القميص
ميسلون هادي
أسمع صوتها وهي تدور لتمحو عتبات الأصوات الأخرى داخل البيت، وأنظر أمامي إلى أغصان الحديقة التي جفت وتحولت ألوانها من الاخضر إلى الأصفر والأسود والرمادي، فتبدو خلفها نوافذ البيت المقابل وقد تجمع الحمام فوقها بالعشرات كعادته عندما لا يخاف التزاوج في بيت مهجور. أحاول أن أقتل يوما جديداً في مهده وأنهيه قبل أن يبدأ، وذلك بأن أرّتب، في رأسي، جدولاً للانقضاض على الوقت بالأشغال التي تتجاوز روتين شراء الخضروات والخبز ورش الحديقة وغسل الممرات، إلى التسلق على الحيطان وتغيير الستائر ومسح المصابيح ثم النزول لتغيير أماكن الأرائك ورفع الورود الميتة من السنادين ووضع الصور القديمة في إطارات جديدة وما الى ذلك من أشغال تلملم الوقت فتجعله يبدو قصيراً.
أتوصل أحيانا في مثل هذه الهجمات الانقضاضية إلى ترتيب المجلات حسب أقدميتها، والأقداح حسب ألوانها، والصور حسب تواريخها أو أماكن التقاطها إلى أن يأتي مغيب الشمس، فأتحايل على السكون بأن احدث نفسي بصوت عال واقول حان وقت الشاي، فاقضي مع قدح الشاي فراغا من الوقت يتكرر كل يوم مثل سجن مديد. ألوان الحديقة توحي برائحة الشتاء. وبعد أيام عندما سأشعل فتيل المدفأة النفطية سيمكن لرائحتها أن توقف الزمان في هذا البيت، بل أن تعيده أعواماً إلى الوراء، وتبث الحياة في الموتى من جديد. ويمكن أيضا، في أول يوم ممطر من أيام الشتاء، أن تفعل رائحة التراب المبتل الشيء نفسه، فأرى من مكاني في المطبخ الأرجوحة، وهي تتحرك وتهتز تحت أغصان شجرة الزيتون العملاقة، وملابس العيد تحول الحديقة إلى جنة من الألوان والضحكات، وثمرات النارنج تتدلى فوق رؤؤسنا كالمصابيح.
لملمتُ ما تبقى من الخبز المتروك في طبق الطعام ووضعته في الهواء لأجففه مع باقي الخبز الذي أجمعه للحجي فالح الذي لم يمر بعربته منذ أيام، ثم مشيت الى هذه الاحراش أشذبها بنفسي بعد أن عاد حسن الفلاح الى بلدته في الديوانية وهو يقول بأن الأخبار التي يسمعها كل يوم لا تدعه يجازف في البقاء ببغداد. كلما فتحت زجاجة الشاي تذكرته وهو يترجل من دراجته الهوائية، ثم يقف بقامته الصغيرة قريباً من الباب يضحك وهو ينظر إلى قوس الياس العالي ويقول:
- إنه جميل. أليس كذلك؟
عذوق النخيل، التي لم ينزلها أحد، جفت في أماكنها وأمطرت حبات من التمر جمعتُها وسط الحديقة ثم عبأتها في كيس من الجنفاص جرجرته قريباً من الباب وتركته هناك إلى جانب باقي الأكياس.
هل كان من الخطأ أن انتشل القميص من مكانه المظلم وأرميه إلى الغسالة بدلاً من تأجيل ذلك كما يفعل الجميع إلى وقت غير معلوم وربما الى الابد. هل كان يجب أن لا تنتهي جولة لملمة الملابس إلى الوقوف أمام القميص ذاته والنظر إليه بكثير من الخوف والتردد حتى وجدت الجرأة أخيراً لان أرفعه من مكانه وأرميه إلى رغوة الصابون المنتفخة التي انبعجت إلى أسفل، بعد أن ابتلعت القميص، وتطاير منها الرذاذ.
ماذا كنت سأفعل غير ذلك؟ في النهاية هو الذي سقط في يدي عندما وجدته متروكاً وحده في سفط فوق خزانة الملابس القديمة في الطابق العلوي. النظر إليه كان يزداد صعوبةً حتى أنه لم يكن يكتمل، بل كنت أتحاشى النظر إليه فيما سبق عندما كنت لا أرى فيه غير وجه ملطخ بالدم والطين، صاحبه غاب والوقت مضى وإخوته، الذين هجسوا المصير ذاته، رحلوا من البيت مع ثلاث زوجات حوامل في حافلة يقودها رجل ملتحٍ تتدلى أمامه من المرآة آية الكرسي. تركوا البيت على عجل ولم تبق سوى روحي وهذا القميص أنتظر عودتهم مرة أخرى الى البيت، أو الأمر منهم بالرحيل.
مددت يدي ونقلته من ماء عكر إلى ماء نظيف، فرأيت أثراً خفيفاً بلون القهوة قد بقي في موضع لوثة الدم والطين التي كان منظرها فيما مضى مشوشاً وغير محدد المعالم. أما الآن فقد اصبحت واضحة ومعلومة والنظر اليها يزداد صعوبة ومشقة ،بل أصبحت اكثر ايلاما وانفتاحا على الجرح الذي يأخذك الى حيث بدأ . فهل كنت أنظر اليها وأنا على خطأ؟ وهل كان من الأفضل أن لا أجازف بالنظر إليها أصلاً، لكي يبقى الجرح محفوظا في مكانه الراتب على القميص إلى الأبد.
انتهى الأمر ولن انشر القميص مع باقي الغسيل على السطح، لأن ملابس البيت هي التي تذهب مباشرة تحت الشمس إلى هناك، أما الملابس المهمة فأصالب أكمامها أمامها وأرفعها فوق الأكتاف لكي لا تتهدل، ثم أعلقها فوق كرسي من كراسي المائدة في المطبخ أو في غرفة الطعام.
إنها السابعة مساءً في المنزل الذي بناه أبي قبل ثلاثين عاماً، وظلت أمي تحتفظ فيه بكل التقاويم التي كانت تأتي بها من البنك الذي تعمل فيه أمينةً للصندوق. ولما ماتت بعد أبي بعدة اشهر، لم نرغب في ان نرفع روزنامتها الأخيرة من مسمارها على الجدار، فبقيت معلقة في مكانها قرب النافذة منذ خمسة اعوام. وضعت القميص تحتها على كرسي في غرفة المعيشة ثم فتحت النافذة وتمددت على الأريكة، ورحت أنظر الى التلفزيون.
كانت الطيور تهاجر على شكل جماعات إلى البلاد الدافئة، والمراسل يقف على نهر تحول إلى جليد، ويقول إنه يقدم تقريره من بلد الأراضي المنخفضة، فبدأت أشعر بالنعاس ووجدت الوقت قد حان لإطفاء التلفزيون والخلود إلى النوم. ولكني قلت لنفسي إن عقيل جارنا صاحب المولد الكهربائي سيطفئها من تلقاء نفسه بعد قليل. مر هواء الخريف عليلاً، فتحركت أكمام القميص وأقبلت بعضها على بعض، فنظرت إلى النافذة المفتوحة، ولم أجد القدرة على النهوض لإغلاقها. القميص أخذ يهدأ وأنا أنظر إليه، ثم بدا لي بلا لون محدد، إلا أنه، وهو يجف، كان الأثر عليه أغمق لوناً من جهة الصدر. الأكمام ،التي جفت تماماً، بدأت تتحرك يمنةً ويسرةً حول الكرسي الذي كان يقع في مسقط ضوء البدر، والبدر يرسل نوره حيث يوجد القميص والقميص يأخذني النظر اليه الى حيث يريد . اشتد الهواء، فتحرك القميص مرة اخرى وأخذ يتراجع قليلاً إلى الوراء، والأكمام تتابع حركتها إلى الأمام والخلف، ثم بسط القميص ذراعيه إلى أعلى، وكاد ينهض من مكانه على الكرسي ويسقط على الارض.
ماذا فعلت هذا اليوم؟ وهل جننت لكي أمد يدي على هذا القميص؟ كان الهواء يشتد والقميص ينتفخ في مكانه على الكرسي موشكاً على النهوض وأنا أقرأ سورة الإخلاص في سري، ومفتاح الباب الذي أقفلته منذ قليل لا يزال في يدي. زمجر صوت التلفزيون ثم ارتجت الصورة وانطفأ الضوء. ارتفع القميص من مكانه مرةً أخرى، فصرخت باسم الله ونهضت من مكاني ثم قلت له وأنا في أشد حالات الاضطراب:
- هل كنت مخطئة؟
قال:
- لا عليك، فإن الأمر انتهى.
وعم سكون عجيب في الغرفة،وهدأ القميص تماما وهدأت معه كل الظلال السوداء التي كانت تتحرك هنا وهناك ولم أستطع أن أرفع عيني عن القميص مرة اخرى كأنني خفت إن أنا أغمضتهما أو غلبني النوم، فإنه سيضطرب ويتحرك أو ينهض من جديد .
بغداد 2007