قصة من الخيال العلمي
ألم تنسَ شيئاً قبل أن تخرج؟
ميسلون هادي
انفتح باب البيت بتلقائية حالما اقترب الرجل منه.. ثم سرعان ما انغلق، بعد أن اجتازه الرجل، بهدوء مطاطي محكم. وباب البيت لا ينفتح بذلك الشكل الآلي إلى لقلة من الناس مكوّنة من الرجل وزوجته وبعض أقاربهما ممن يخصهما الزوجان بـ(كود) مغناطيسي خاص يشبه في وظيفته كلمة السر التي كان الناس يستخدمونها فيما مضى، أثناء الحروب والاجتماعات السرية.
للبيت أربع غرف في الطابق السفلي وغرفتان في الطابق العلوي وسلم يلتوي كالثعبان عارٍ من أي (محجّر) يربط الطابقين ببعضهما كما لو أنه، من شدة ثباته وقوته، هو الذي يرفع الطابق العلوي ويحول بينه وبين الانطباق على الأرض. مضى الرجل إلى السلم وألقى نظرة خاطفة على درجاته. كان بمقدوره أن يرتقيه مستخدماً قدميه، ولكنه فضّل أن يفعل ذلك بشكل آخر، إذ أنه كان مرتدياً بدلته الهوائية ذات المحرك النفاث، والتي ما أن ضغط على أزرارها حتى ارتفع في الهواء بشكل عمودي ليصبح في الطابق العلوي بعد أقل من ثانية.
صاحت زوجته من المطبخ:
- هل أنت في البيت، يا حبيبي؟
فأجابها زوجها:
- نعم.
انتبهت زوجته إلى أن صوته يأتيها من الغرفة العلوية، ففضلت أن توفر على نفسها عناء الصياح وأن تحادثه من خلال جهاز الاتصال الداخلي. ضغطت على زر الجهاز المثبّت على لوح الشاشة المرئية، فظهرت صورته على الشاشة وهو في غرفته يخلع بدلته الهوائية ويستبدلها بملابس البيت. قالت الزوجة:
- هل تنزل للغداء؟
فقال الرجل:
- كلا، ليس لدي الوقت.. لقد خطرت في بالي، وأنا في السيارة، مجموعة أفكار جيدة أريد أن أدوّنها قبل أن تهرب مني، وسأكتفي هذا اليوم بقرص التغذية الفعّال عوضاً عن طعام الغداء.
قلبت الزوجة شفتها السفلى وحوّلت نظرها عن الشاشة إلى وجهها في المرآة المعلقة على الحائط. وبالرغم من أنها كانت قد هيأت نفسها ومزاجها لجلسة حميمة ووجبة غداء خاصة معّدة بالمنزل، فإنها لم تفجأ برغبة زوجها تلك بالاكتفاء بقرص التغذية ولانصراف إلى الكتابة. لقد اعتاد على ذلك دائماً. قالت له، وهي لا تزال تنظر في المرآة:
- هل سأتغذى وحدي، إذن؟
فقال لها:
- آسف لذلك، ولكني أحس برغبة شديدة في الكتابة، وسأكون معك عند المساء.
أغلقت الزوجة مفتاح الاتصال، ثم ضغطت على زر صغير في الجدار لتوقف، من خلاله، فرن المايكروويف، فانطفأ الضوء الأحمر المتوهج، وسرعان ما برد الفرن وانكمشت في داخله الأطعمة وأطباخ الحساء واّخر ما تبقى من الدفء .
- ليس هو يوم السعد، إذن.
قالت الزوجة لنفسها وهي مستلقية على أريكتها في غرفة المعيشة تضغط بعشوائية على أزرار اللوح الإليكتروني للجريدة اليومية بحثاً عن صفحة الأبراج. فاستوقفها، وهي تفعل ذلك، خبر فوز زوجها بجائزة القرن للإبداع. قرأت الخبر بسرعة، ومضت تقرأ باقي صفحات الجريدة دونما اهتمام كبير.
مضى الرجل إلى غرفة مكتبته الالكترونية ، وقبل أن يجتاز بوابتها الصغيرة صاح منادياً زوجته:
- هل علمت بفوزي؟
فأجابت ببرود:
- نعم.
فقال:
- سنحتفل بذلك فيما بعد.
ثم مسح جبهته ودخل الغرفة وزوجته تتابع حركته من خلال الشاشة حتى ابتلعته غرفة المكتبة.. تساءلتْ مع نفسها إن كانت باقة ورد كثيرة على يوم كهذا!؟ وودت والأنفاس تتهدج في صدرها، لو أنه يكون لها في حياتها ما يشغلها سواه.. هواية أخرى تهتم بها غير الاعتناء بمزاجه والنظر في طلباته وانتظار الساعة التي يشتاق فيها إليها. وفكرت لو كان في حياته امرأة أخرى لكان الأمر أهون بكثير من هذا الهاجس المتسلط الذي يأخذه منها متى ما أراد ودونما عناء وكأن الكتابة ساحرة شريرة قد رشقته ذات يوم بتعويذة اّسرة ، ثم نسيت وإلى الأبد كيف تفكها عنه.
في المكتبة، سرعان ما تبدد الصمت العميق الذي كان يغلفها قبل قليل مع تحرك القرص في جهاز القراءة، فقد كان من عادة الرجل أنْ يقرأ لفترة قصيرة قبل أن يكتب. وما أن ظهرت الكلمات متلاحقة على الشاشة المستطيلة حتى شعر الرجل بالضجر، وقرر أن يوقف الشريط في الحال ويشرع في كتابة موضوعه. مد يده إلى جهاز الكتابة المكون من شاشة مربعة ولوحة أزرار مختلفة المهام.. واحدة للحذف وثانية للإعادة وثالثة للخزن.. ترتبط بها مجموعة أسلاك تنتهي إلى خوذة شبكية صغيرة وضعها الرجل فوق رأسه بعد أن برمجها على التقاط الأفكار الخاصة بكتابة موضوعه فقط. وما هي إلا دقائق حتى أخذت أفكاره تظهر فوق شاشة الجهاز على شكل كلمات متفرقة في البداية، ثم ما تلبث أن تنتظم في جمل متناسقة بعد أن تتم معالجتها عن طريق أزرار الحذف والصياغة.
ومرت الساعات كدقائق.. والجهاز يسطر الصفحة تلو الصفحة. وودّ الرجل، وهو يكاد ينتهي من كتابة القسم الأول من مقالته، لو أنه يستمر في ذلك طوال الليل حتى صباح اليوم التالي. ولكنه تذكر موعده مع المرشد التكنولوجي في معمل الصيانة، فتوقف عند نقطة معينة، ثم رفع الخوذة الشبكية من فوق رأسه ووضعها فوق المنضدة.
نظر إلى ساعة الحائط فوجد عقربيها يشيران إلى السابعة. ضغط على زر صغير بجانبه فانفتحت النافذة على مصراعيها وملأ الغرفة نسيم منعش معبّق برائحة النرجس. سمع صوت مواء قطة يأتي من بعيد، وتبعه صوت نباح كلب، ثم صوت رشاش الماء وطبطبة كرة على رصيف الشارع.
مد يده إلى عنقه، فرفع عنه (طوق العقل) الخاص بتثكثيف النشاط الذهني ووضعه جانباً.. أرجع ظهره إلى الوراء وهو يدلك موضع الطوق في عنقه، ثم استغرق في استرخاء عميق. مر في مكان ما بعيد عن النافذة سرب من الطيور اخترق الفضاء كحلم أبيض، وخيل له أنه سمع صوت زوجته يأتيه ضعيفاً من الحديقة مختلطاً مع صوت جارتهم العجوز، فتذكر موعده في معمل الصيانة، ونهض من مكانه بعد أن أغلق النافذة. أعاد أقراص الكتب إلى مكانها على الرفوف وتأكد، قبل أن يغادر المكتبة، بأنه قد أعاد كل شيء إلى مكانه حتى أنه ألقى على المكان قبل أن يخرج نظرة طويلة متأملة فيها الكثير من الرضا والارتياح.
مضى إلى غرفة نومه مسرعاً واستبدل ملابس البيت بملابس الخروج مرة أخرى وسمع، وهو يهبط السلم، وقع أقدام زوجته على ممر الحديقة. مضى إلى المطبخ واحتسى قدحاً من الماء ثم اتجه إلى غرفة المعيشة قبل أن يخرج، وتشاغل لدقائق باللوح الإليكتروني للجريدة اليومية، وسمعت زوجته، وهي تدخل البيت، صوت حركة قد دبت في المنزل. قالت له، وهي ترى إلى ملابسه:
- هل ستخرج؟
- نعم.
قال لها وهو يجتاز البوابة الآلية إلى خارج البيت. فكرت مع نفسها أنه لم يقبلّها عند عودته من العمل، وها هو يخرج الآن دون أن يقبّلها كذلك!!
قالت له:
- حبيبي.
فانتبه إليها وتوقف، ثم قال:
- نعم.
قالت:
- ألم تنسَ شيئاً قبل أن تخرج؟
التفت إليها ونظر إلى وجهها وقال:
- كنت أود ذلك، ولكني تركت (طوق العاطفة) في معمل الصيانة منذ الصباح. إنه يحتاج إلى إدامة بين حين ولآخر كما تعلمين.
وظلت هي واقفة في مكانها تنظر إليه وهو يتركها يمضي. وقبل أن يبتعد كثيراً التفت إليها وقال:
- لن أتأخر كثيراً. أنا ذاهب لاستلامه، وسنحتفل بالفوز عند المساء.