قصة انقطاع

انقطاع

ميسلون هادي

قرّب الرجل الفانوس إلى وجهه وقال بصوت مسرحي تعمد أن يكون هامساً ومرتجفاً ومثيراً للخوف :

– شبيك .. لبيك .

فشعرت المرأة بالخوف وقالت به بدون أن تضحك :

– أعد التيار الكهربائي .

فراح الرجل يعد من الواحد للعشرة ببطء شديد.. وهي لعبة ذات أمل قديم وخفي تخطئ في بعض الأحيان وتصيب، مصادفة، في أحيان أخرى، مع ذلك يلعبها الرجل كلما انقطع التيار الكهربائي وينجح كثيراً في أن يجعلها تبدو سحرية ومقنعة وقادرة على إعادة التيار الكهربائي إلى المنزل.

كانت تعابير وجهه توحي بالجدية، واتقان دور الجني كما ينبغي … وعندما وصل إلى الرقم (ثمانية) راح يتباطأ اكثر وأكثر وهو يكسر تلك الجدية بلمحة مزاح :

– ثمانية ونصف .. تسعة إلا ربع .. تسعة وربع .. تسعة ونصف …….. هل أكمل ؟

لم ترد عليه المرأة بل لاحظت أن صوته أخذ يتغير قليلاً، وإن احتفظ بالنبرة المازحة نفسها، فقالت له، وكانت لا تزال تشعر بالخوف :

– أتعرف .. أن انعكاس ضوء الفانوس على الوجه يجعله جنياً بالفعل .

فضحك بصوت أخن ومتقطع ثم ترك الفانوس بقربها وجلس وهو في الظلمة واسترخى إلى الخلف بلا حراك تقريباً، وراح ينظر إلى زخرفة الضوء التي طبعتها فتحات الفانوس على سقف الغرفة سألته :

– أين النظارة الطيبة؟ أريدها.

ثم مدت يدها إلى وجهه، وراحت تتحسسه ببطء شديد، وتفكر مع نفسها بأن الهواء ساكن والجو هادئ، فلماذا ينقطع التيار الكهربائي في هذا الوقت المتأخر من الليل . مس المعدن البارد للنظارة الطبية كفها فتوقفت فجأة، وعادت بيدها إلى ذقنه من جديد … تحسسته ببطء مرة أخرى ثم أوشكت أن تسأله شيئاً ما، ولكنها عدلت عن ذلك وقالت له :

– وجهك يبدو خشناً .

قال لها :

– لم أحلق منذ مدة طويلة .. الماكيير طلب مني ذلك .

قربت أنفها إلى وجهه وتشممته في أكثر من مكان، فكان عطر صابون الحلاقة لا يزال موجوداً هناك يفوح من مكان غامض وخفي، وبالضبط بعد أربعين يوماً من زواجهما، وكانت ياقة قميصه مقلوبة إلى الداخل لكي لا تتلوث بصابون الحلاقة، فاستغربت لماذا يحلق ذقنه بعد أن يرتدي ملابس الخروج ولا يحلقها قبل ذلك . كان العطر لا زال هناك خلف تلك الأشواك السوداء القصيرة التي نبتت على ذقنه بطلب من الماكيير كما يقول .

سحبت النظارة الطبية عن عينيه، وفتحت الكتاب الذي في حضنها من جديد … فالتمعت في ذهنها أسورتها الفضية المكسورة التي تركتها عند الصائغ منذ خمسة أشهر ولا تزال عنده حتى الآن .. وظلت تفكر في تلك الأسورة ، وهي تنظر الى موجودات الغرفة التي راحت تتضح شيئاً فشيئاً داخل الظلمة بعد أن كانت غارقة في قطعة من السواد … استغربت مع نفسها كيف تركت تلك الاسورة طيلة هذه المدة هناك برغم أنه ليس ثمة سبب محدد يدعوها إلى هذا التأخير .

رائحة النفط المنبعثة من الفانوس ذكرتها على الفور بسحابة كثيفة من الدخان الأسود ظللت سماء بغداد ذات يوم ثم أفرغت دخانها مطراً أسوداً لا تزال ذؤاباته تلطخ أسيجة المنازل والسطوح..  قالت له :

– رائحة الفانوس تشبه رائحة الحرب .

قال :

– نفطه يكاد ينفد .

قالت :

– هيسة يقول عن عصرنا بأنه عصر الخوف الأسود ؟ أهو من يقول أيضاً أن الأمل المؤجل يجعل شيئاً ما عليلاً .

قال وهو يرسم بأصابعه ظلاً ما على الحائط:

– لا .. هذه لصموئيل بيكيت . أيضاً .

لاحظت المرأة أنه استعمل كلمة (أيضاً) بلا داعٍ … وانتظرت أن ينزل أصابعه من الحائط ولكنه لم يفعل .. فنكسّت رأسها إلى الكتاب وأعادت الورقة التي أمامها إلى الوراء وراحت تقرأ ما سبق أن قرأته مرة أخرى على ضوء الفانوس .

سيارة جيرانهم الفولكس فاكن اشتغلت فجأة، فبدا صوت اشتغالها شبيهاً بدوي طائرة مروحية تطير بانخفاض سادر .. تسارعت دقات قلبها بشكل مفاجئ لدى سماعها ذلك الهدير، ثم اهتزت الأبواب حولها بقوة، وانطفأت شعلة الفانوس وأصبحت المرأة بلا حراك تقريباً فوق الأريكة بعد أن أغلقت الكتاب في حضنها ولبثت صامتة تماماً . تململ الرجل من مكانه وتذمر بكلمات قليلة قبل أن ينهض إلى خارج البيت ليجيء بالنفط ويملأ به الفانوس .

سمعت صوت انفتاح باب المطبخ تلاه صوت شيء ما يسقط على الأرض، فأحست بنفسها تسقط فوراً إلى تلك اللحظة المقدرة من لحظات الوجود الطاحنة. وعصرت قلبها يد خشنة وقوية لا ترحم . أيقظتها تلك اليد من صحوها، ورمتها إلى متاهة هذا العلو الشاهق من الأصوات والأجساد والأشياء. وكأنما كل صوت ينطلق إلى ما لا نهاية، هو موجة مقدرة يجب أن يتكرر جريانها بلا تلكؤ حتى تصل إلى ضفافها وتتلاشى …. أصبحت الظلمة ثقيلة وخانقة فصاحت تسأله بنفاد صبر :

– ما الذي سقط على الأرض ؟

قال :

– لا أرى شيئاً .

فكرت أن الصوت الذي سمعته قبل قليل يشبه صوت ارتطام أحمر شفاه بالأرض، ولكنها لا تضع أصابع أحمر الشفاه في المطبخ فما الذي سقط على الأرض ؟!

قال :

– إنها قنينة اللبراكس .

ثم أغلق باب المطبخ واتجه إلى غرفة المعيشة، فمدت يدها إليه لتأخذ منه شمعة مشتعلة، بينما انصرف هو إلى صب كمية من النفط في فوهة خزان الفانوس .

برقت في رأسها صورة شمعة أوقدتها في الحمام قبل أعوام، ثم وضعتها على حافة الحوض ومضت إلى المطبخ تأتي بقدر من الماء الساخن … كانت الشمعة تخفق بشرار مرتعش يكاد ينطفئ بسبب رداءة الشمع ودلو الماء الساخن يبعث أبخرة ضعيفة سرعان ما يتلاشى بياضها بسبب برودة الجو … دوت  صفارة الإنذار في اللحظة نفسها التي أغلقت فيها باب الحمام وقت الغروب، فلبثت ساكنة في مكانها كحيوان يتهدده الخطر فيتظاهر بالموت.. تحولت فرقعات اللهب المنبعث من الشمعة إلى أصابع صغيرة للموت تنقر على مرمرة الحوض بأظافرها العظيمة المدببة، وتترك روحها للفراغ العظيم الذي لا يرحم . قالت لنفسها :

(لماذا تأخر الضوء كل هذا التأخر) وراحت أنفاسها تعلو وتهبط بعنف، كما لو أنها كانت تقف وحدها على مكان عال بلا أسيجة ولا تربطه إلى الأرض أية روابط .. دفعت الكتاب من حضنها إلى الأريكة وقالت بنفاد صبر :

– متى يأتي الضوء ؟

فضحك الرجل الضحكة المتقطعة نفسها التي استغربتها قبل قليل، وقال بصوت مترصد :

– عشرة إلا ربعاً .

ثم فرد يديه في الهواء ورمى ظهره إلى ظهر الأريكة وصاح :

– عشرة .

ظلت يده في الأعلى معلقة للحظات ثم سقطت مرة أخرى إلى ظلام الغرفة الدامس وأصبح الليل في الخارج يمتلئ بشراب أسود يفيض من إناء خفي، ولا يكف عن التدفق ليغرق المنازل بعتمته السوداء السائلة وينفي روحها إلى الفراغ أكثر من أي وقت مضى .

من مجموعة لا تنظر إلى الساعة.

بغداد 1994

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

قصة وحدة تفكيك المتفجرات

وحدة تفكيك المتفجرات    ميسلون هادي  طَرق الباب وقت الصباح للاستفسار عن التويوتا الذهبية الواقفة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *