قصة انسَ الدنيا

انسَ الدنيا

ميسلون هادي

    مشكلة الرأس أنه يتعجب ويسأل ويدمدم ويمطر في الفصول الأربعة. إذا عادت به السيارة الى الوراء يدوخ، وإذا نظر إلى لوحة بالمقلوب ينزعج، وإذا نظر من أعالي البنيان يرتج. هذه هي مشكلة الرأس الذي يقلق ويكره ويحب ويحزن ويفرح ويدوخ، أما إذا تاه عن الطريق فإنه يسأل ألف سؤال، وإذا دخل إلى بيت فإنه يفتح ألف باب. يختلق ألف عذر ليقنع نفسه بأنه فعل الصواب، ويجرّب ألف طريق قبل الوصول إلى النهاية.

مشكلة الرأس أنه ينزعج إذا رأى ضوءاً أحمر، ويحزن إذا سمع أغنية قديمة، ويبكي إذا رأى نهراً يجري. مشكلته أنه صغير ولا ينمو، لكنه يبدأ كل يوم من نهاية يوم آخر، فيدخل من حيث خرج، ويخرج من حيث دخل، وتمر به خمسون ألف فكرة أخرى. وهذا كثير. كثير جداً حتى على رؤوس أفلاطون وسقراط وأبقراط وفوكو وإيكو. مشكلته أنه لا يتوقف عن الدوران حول نفسه والدخول إلى الدهاليز المظلمة، ولا عن التفكير لحظةً واحدة في كل ما يراه ويسمعه ويشمّ عطره، وهذا كثير. كثير جداً حتى على رؤوس هيغيل وشوبنهاور وابن رشد. جرِّبْ أن تعد من الواحد إلى الخمسين تر أن رأسك لا يدعك تُتم العد قبل أن يلتفت إلى ضوء أحمر أو أخضر أو أصفر أو إلى فردة حذاء مرمية على الشمال أو اليمين. جرِّبْ أن تتمدد وترتاح وتغط في نوم عميق، تر أن تلك الأفكار تتحول أحلاماً وكوابيس لها بداية وليس لها نهاية. جرِّبْ أن تقرأ نصف صفحة في كتاب تجد أن تلك الأفكار تتحول هباءات تسرح وتمرح على هواها. جرِّبْ أن تمشي ثلاث خطوات إلى أمام، تنمُ تلك الهباءات وحوشاً تتحرك في الدهاليز المظلمة. جرِّبْ أن تجلس لدقيقة واحدة، فستفزع قبل أن ينتهي فنجان القهوة. لماذا الفزع؟ لأن الذبابةً حطّت على شراب سيّئ المذاق، وملاعب المونديال عدوة للبيئة، وشجرة الجيران أجمل من شجرة العائلة. هذا كثير وكثير جداً على كرة صغيرة تتوسط منكبين عريضين، وتعلو قامة أكبر منها بخمسة أضعاف.

إثنان ناقصاً واحداً يساوي واحداً، وبعد الواحد ألف عدو ولا صديق واحد. واحد زائداً واحداً يساوي اثنين. وبعد الاثنين ثلثاء وأربعاء وخميس. ضعف الخمسمئة ألفٌ، وبعد الألف باء وتاء وثاء وجيم. علامة التعجب شيء وعلامة الاستفهام شيء آخر. ضلع المثلّث شيء ومساحة المثلّث شيء آخر. ضلع المربّع شيء ومحيط المربّع شيء آخر. والمستطيل ما أهبله، وشبه المنحرف ما أسخفه، والنقطة ما أكبرها، والسطر ما أطوله. أما الدائرة فمشكلة المشاكل. تدور وتدور وليس لها أول ولا آخر. كم الساعة الآن؟ العاشرة ولا تنسَ الخمسين دقيقة. كم عمر السيارة؟ ثلاثون ألف ميل. ولا تنسَ الخمسين متراً. بكم دفتر اشتريتها؟ بدفترين. ولا تنس الخمسين دولاراً. هذا كثير. كثير جداً حتى على رؤوس ماركيز وفوكنر وهيرمان هيسه.جرِّبْ أن تغمض عينيك ترَ في الظلمة هواء المروحة يطوّح بك بلا هوادة. جرِّبْ أن لا تأكل وتمنع عن هذا الرأس دود الأفكار وأرجلها الألف، يستيقظ الرأس نشيطاً كالشيطان ويدعك ترى قفازاً بست أصابع وكرسياً بعشر أرجل وملعقة برأسين.

ممتازة جداً فكرة الرأس الواحد فوق الكتفين، ففيه العينان والأذنان والمنخران، ومنه نعرف إنْ كنا في بغداد أو أوسلو أو هامبورغ، ومنه نرى الهدف الوحيد الذي سدده السفاح إلى مرمى توتهام، ونعرف أيضاً أن فالنسيا خسر أمام مانشستر يونايتد بثلاثة أهداف نظيفة، وان نيكول كيدمان تزوجت من توم كروز. لكن مشكلة الرأس أن خمسين ألف فكرة تمر عليه في اليوم الواحد ليبحث لها عن ألف جواب وجواب، وهذا كثير جداً على مروحة صغيرة تطوّح بك بلا توقف. بل هو كثير جداً حتى على مراوح أديسون وماركوني وأنشتاين ونيوتن وأرسطو طاليس.

المشكلة أنه لا يمكن لواحد أو اثنين من الإنس الاستغناء عن الرأس. موهوب ويمتلك العديد من الإمكانات والألاعيب.. مهروش لا يعرف الهدوء ولا السكينة،  ويتمنى أن يكون كما الهيدرا، بتسعة رؤوس. الضبع والذئب والقط والكلب والأسد جميعا لديها رؤوس، باستثناء الإسفنج البحري المسكين الذي كان ينتمي لفصيلة النبات حتى شاء حظه العاثر أن يفحصه العلامة أليس، ليجد أن الماء يدخل من مسامه الجانبية، ويخرج من فتحة عليا بطريقة مطردة، فداخله شك في أن ما يفحصه ربما يكون حيواناً وليس نباتاً. كان على حق في ما يتعلق بالمسام الجانبية، وعلى خطأ في ما يتعلق بالمجهود الخارق لإقلاق راحة الإسفنج.

لا لا لا…

 لا يمكن العيش مع هذا الرأس الواحد الذي يرى ويسمع ويشمّ ويسأل ويتحرك كمروحة ليس فيها فاصل واحد من الراحة. هذا صعب للغاية. ويزداد صعوبة كلما أذاعت “الجزيرة” خبراً عن البرادعي أو رامسفيلد أو توني بلير، أو كلما نشرت “البي بي سي” خبراً عن ترامب أو كلنتون أو باراك أوباما.  الدليل الأكيد على أن الرأس هو الأكثر إزعاجا من باقي أعضاء الجسم، أنه وحده الذي يضحك بعد كل ما يراه ويسمعه في التلفاز من أخبار وتقارير مصورة عن إيلان وحلب ونمرود… سترى العين قبل أن يأكلها الدود، وستسمع الأذن قبل أن يأكلها الدود. وسيتحول الرأس عدوّاً تروش فيه الديدان التي تسمع وترى، ثم تضحك بالرغم من أن لديها ألف عدو ولا صديق واحد.

وحدها الأشجار ليس لها رؤوس ولا عيون أو آذان. لهذا فإنها لا تدوخ إذا ما عادت بها السيارة إلى الوراء، ولا تنزعج إذا وُضعت أمام لوحة بالمقلوب، ولا تقلق أيضاً إذا ما استعصى عليها النوم، فهي لا تعجز أصلاً عن النوم، ويمكنها أن تبقى واقفة في الليل والنهار، ولديها اليخضور تحت سماء  صافية، وبعد ذلك لا يهمها إنْ كانت في بغداد أو أوسلو أو هامبورغ. لا تحزن إذا جرى النهر أو غنّى المغني أو صفر القطار. ولا تقلق إذا رنّ جرس الباب أو إذا لم يرن. ولا تعرف الجزع من خمسين ألف فكرة تمر باليوم الواحد. إنها لا تعرف أصلاً أن تعدّ من الواحد للعشرة، وتجهل حاصل ضرب اثنين في خمسة، ولا تعرف أنها موجودة في هذا الزمان. ليس لها يوم ميلاد ولا هوية أهوال مدنية، لا تتيه عن الطريق ولا يهمها أنها موجودة أصلاً في هذا الطريق . خضراء لا تعلم أنها تزوجت من ابن الجيران فخلّفت أولاداً لا يلعبون الكرة في الطرق، ولا يحفظون جدول الضرب، ولايخافون الحصبة والجدري. ليست كريمة لأنها لا تضربهم، وليست لئيمة لأنها لا تشتري لهم الدمى والثياب. لا تحزن لتقصف شعورهم أو زيادة أوزانهم أو الوصول إلى ناتج القسمة الطويلة بعد خمسين دقيقة. لا تعرف من هم أولادها ومن تزوجوا ومن هم أحفادها وأين يعيشون. لا تبكي إذا رحلوا، ولا تفرح إذا عادوا، ولا تدري هل هم في بغداد أم أوسلو أم هامبورغ. مهما يكن الضجيج عالياً فلن تهتم، ومهما يكن العالم بالمقلوب فلن تحزن، ومهما يكن حاصل الضرب فلا يهم. لماذا إذاً الخوف من الموت في يوم من الأيام؟ لماذا الحزن إذا تحول هذا الرأس شجرة؟!

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

قصة وحدة تفكيك المتفجرات

وحدة تفكيك المتفجرات    ميسلون هادي  طَرق الباب وقت الصباح للاستفسار عن التويوتا الذهبية الواقفة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *