أقصى الحديقة
ميسلون هادي
الموبايل يرن ولا أحد يرد عليه….. تتكوم قربه قشور البرتقال والموز ولا أحد يرد عليه.. أعرف أنه الآن ينظر إليه ولا يرد عليه.. لماذا اشتريتُه لك، إذن؟ لكي يرن من الواحد للعشرة….. لكنك تسمعه ولا ترد عليه؟ لأني أتفرج على الدود.. ألا تسمعه وأنت تتفرج على الدود؟…. أي أسمع…… ألا تعرف كيف ترد؟ إي أعرف… ألم أقل لك إنها السماعة الخضراء المرسومة على اليسار؟.. إي أعرف……. انقر على السماعة الخضراء، إذن، عندما تريد أن ترد؟ إي أعرف.. تعرفين إني أعرف …أعرف.. أعرف.. كم مرة سمعتَه يرن؟… من الواحد للعشرة…….. عشر مرات ولم ترد؟.. لم أسمع..
- كيف عرفت، إذن، أنها عشر مرات؟
- الموبايل هو الذي عرف.
في الصباح المتأخر.. وقت الضحى.. ينفض التجاعيدَ عن ملابسه ويتمطى كما تفعل القطط بعد الاستيقاظ من النوم، ثم يرتديها على عجل ويخرج إلى الشوارع هائماً على وجهه.. عاطلاً عن الكلام ومطلاً من نافذة السيارة على العالم مثل طير يرى العالم بلا أسماء ولا صفات… يرى الشوارع الطويلة مليئةً بالبط.. والصغيرة منها شاغرة من البط.. والمياه الآسنة بحيرات.. والواجهات بيوت نمل.. والمآذن دواليب للهواء… والجسور تماسيح كبيرة لم تتلون بعدُ في كراسة الرسم.. يعتقد الهواء عطراً… والدخان هواءً.. والغيوم وسائد وسخة.. ولا يفرق بين بيوت الناس وبيوت الدود… لا ينطق إلا عندما يصبح بلا جيوب.. يحب الدود كثيراً ويجعله يتسلق عيدان الرمان لكي يرى مَن الفائز في النهاية.. وتمر ثلاث ساعات تتبعها ثلاث ساعات أخرى وهو لا يرد على الموبايل.. ينظر إليه ولا يرد.. أين أنت؟ لم أسمع…… لماذا لا ترد على مَسِجاتي؟ لم أقرأ.. هل أكلت؟؟ لم أجع….. ماذا حدث؟ لا أدري……
اضطررت إلى تغيير نغمة الموبايل الذي اشتريته له بنغمة أعلى، وقلت له دعه في جيبك طوال الوقت. لن أضعه في جيبي.. سأضعه على الشباك، في جيبي لوز كثير.. وعندما تقرأ رقمي أجبني.. سأجيب؟ وإذا خرجت إلى الحديقة خذه معك.. سآخذه… ولا تنسه على الشباك وتدعني أقلق عليك؟ لا لن أنساه على الشباك.. لا تنم قبل أن تحلّ مسائل الحساب..لا لن أنام قبل أن أحل مسائل الحساب..
- ولا تدعه يرن عشر مرات دون أن ترد..
- لا لن أدعه يعد عشر مرات دون أن أرد. سأرد عليك قبل أن يعد. ولكن كيف يعرف أن يعد؟.
- إنه أحسن واحد في العد.
- معنى ذلك أنه شاطر في الحساب؟
- نعم إنه شاطر في الحساب.
يُدخِل رأسه من النافذة بعد أن تصل السيارة إلى البيت.. وأعرف أنها الثانية في بغداد.. وأول ما أسمع صوته أقول له.. أين أنت؟ لا يرد.. لماذا لا ترد؟ يصمت قليلاً ثم يقول بعصبية اتصلي بعد عشر ساعات فأنا الآن قرب نقطة سيطرة.. يرن الموبايل بعد عشر ساعات وقت المساء.. ويصبح صوته واطئاً وفيه نعاس.. الآن قل لي كم الساعة؟ لا أدري.. يوجد قربها عنكبوت وفوقها عنكبوت.. حدثني.. ماذا فعلت؟ رحت إلى رأس الشارع مشياً ثم رجعت.. رأيت حماراً يلعب قرب الباب… دخلت البيت ثم خرجت.. واشتريت برتقالتين وثلاث تفاحات.. هل أكلت؟ لا لم آكل.. هل تغديت؟ لا لم أتغد.. ما هذه القشور،اذن.. ينظر إلى الموبايل باستغراب ثم إلى قشور الطعام ولا يجيب…. كتبتَ درس الحساب؟ لا لم أكتب.. هل كتبت؟ صفحة واحدة كتبت.. متى تنام؟ أنا نائم..
وتمضي خمس ساعات تتبعها خمس ساعات أخرى وهو نائم.. وفي الصباح.. الصباح المتأخر.. وقت الضحى ينفض التجاعيدَ عن ملابسه ويتمطى كما تفعل القطط بعد الاستيقاظ من النوم ثم يرتديها على عجل ويخرج إلى الشوارع هائماً على وجهه.. عاطلاً عن الكلام ومطلاً من نافذة السيارة على العالم مثل طير يرى العالم بلا أسماء ولا صفات.. ولا ينطق إلا عندما يصبح بلا لوز ولا جوز ولا جيوب.. أين أنت؟ أنا في الحديقة.. لماذا لم تذهب إلى المدرسة.. يقول بابا اليوم جمعة.. ولكنه الخميس.. بابا حملني على كتفه وقال إنها الجمعة.. هل تقصد أنها عطلة؟ إي عطلة؟!..اليوم وغداً عطلة؟.. نعم اليوم جمعة وغداً جمعة.. وبابا أعطى كناس الشوارع ألفاً بدلاً من الربعين.. لأنه سأله عنك وسلّم عليك.. وأعطاه بنطلونه البيج أيضاً وقميصه الأزرق وحذاءه الأسود… ظل بابا بدون حذاء وأغمض عينيه بالمنديل .. بابا يقول أين ورقة الماء؟
فرحت وبكيت.. ماذا يحدث؟.. هل هو فعلاً يبكي كلما رأى كناس الشوارع ومحصل أجور الماء.. أبو مريم؟… نعم .. قرع الجرس فسألتُه هل أنت أبو الكهرباء أم أبو الماء؟ فقال وهو يضحك كلا أنا أبو مريم.. هل جاء أبو مريم؟ نعم..إنه محبوب.. ولكنه عجوز… لا يطرق طرقاته على الأبواب بسهولة..إنه يطرق خمسة أبواب حديدية دفعة واحدة، وأكون أول من يركض ليفتح له صندوق المقياس.. لأول مرة أراه.. بابا يقول لا تتحرك وتركض عنما تسمع الباب، ولكني أحب رؤية المقياس.. إنه يتحرك وينبض… تك تك تك..هل يعيش في ذلك الصندوق دائماً؟.. نعم حبيبي، ولكن الكلس تراكم عليه لأني لم أنظفه من زمان.
– هل سمعتيه وهو يقول.. تك تك تك؟ .
– نعم سمعته.. ما أجمله!.. كأنه طفل ينام في ذلك الصندوق… ولكن لا تركض إلى باب البيت.. بابا معه حق.. الشوارع خطرة..
– لا أهتم.. أنا أحب أن أفتح الباب.. إنه يُفتح بسهولة… باب الثلاجة أيضاً يفتح بسهولة ويجعل الدنيا باردة.. وتوجد فيه فتحات لا أعرف عنها شيئاً.. واحدة للزبد والأخرى للبيض وللدواء.. سقطت بيضة إلى الأرض وتدحرجت ببطء، ولكنها لم تنكسر.. ظلت ساكنة على سجادة المطبخ دون فطر أو كسر.
– كيف لم تنكسر؟؟ هل تمزح؟
– كلا لم تنكسر.. والله لم تنكسر..
– معنى هذا أنها كانت مسلوقة ومضمومة هناك؟
– نعم.. كانت مسلوقة.. وبابا يقول أهي من أجل أبو البايسكل عمار؟
– لا ليست كذلك.. ماذا فعلت بالبيضة؟.. أكلتَها؟
– لا لم آكلها.
– رميتَها إلى سلة الزبالة؟
– كلا لم أرمها..
– ماذا فعلت بها إذن؟.
– أرجعتُها إلى مكانها ورسمت عليها علامة الصح بالقلم الماجك لكي لا أُخرجها بالخطأ مرة أخرى..
– آه منك.. إذن أنت تعرف أنها بيضتي المسلوقة ؟
– طبعا أعرف… بابا يقول كانت ماما تحب الشاي بارداً والبيض المسلوق بارداً.
لا يدخل رأسه من نافذة السيارة قط إلا أن يقول السائق قد وصلنا.. يكون المكان هو الكوخ الذي وجده على ضفة بعيدة في دفتر الرسم، يشبه بيتاً صغيراً يحيط به البط وتعلوه غيمة واحدة.. يودعه أطفال الخط صاخبين. وعندما ينزل يجد ركناً بلا ناس تجاوره قنطرة تعبر عليها العنزات الثلاث.. يمر به الليل فلا يشعر بالخوف، ويأتي الغروب فلا يشعر بالوحشة.. كأن الخنفساء هي أجمل جارة ممكنة لشجرة البرتقال… وتحتها بقايا جذور مغطاة بالتراب، وفوقها الأنجم هي نمنم أبيض اللون، والعنكبوت قد اختفى من الساعة التي تشير الى العاشرة.. وبدون أن يعلم اختفت الخنفساء أيضاً تحت جذر الكمثرى اللذيذة.. هل تعلمت كيف تقرأ الساعة؟ نعم تعلمت.. كم الساعة الآن؟ العاشرة.. ثم يتركني ليتمرجح على الحبل الممدود بين عمود مستقيم وآخر معوجّ.. وهناك تمرجحت أنا أيضاً ذات يوم، ودفعنا الهواء العالي إلى أقصى الحديقة.
الوقت لا أشعر به يمضي، بين ليل أقضيه في نوم طويل ونهار يطير… أفضّل الصمت على الكلام فوق صخرتي التي تشبه الجدار المهدم.. أتوسطها بين ورقتين من الخباز، وأنا أجلس في المنتصف. ألتفت يمينا ويساراً لشعوري بالأرق، ولكنّ الكل نائمون.. يدهشني أنني لم أكن أشعر بالحزن لذلك.. أنا لا أشعر بالخوف أيضاً.. لأني لن أتذكر الذي حدث، ولن أشعر بأني أريد أن أتذكر مرة أخرى.. لدي شعور مؤكد بأني سأرى أهلي مرة أخرى، عدا أخي.. وحده الذي شعرت بموته إلى الأبد، لأنه قتل في الحرب.. أتذكر ركضه يوم قتل في الحرب.. ومن ينزف ويتلطخ ثوبه بالدم الغزير يموت موتاً أخيراً بالنسبة لي، وكذلك من يسقط من مكان عال جداً فإنه سيموت الموت الأخير، ومن يموت غرقاً طبعاً.. أما أهلي، فهم في هذا المكان.. لم يركضوا في الحرب.. ولا سقطوا من مكان عال.. ولكنهم فتحوا الباب وخرجوا إلى الشارع .. فتلطخت عيونهم بالملح.. وأصبحوا لا يشعرون بالخوف من هذا المكان.. لدي إحساس غريب بأن أهلي موجودون في هذا المكان، ولعلهم يبحثون عني الآن وسنلتقي في مكان جديد.. لن نركض أو نتحدث بصوت عال بعد الآن أو نتذمر من العمر الطويل..
يكتب الكلمات على الطين بعود الرمان.. وعندما تضجر يده من الكتابة يحفر الدوائر حول الورود أيضاً… يمنع استمرار هجوم الديدان عليها كأشياء قبيحة لا يحبها أحد…. يبعد عنها كل الديدان الكبيرة، وتلك التي خرجت من الأرض بعد أن كانت تشاركنا الطعام والمسكن.. كنت أرى آثارها بين الحشائش في يوم مطير، فأجدها أصبحت شفافة بلا لون وثمة مناطق وردية تشف عن عروق سوداء صغيرة تحت جلدها.. وكنت أعرف أنه يحبها،. وينظر إليها طويلاً أو يقرّب إليها عود الرمان اليابس لتتسلقه، أو يقيم سباقاً بين عدة مجاميع منها ليرى أيّاً منها تفوز بالوصول إلى نهاية العود اليابس.. ولا يفوز أحد.
اللعب مع تلك الديدان هي متعته الوحيدة لإزجاء الوقت في هذا البيت.. وحثُّ عشر ديدان على التحرك كان مهمة شاقة، لأن أكثرها لايريد الفوز ويفضل الالتصاق في مكانه على العود.. إنه يدافع عن نفسه بالسكون، وعندما تداهم الحشرةَ حشرةٌ أخرى أكبر منها فإنها تلقي نفسها على الأرض وتتظاهر بالموت ثم تخرج من السكون وتعود للحياة عندما يزول الخطر….. ونحن أيضاً يجب أن نفعل ذلك، فلا نتحرك كثيراً ولا نبتعد عن الكوخ لئلا يأتي ذئب يريد اللهو بنا وافتراسنا…. ارتبكت وبكيت لأنه أضاع ممحاته ولم يستطع أن يصحح الكلمات التي أخطأ بكتابتها في درس الإملاء.. لماذا لم تشتر غيرها.. اشتريت عشراً وضاعت.. والمبراة الجديدة أيضاً لم أعثر عليها.. لماذا لم تشتر غيرها.. اشتريت عشراً وبقيت واحدة….. وفي درس الرسم سألتني المعلمة أين دفتر الرسم؟…. وأصبح قلمي صغيراً ولا يكفي للرسم… ودفتري ممزق.. ومسطرتي انكسرت أيضاً ولم أعد أستطيع رسم الخطوط التي تشبه الدرج.. يمكنك حبيبي رسم الكثير من الأشكال بدون المسطرة.. كلا لا أعرف غير رسم الدرج.. وأين أضعتها؟.. هي التي ضاعت.. فأنا اضحك أثناء الصلاة.. ويمكن لأني أضحك أثناء الصلاة ضاعت المسطرة والممحاة والمبراة.. لا ليس لأنك تضحك أثناء الصلاة.. ولكن لأنني لست في البيت.. قل لبابا يشتري لك غيرها.. نعم اشترى لي بابا واحدة غيرها.. وثلاثة أقلام كلها أصبحت صغيرة من كثرة القط.. والممحاة أيضاً أصبحت صغيرة لأني أخطأ كثيراً في الكتابة.. وفي درس الحساب ارتبكت وأخطأت الحساب.
– لا ترتبك حبيبي.. فأنا سأعود وأعلّمك العد من الواحد للمئة.
انتهى من حفر الدوائر على التربة بعود الرمان حول عشر ديدان خائفة لا تريد تسلق العود أو الوصول إلى نهايته.. دخل إلى البيت ثم خرج.. وهو يسمع الموبايل يرن ولا يرد عليه.. لماذا لا ترد؟ ..أَنظرُ إلى المقياس…إنه لا يتحرك.. ولا يقول..تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك تك.. يجب أن أخبر بابا لكي يخبر أبو مريم بذلك عندما يأتي وأفتح له الباب.