، وأخرى مقتطعة من الصحف والمجلات كوصفات الأطباق وإعلانات التنظيف الموقعي للسجاد والأرائك وجدول السعرات الحرارية الذي كانت قد علقته على باب الثلاجة منذ وقت طويل، وألصقت بقربه صورة ملونة للأميرة ديانا واقفةً بطولها الفارع بجوار زوجها الأمير تشارلس أيام كانت السعادة تشرق من وجهيهما، ولم يكن أحدهم قد أدار ظهره للآخر بعد……. في تلك الأيام كانت قد قالت لزوجها إنها تريد أن تعلن حرباً ضد الشيخوخة  مثلما فعلت الصبوحة ولا زالت تفعل، فقال لها زوجها إن الشحرورة الصبوحة لم تقاوم الشيخوخة بجدول للسعرات الحرارية علقته على باب ثلاجتها وإنما هي زرعت، بمئات الآلاف الدولارات ، خلايا حية منزوعة من البراعم والسويدءات والحبال السرية.

استغربت إهمالها لذلك الجدول كل تلك السنين ، وبقيت تتأمله طويلاً بين يديها قبل أن ترميه إلى سلة المهملات… ثم تأخرت لفترة أطول في النظر إلى الأميرة ديانا ، ذات الضحكة المشرقة والأناقة العجيبة، وعز عليها أن ترميها هي الأخرى إلى سلة المهملات ، كأنها كانت أكثر طيبة وحناناُ من الآن عندما كانت تعيد كل يوم ترتيب أدوات الزينة آخر الليل وتنظر إليها بحبور مثل طفل يصف أقلامه الملونة في علبتها ثم يضعها قرب رأسه قبل أن يهوي إلى فراشه لينام . وكلما عادت إلى الوراء وجدت حنانها أكثر وقسوتها أقل….. ولو ظلت عائدة إلى الوراء حتى الوصول إلى صورها الجامعية التي تعود إلى أيام السبعينات لوجدت إنسانة أخرى سواها: جمالها جعلها هفهافة كالفراشات، فطارت وحلّقت في الهواء الطلق وطاب لها برد النسيم، قبل أن تنتهي السبعينات فيجبرها أبوها على ارتداء الحجاب، ثم جاء زوجها فجعلها تخلعه من جديد، وقرب نهاية التسعينات كان ابنها قد كبر وبلغ مبلغ الرجال فصار يطالبها بارتدائه من جديد.

عصرت خرقة المسح مرة أخرى ومرّرتها على بلاطات الأرض ، فسرّها أن رأتها تصطج وتلصف مثل صفحة نهر…. خصلة بيضاء تدلت أمام عينينها ، فردتها إلى مكانها ثم انتصبت على قدميها الحافيتين وعدّلت من وضع ثوبها وهي تتساءل لماذا تكون ملابسها وربطة شعرها تقويماً يكتب عليه الآخرون انتصاراتهم وهزائمهم؟ ولماذا راحتهم قد تحققت فيما كتبوه؟ فيما تدور هي في أرجاء البيت لتتأكد من أن جميع شراشفهم نظيفة ، وأن كل شيء على ما يرام.

صدقت ما قالته لها أخريات بأنْ لم يعد لها مكان بين الخرائط والبوردات ومواقع العمل، وأن المرأة مهما كابرت في التوفيق بين العمل والبيت، فإن مهنتها، وليس مهنة الرجل، في النهاية هي التي تطير وتتلاشى مثل الدخان.. وزوجها الذي رفض بشدة في البداية أن تترك الهندسة من أجل شؤون البيت هو نفسه الذي تراجع عن ذلك في النهاية ورفض أن تعود إلى العمل وتترك شؤونه وشؤون البيت لكي تدار كيفما اتفق، ودارت الأيام  وصار غداؤه وقيلولته بالنسبة له أهم شؤون حياتها وحياته على الإطلاق….. فعصروها مثل خرقة.. وداسوا أجنحتها الغضة بقسوة.. سرقوا علبة أقلامها الملونة من تحت وسادتها. وعندما لم يعد ينظر إليها أحد ولا يلتفت إليها في الشارع رجل من الرجال. شعر الجميع بالراحة إذاك.. ووجد ابنها الوقت مناسباً لكي يقول:

  • أشعر بالإحراج أن تكون أمي سافرة وأنا بهذه السن.

فقال أبوه:

  • معه حق.

فارتدت الحجاب..

ثم نامت.

اتخذت قراراً مع نفسها بأن تتظاهر بالنوم.. وأن تتركهم يتدبرون أمور حياتهم لوحدهم ، فيدعونها لشأنها بضعة أيام تسترد فيها مع الأحلام نفسها التي كادت تضيع منها إلى الأبد ..

قلقوا في البداية واهتموا  واستدعوا أكثر من طبيب للكشف عليها شخّص آخرُهم الحالة بأنها نفسية  ثم بعد أن ملّ من الرواح والمجيء قال لهم: اتركوها تنام كما تشاء وستنهض في النهاية من تلقاء نفسها ويضطرها الجوع أو العطش إلى مغادرة الفراش والعودة إلى الحياة .

وعادت إلى خرقة المسح من جديد ..تملأ ماءً نظيفاً وترميه متسخاً.. وتتحاشى النظر إلى زوجها الذي هددها بأن يتزوج عليها إذا لم تعد إلى الاهتمام بنفسها والنظر إلى مرآتها وتدبر أمر شعرها الأبيض الذي جعلها تبدو وكأنها أمه لا زوجته.

تكلم طويلاً.. طويلاً ..

كانت ترى فمه يتحرك ..

وأفواه الآخرين تتحرك ..

ولكنها لم تكن تسمع أبداً.. تنظر فقط إلى وجه زوجها وإلى باقي الوجوه. ولطول ما نظرت وجدت فعلاً أن الجميع قد أصبح أكثر وسامةً وشباباً منها.. وهي العجوز الوحيدة بينهم.. الشمطاء.. البلهاء.. التي بلا حيلة ولا رأي..

أصابها الفزع.. طار عقلها مع الريح.. أصبحت تفر من الظلال، وصارت تحدث نفسها أحياناً، وتقول إنها قد اقتربت من الخمسين.. ابنها يريدها عجوزاً لا ينظر إليها أحد، وزوجها يريدها عروساً في الفراش.. أحدهما على حق والآخر على باطل. أما هي فلم تعد تملك القدرة على التمييز أو أن تعرف من تحب ومن تكره؟ بل لم تعد تجد القدرة على الكلام..

تعثّر لسانها بعد طول الصمت.. وفقدت شهيتها للحديث.. الجملة الوحيدة التي أصبحت ترددها على مسامع زوجها هي:

  • ماذا سأطبخ اليوم؟

عبارة قديمة تكررت على مسامعها وهي طفلة.. حبكتها ألسن النساء من خيوط التكرار، فصارت كالمنديل يلوّح لها من الماضي مستقبلاً إياها إلى نادي النساء ذوات القباقب والفساتين والقهقهات.. اللائي كنّ يتدللن ويتعطرن ويكرزن الفستق.. أما هي، فلا تعرف هل امرأة كانت أم رجلاً؟.. صغيرة أم كبيرة؟.. ذكية أم غبية  ؟.. عاقلة أم قبيحة؟.. سعيدة أم تعيسة؟.. أم كانت هي فعلاً تلك المهندسة ذاتها الجميلة الصغيرة الذكية العاقلة السعيدة التي لم ترتد بعد ذلك الوجه الأبله الذي يرى الحياة تمر فرحانة على وجوه الآخرين، فيكتفي بالنظر إليها فاغراً فمه خائفاً في سره من أن يراه أحد وهو فرحان؟

دارت في البيت وتشممت ملابس زوجها وأبنائها وتفحصت الشراشف والستائر والبجامات ودارت الغسالة من جديد ، فهربت من ضجيجها إلى خرقة المسح لكي تحدثها وتشكو لها همها وتسرها آخر أخبارها، فهي الوحيدة التي تصغي إليها عندما تتحدث ولا تمل من كثرة الشكوى ولا من تكرار الكلام .. مكانها المعتاد هو في ركن بعيد هادئ على حبل الغسيل، ولكنها لم تعثر عليها هناك.. ولا في الباحة الخلفية للبيت.. ولا قرب حنفية الماء الموجودة في مؤخرة المرآب.. فأين وضعتها؟ ولماذا هي غير منشورة في مكانها المعتاد؟ فكرت، عندما وقع نظرها على الغبار الكثيف الذي يغطي زجاج السيارة، بأنه ربما تكون عاصفة الغبار التي ثارت في الصباح قد طيّرتها إلى الشارع أو إلى حديقة الجيران.. وقفت لوهلة نتظر إلى السيارة التي لم تعد تقودها منذ زمن طويل.. نادتها إلى الحرية،  فصعدت إليها وقالت لنفسها:

  • أهذا وقت خرقة المسح ؟ لقد تأخرت على الدوام..

بائع الجرائد كان يرتدي قميصاً مرسوماً عليه وجوه كثيرة.. كثيرة جداً.. متشابهة كلها.. وتضحك.. قال:

  • هل تريدين جريدة؟
  • لا أريد.
  • مجلة؟
  • لا أريد.
  • عشتار.. شهرزاد.. زهرة الخليج؟
  • لا أريد.
  • سيدتي؟.. آنستي؟.. لها؟.. لك؟.. نصف الدنيا؟

مدت يدها تحت مقعد السيارة، فاستخرجت مسدساً وصرخت به صرخة هوجاء:

  • قلت لك لا أريد.

فصرخ هو الآخر من شدة الألم وسقط مغشياُ عليه، فضحكت وهي تعصر خرقة المسح ، وقالت لنفسها:

  • حرامات.. لولا هذا الأبله بائع الجرائد لوصلت مبكرة إلى عملي ولم يفتني الدوام.

ثم عاودت مسح ما تبقى من الممر الطويل.. وقيل إنها في السجن كانت عجوزاً طيبة محبوبة يشهد لها الجميع بحسن السير والسلوك.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

قصة وحدة تفكيك المتفجرات

وحدة تفكيك المتفجرات    ميسلون هادي  طَرق الباب وقت الصباح للاستفسار عن التويوتا الذهبية الواقفة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *