قصة البيت الذي انتحرت فيه راقصة الملهى

البيت الذي انتحرت فيه راقصة الملهى

ميسلون هادي

تركوه لشأنه بعد أن اعتادوا الهمهمات التي يرد بها متثاقلاً عليهم عند القائهم التحية عليه أو التحدث اليه بأمر من الأمور. استغربوا تلك الهمهمات في البداية ثم وضعوا مثاقيلها في كفة وعياراً ثقيلاً من النمائم والتكهنات في الكفة الأخرى. وعندما امتلأت الكفة الثانية بالأقاويل وفاضت بالنمائم، حتى ترجحت على الكفة الأخرى ،هدؤوا وقرت عيونهم ثم تركوه لشأنه معتبرين بيته واحداً من تلك البيوت الفائضة عن الحاجة، والتي توجد أحياناً في هذا الحي أو ذاك دون أن يعرف الآخرون عن ساكنيها شيئاً أو يروهم الا لماماً وكأنهم أشباح من عالم آخر أو مخلوقات غامضة من كوكب بعيد لايمت الى عالمهم الأرضي بصلة.

إنه صاحبنا بطل هذه القصة والذي كان قد اشترى آخر شقة أرضية من جهة اليسار في عمارتهم هرباً من قلوب الناس وجزعاً من تماس مشاعرهم بلا مشاعره فقرر، وهذا مالايعرفه عنه أهل العمارة، اعتزالهم في داخله قبل أن يعتزلهم في ذلك الحي السكني الجديد الذي ظن أن الجار لايعرف فيه لجاره اسماً ولايهمه شئ من أمره شططاً كان أم بدداً .

غير أنهم كذبوا ظنه واهتموا به كثيراً، ثم نموا عليه في أوقات فراغهم وتناقلوا بعض الأقاويل التي عزت وحدته الى مس من الجنون أصابه بعد أن طلقته زوجته وهو في الستين من العمر، وأجبرته على استلام كامل البوماته وكتبه وشهاداته الموضوعة داخل اطارات مصنوعة من خشب فاخر، ومكتبة أشرطته الموسيقية وصناديق من قناني العرق الفارغة، وعدد هائل من الحقائب المليئة بملابسه وأحذيته ومقتنياته الثمينة.

أعجب تو أن فتحها ليعيد ترتيبها في خزائن الشقة الجديدة، كيف تاقت نفسه في عهود خلت الى كل تلك الكماليات وربطات العنق وأزواج الأحذية الفاخرة. ولولا أن زهده بالتمشي بين الأسواق أصبح أكبر من زهده بالمظاهر والملذات لأحرقها جميعاً واكتفى ببدلتين أو ثلاث يتناوب على ارتدائها مابقي له من عمر.

طفرت الدنيا من عينه وجعلته لايزهد بالمظاهر والمقتنيات حسب ، بل أصبح لايحفل حتى بصفة تعرف الناس به  .. أو تدلهم عليه. فعندما سألوه عن اسم ابنه الأكبر أخبرهم بأنه بلا أبناء أو بنات، ولما سألوه عن مهنته السابقة كدكتور في الجامعة اكتفى بالقول جازماً بأنه متقاعد منذ زمن طويل، وبأنه ليس من علاقة بينه وبين الجامعات وشهادات الدكتوراه، وعندما اكتشف أخيراً بأن الفضول في الأحياء السكنية الحديثة موجود بقوة ولكنه غير معلن، عمد الى تخفيض صوت الموسيقى التي يستمع اليها داخل بيته الى أدنى حد ممكن كي لايصل الى آذان الآخرين ممن يمرون ببابه الخارجي بكثرة.

هكذا أصبح الآخرون يجدون صعوبة في تعريفه عند الاشارة اليه أو الى بيته .. فتارة يلقبونه بالاستاذ وهم ليسوا على يقين تام ان كان استاذاً أو لم يكن. وأخرى بالعازب دون أن يتبينوا صحة الاشاعة الأولى التي طلقته من زوجته… وأحياناً يجدون أنفسهم مضطرين الى الإخبار عنه بعبارات مبتورة وغير حاسمة يسبقها قولهم: هل تقصد:

  • الرجل ذا الشعر الرصاصي.
  • الذي يسكن وحيداً ويتحدث بالمثاقيل.
  • الذي بيته بلا لوحة اسم.
  • أبا الموسيقى.
  • النخلة.

وكل تلك الصفات المتناثرة كانت أقرب الى التشويش منها الى التأكيد، والنخلة الوحيدة التي توهموا وجودها في حديقته كانت واحدة من تلك الأشياء التي تصوروها تكفي للدلالة عليه، ولكنها لم تكن كذلك على الاطلاق. فمن بين حدائق الشقق الأرضية العشر التي كانت تحيط بأرض العمارة المشيدة على شكل قوس، أطل من سياج حديقته رأس شندوخ طويل بدا في بادئ الأمر سعفة خضراء طرية لفسيلة نخل صغيرة غرسها الساكن الجديد في حديقته، ولكن سكان الأعالي سرعان مانفوا ذلك بعد أن قادهم النظر ملياً الى أسفل بأن تلك الشجرة هي نبات غير واضح المعالم وليس له اسم عائلي صائت بين أسماء فصائل الأشجار المعروفة، فقالوا ان تلك الشجرة هي نبات بري شائك انبته الله في حديقته عرضا،ً والنباتات البرية، كما تعلمون، متواضعة في ألوانها وأشكالها وأحجامها … ولاتمتلك الأسماء المعتبرة.

إذن فلم يكن من الممكن تعريف ذلك البيت بشكل لائق أو محترم ماداموا يشيرون الى صاحبه مرة ب”العازب” وأخرى ب”الشايب” أو بصوت مهموس أحياناً ب”المعتوه” أو يجمعون ماتوفر لهم من صفات في جملة واحدة دون أن يثقوا بواحدة منها تمام الثقة أو تفضي بهم الى نتيجة محددة .. حتى جاء يوم الأربعين من انتقال صاحبنا الى عمارتهم .. فكان من أمره ماكان مما جعل الجميع يستقرون حوله على رأي واحد يمكن تداوله والوثوق به والركون اليه تماماً.

في تلك الأيام الأربعين التي مرت بلمح البصر أصبح صاحبنا الساكن الجديد، وبحكم وحدته، يتحدث الى نفسه أحياناً والى الله في أحيان أخرى. يبتسم في سره والعلن ويختلق نقاشاً تلو الآخر، المفروض أنه يدور بينه وبين كائنات بائدة لم يعد يتذكر حتى أسماءها أو أشكالها، الا أنه في الحقيقة كان يحتدم بينه وبين تلك المجنونة الثرثارة التي تعيش معه معلقة فوق حوض المغسلة وتتحدث اليه كل يوم عن أحواله مافات منها ومااستجد فتخبره، كل صباح، بأن كثيراً من أسنانه قد تساقط أو تآكل وأن جبهته التي كانت نظيفة شهية كطبق من حليب القشطة أصبحت تلهج بالخطوط والبقع وشوائب الدهر، وأن عينيه اللتين كانتا غيمتين تائهتين في الفضاء قد أصبحتا جبلين من الجليد يتجهان شمالاً ولاأحد يعرف عنهما شيئاً في خط الاستواء.

إذن في اليوم الأربعين كان كعادته يقف أمام المرآة ناظراً الى بعض أسنانه الأمامية باستمتاع كبير مبتهجاً لأنها لازالت محتفظة بلونها العاجي جميلاً وزاهياً في فمه لحد الآن. في تلك اللحظات السعيدة، التي كان فيها الهواء الطلق ينعش وجهه بعد الحلاقة ويجعل قلبه يمتلئ بالانشراح، خيل له انه رأى شيئاً يسقط سريعاً قرب النافذة المفتوحة ثم يختفي ويرتطم بالأرض.

سمع صوتاً يشبه صوت اصطفاق باب داخلي ورأى شيئاً هاوياً كأنه جسم امرأة يستقر على الأرض. أغلق فمه وحول نظره من المرآة الى النافذة فوجد فعلاً امرأة ممتلئة الجسم مستلقية على ظهرها فوق أغصان النبتة الوحيدة في حديقته وقد انثنت أوراق تلك النبتة وتجعدت تحت رأسها وتلوثت بدم يسيل من مكان ما ثم يمشي على الأرض.

لو كان يدري أن أغنية “أنت عمري” ستذكره من الآن فصاعداً بتلك الحادثة بدلاً من أن تذكره برحلة بين البساتين في يوم عيد، لما وضعها بدلاً من “فات الميعاد”  قبل دخوله الحمام. كانت ستكون على الأقل لسان حاله في تلك اللحظات التي أصبح فيها هو أيضاً في تعذيب وشقاء لا أول له ولا آخر. عنقه النحيلة راجعة الى أقصى الوراء وأم كلثوم قد وصلت من “انت عمري” الى المقطع الذي يقول: “ابتديت دلوقت بس أحب عمري”.

لا أحد في الطوابق العليا يثير جلبة أو يطلق نداءً أو يبدي اهتماماً بما يحدث أو على الأقل يشاركه النظر في تلك اللحظة الى المرأة الساقطة من مكان ما في الأعلى، والتي كان الدم لايزال يسيل من جسمها الى الأرض ويمشي على أوراق النبتة البرية الوحيدة في حديقته. ماذا سيفعل؟؟ هل سيصعد الى الشقق المطلة على حديقته ليطرق أبوابها باباً باباً ثم يسأل أصحابها واحداً واحداً ان كانت تلك المرأة التي سقطت في بيته تعود اليهم كما لو كان يطلب منهم التعرف على ثوب ضائع أو منديل طار من حبل الغسيل؟؟ أم؟ هل؟؟ لا؟ .. آه؟ نعم؟؟ قتيل في حديقته؟ ولاأحد في الشرفات؟؟ ماذا يفعل؟ وماهذا الحظ؟؟؟

أعاد عنقه الى مكانها ودخل الى البيت على الفور واتصل بالشرطة وأخبرها بما حدث بكلمات متلعثمة وصوت متهدج. فجاءت الشرطة .. ونخلت أرض الحديقة وقلبت البيت عاليه سافله ثم نقلت جثة المرأة الساقطة من الحديقة الى سيارة الاسعاف وخلال ذلك تمكن صاحبنا من النظر الى الجثة ملياً فوجدها مرتدية ملابس الخروج وعلى وجهها تعبير من سمع للتو جرس الباب فانزعج وبرطم لأنه لم يكن مستعداً لفتحه ولقاء زائر غريب.

سأل الرجال الرسميون أسئلة سريعة.. ثم تركوه مرتاعاً وحده وانصرفوا الى الشقق العلوية الأخرى يبحثون فيها عمن له علاقة بما حدث .. ولما انتهوا من استجواب جميع الشقق التي تطل على الشارع من جهة اليسار واستبعدوها من الشبهات أعلنوا بعد أقل من أسبوع أن المرأة جاءت من مكان بعيد لتنهي حياتها بالقفز من سطح تلك العمارة الى الأرض وانها كانت قد تعرضت قبل ذلك لاكتئاب حاد بسبب تقدمها في السن واستغناء الملهى الذي تعمل فيه عن خدماتها.

عبثاً حاول الساكن الجديد البحث لنفسه عن خطأ ارتكبه هو أو أحد غيره، فأدى به الى تلك العاقبة .. فالشقة اختارته ولم يخترها لأنها كانت الأخيرة التي بيعت في تلك العمارة. والملهى لايلام بأي حال من الأحوال لأنه استغنى عن حياة راقصة تقدم بها العمر.. والراقصة آخر من يهمها في أية حديقة من الحدائق ستسقط عندما ستنتحر.. ولايمكن لأحد في نهاية الأمر أن يوجه له اللوم على ماحدث أو أن يعتبره متورطاً به بأي شكل من الأشكال؟؟ أم هل يعتبره البعض كذلك؟

ظلت تلك الأفكار تأكل وتشرب معه وتطل من نفس المحجرين اللذين ينظر عبرهما الى الخارج .. فيبدو تائهاً أحياناً .. ساهماً .. منطفئاً .. أو خائفاً في أحيان أخرى الى حد الذهول. لأن أمام عينيه فقط كانت تروح وتجئ تلك النقطة السوداء الكئيبة التي ليس لها مكان محدد على الاطلاق، غير أنها موجودة حتى عندما لايكون هناك مكان.

وكما تعلمون فان الزمن كفيل بمثل تلك العثرات التي سرعان ماتمسحها خرقة تهرأت من كثرة المحو اسمها النسيان، أما جيرانه من أصحاب الفضول وأرباب الذاكرة القوية فقد أثبتوا عكس ذلك عندما استطاعوا أخيراً أن يعثروا على وصف يقيني لبيت الرجل الذي حيرهم وصفه طويلاً وحال بينهم وبين الرسو على بر واحد يمنع عنهم الحيرة والشتات، فأصبحوا اذا أرادوا التحدث عنه أو الاشارة الى بيته قالوا وكلماتهم تسبق سباباتهم من شدة الثقة:

  • آه.. لابد انكم تقصدون البيت الذي انتحرت فيه راقصة الملهى.

إنهم يعثرون أخيراً على وصف مناسب.

 يا للحظ السيء الذي يلازم بطل هذه القصة.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

قصة وحدة تفكيك المتفجرات

وحدة تفكيك المتفجرات    ميسلون هادي  طَرق الباب وقت الصباح للاستفسار عن التويوتا الذهبية الواقفة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *