حوار مع القاصّة والروائية
ميسلون هادي
يمامة تشبهني ولكني ضد شخصنة العمل الروائي
كرنفال ايوب
مجلة الأقلام
عرفنا ميسلون هادي قلما ناعما متّقداً من الأقلام النسائية التي طبعت الأدب الروائي العراقي بعلامات فارقة أخرها كانت (نبوءة فرعون) التي قدمت فيها المشهد الواقعي في العراق وهو يرزح تحت ظل آثار الحصار والحرب. ومثلما هي واضحة في أعمالها ، وجدتها واضحة في ردودها، كما وجدت عندها ذلك الارتباط الروحي والوجداني بأعمالها، وقبلها بمكانها وزمانها اللذين احتفت بهما في أغلب نتاجاتها.. محققة كشفا عميقا للواقع الذي عاصرته، إذ يمكن أن ندخل للبيت العراقي عبر بيوت عالمها، وأن نتعرف إلى ساكنيه من خلال شخصياتها التي ترسمها وتقدمها بموضوعية وفنية عالية، في الوقت نفسه، لا تنفصل عن الواقع الذي نشأت فيه. فقد أفردت للهمّ العراقي مساحة واسعة من اهتماماتها، وقدمته بامتياز مشفوع بخبرة متميزة وتجارب إنسانية لا حصر لها. وكل هذا وغيره، وانطلاقاً من أعمالها، كان مدار هذا الحوار.
- لأنها فازت مؤخراً بجائزة باشراحيل، أريد أن ابدأ برواية” نبوءة فرعون” التي صدرت قبل أشهر وفازت بهذه الجائزة، فأسأل: بماذا تنبأ فرعون؟
- إذا ما أردنا تطبيق المصطلحات السياسية الحديثة على التاريخ فان ما فعله فرعون بأطفال مصر من قوم موسى كان (ضربة استباقية) لمنع قيام احد منهم، عندما يكبر، بخطف العرش منه، وقد تكررت هذه النبوءة مع نبي الله إبراهيم (عليه السلام) عندما حلم نمرود بكوكب يغطي نوره على الشمس والقمر، فقال مفسرو الأحلام، إن طفلا سيولد ويأخذ منهم ما يدعيه من الربوبية، فاخذ بقتل الأطفال في (أور)، وإبعاد الرجال عن النساء، ولكن إبراهيم (عليه السلام) نجا لأن أباه أرسل أم إبراهيم إلى الوركاء عندما ظهرت عليها آثار الحمل ..
في روايتي الأخيرة “نبوءة فرعون” كان (يحيا) هو الطفل المستهدف من أمريكا في ضربتها الاستباقية، فقد كانت ( تخاف منه) لا (تخاف عليه) (وعلى سعادته وحريته) كما ادعت أمريكا ولا زالت تدعي. ولذلك فإنها وجهت أقمارها الصناعية لاستهداف كل (يحيا) يحتمل أن يشكل خطرا على حريتها وأمنها وسعادتها هي. هذا الطفل، كما هو واضح من عنوان الرواية سيكون هدفا لأميركا التي تريد القضاء عليه، لأنها تعتقد أنه في المستقبل سيشكّل خطراً عليها، فتبدأ بمراقبته منذ لحظة الولادة عن طريق الأقمار الصناعية، ثم تشنّ حربها الظالمة على العراق وتدمره تدميراً هائلاً، لا خوفاً عليه وعلى سعادته كما تدّعي، ولكن خوفاً منه ومن هذا الجيل الذي تريد القضاء عليه. هكذا يكبر (يحيا) إلى أن يصبح في الثانية عشرة من العمر، فيأتي يوم سقوط بغداد ليقرر له مصيراً أراده له فراعنة العالم الجديد.
- ما الذي رمز إليه (يحيا) في الرواية؟
- في بيت (يحيا) سنجد الموروث الشعبي العراقي مقصوداً للدلالة على أن هذا الطفل المستهدف هو عراقي، فأمه (بلقيس) طلبته من (صينية الزكريا)، وزكريا هو النبي المعروف زوج خالة مريم العذراء، (وفي رواية أخرى هو ابن أختها، أي أن عيسى عليه السلام هو ابن خالة يحيى عليه السلام)، وفي العراق يحتفلون به أول أحد من شهر شعبان، وذلك بإعداد صينية فيها طعام، ونبتة ياس، وشموع، وحلوى، وأباريق خاصة بالإناث والذكور، وكلها توضع في فوهاتها حبوب الشعير النامية للتو. وتصوم بعض النساء في هذا اليوم عن الطعام أو الكلام أو عن كليهما. وعند الإفطار تُنصب الصينية وتشعل الشموع ويرقص الأطفال حولها منشدين:
يا زكريا عودي عليه
كل سنة وكل عام
ننصب صينية
ولان يحيى قد وهبه الله لزكريا على كِبَر، فان المرأة التي يتأخر حملها تغرز دبوسا في شمعة من الشموع وتنذر بان تنصب صينية لزكريا كل عام إذا ما وهبها الله غلاماً، كما وهب يحيى لزكريا. هكذا حمل (يحيا)، بطل “نبوءة فرعون” دلالات خاصة تؤكد أنه العراقي، وهو المقصود من الأمريكان بالإبادة.
- أرى أن هناك ملامح (واقعية سحرية) في الرواية. ما رأيك؟ وما مدى تأثّرك بروايات الواقعية السحرية؟
- في هذه الرواية هناك ملامح فانتازية كثيرة .. إذا وجدتِ أنها من الواقعية السحرية، فأنا أفضّل أن أسميها خيالاً علميا استعنت به لتصوير غرائبية الواقع وفظاعة ما حدث ويحدث للعراق من مآسٍ وأهوال يصعب احتواؤها بالطرق التقليدية أو غير التقليدية للكتابة. لذلك فقد مزجت بين الواقعية، واللاواقعية، والخيال العلمي، وقصص الجنيات، وحكايات الأطفال، للوصول إلى نقطة معينة ولو صغيرة تعكس غرائبية ما حدث ويحدث ولا معقوليته.
- رجوعاً إلى بداية تجربتك الروائية، ما المستوى الذي تشغله عندك رواية “العالم ناقصا واحد” بين نتاجاتك؟
- اعتبرها من أفضل ما كتبت.. مع أنها العمل الأول الذي قد يصعب عليه أن يحوز على هذه المرتبة.. ولكن فضيلته كانت في تماسكه الشديد، وخلوه تماماً من الترهّل والفضفضة سواء على مستوى العاطفة، أو على مستوى التعبير عن هذه العاطفة. في هذه الرواية، الحدث المركزي محدد ومأساوي، وحوله تحتشد العواطف، المكبوتة منها والمعلنة، فكان يجب السيطرة عليها والتقاطها شيئاً فشيئاً وصولاً إلى النقطة التي تتفجر فيها المشكلة. إن فكرتها مؤاتية حقاً لمثل هذا النوع من الشد. وكان علي أن أوهم القارئ بان ثمة خطأ قد حدث منذ البداية دون أن أفصح عنه إلا في النهاية، فشعرت وأنا اكتبها أن الحذر سيكون أصعب مع الحذف، وليس مع الإضافة. والتزمت جانب الحذر هذا دون خشية من أن يكون حجم الرواية قصيراً في النهاية.
- أعجبني في “يواقيت الأرض” طرحها للتأزم الإنساني. هل أنا محقة في هذا؟ وهل تجدين نفسك قد أوصلت صورة واضحة عن هذا التأزم من خلال شخصية البطل؟
- رواية “يواقيت الأرض” هي رواية رجل مأزوم حقاً.. بطلها (ناجي عبد السلام) يمر بأزمة منتصف العمر، ويعاني من الأجواء الخانقة التي أحاقت بالعراقيين منتصف التسعينيات، فيقرر الهجرة عن تلك الأجواء العامة، وعن اغترابه من محيطه الخاص أيضا، بعد أن أصبحت زوجته تهمل مظهرها أيضا وتترك شعرها للشيب، وتطالبه بالذهاب إلى الحج بدلاً من السفر إلى الخارج. وأصبح له أحفاد ينادونه بكلمة (جدّو)، فيشعر باغترابه عن هذا النداء، ولكن مغادرته للبيت ستضعه أمام مفارقات كثيرة عندما أخذت الوساوس تنتابه وهو يسكن مؤقتا في شقة معلقة، وحيداً مع سريره الذي ينام فيه، وكرسي يجلس عليه وتلفزيون أمامه يشاهد فيه كل أنواع وأشكال المتناقضات. بعد ذلك، وهو في طريقه إلى مدينة الطيور بعيدا عن بيته في مدينة الجذور سيدور الصراع بين الاثنين في اتجاه محدد ليقرر مصيره الغامض الذي اعتقد (ناجي عبد السلام) أنه قد اختاره بنفسه ولكن يكون للأقدار كلام أخر.
- ما الذي رمزتْ إليه اقتباسات دفتر الاستشهادات والأقوال الذي يُعثر عليه في حقيبة البطل (ناجي عبد السلام) في هذه الرواية؟
- كان المفروض لهذا الدفتر الذي يُعثر عليه مع مقتنيات (ناجي عبد السلام) أن يعبّر عن درجة الوعي التي يمتلكها (ناجي عبد السلام) وعن ثقافته، وتحضّره كانسان عراقي (قل لي ماذا تقرأ، اقل لك من أنت)، ولكن مع الأسف ما نشر في هذا الدفتر لم يكن كاملاً، بل كان أقل مما يجب أن يكون عليه للتعبير عن وظيفته في الرواية، وحدث ذلك بسبب ظروف نشر، وكان يجب تلافيها برفع الدفتر من أساسه.
- لقد عرضتِ في أعمالك حالات إنسانية معروفة. أين تقف ميسلون هادي شخصياً وحياتياً منها؟ وهل عاصرتْ مثل هذه الحالات؟
- أقف منها في الصميم.. وعشت تجارب وجدانية لبعضها، كما في القصص أو الروايات التي تتحدث عن الفقدان، أو ذوات الأجواء التأملية مع الاستفادة من تجارب خبرية أسمعُها فأوظّف لها خبراتي الحياتية الأخرى. في “العيون السود” مثلاً، هناك أجزاء مني في الشخصيات النسوية ذوات المستويات الثقافية المعينة، وهذا أمر طبيعي أن يحدث، ما دمت أنا التي اكتب ولكن على شرط أن لا أكسر حاجز الإيهام فاجعل الشخصية تتحدث بلسان غير لسانها.أو أن أجعل صوتي يعلو فوق صوتها.
- تعلّقاً بذلك، هل هناك أصداءٌ لتجارب شخصية في كتاباتك؟
- طبعاً.. ولكني ضد شخصنة العمل الروائي، بمعنى أن يبحث القارئ عن ميسلون هادي في هذه الشخصية أو تلك. فالرواية ليست سيرة ذاتية مقدمة من وجهة نظر الكاتب فقط، وبصوته وصورته فقط، فهذا سيجعلها تسقط في فخ البوح الذاتي الساذج، ولكِ أن تتخيلي كيف يحول مثل هذا المنحى الرواية إلى رسالة عاطفية فجة، في الوقت الذي هي فيه رؤية فلسفية ومعلوماتية وكونية تنحو إلى المطلق وإنْ كان عن طريق، أو من خلال الهاجس الذاتي، والذاتي هنا متنوع بقدر تنوع الشخصيات واختلافها وتحاورها مع بعضها البعض، وليس الذاتي الشخصي الذي ينكسر أو ينتصر، فيتحدث عن انكساراته أو انتصاراته.
- قدّمتِ، في “العيون السود”، مجموعة من الشخصيات المتنوعة، ولكل منها طابعها وتأثيرها. أي الشخصيات التي تجدينها أقرب إلى ميسلون هادي؟
- ربما في (يمامة) شيء مني، في نظرتها الموضوعية للآخرين، وفي تسامحها معهم، وفي تقبُّل الآخر والتعايش معه، بل في احتواء المخطئ وعدم التسرع في الحكم على الآخر لمجرد انه مختلف.
- هل هناك مواضيع أثيرة لديك تنال التفاتك إليها لتوظيفها ثيمات في العمل الروائي؟
- الفكرة هي التي تختارني ولست أنا الذي أختارها.. فإن ولدت ووجدت لها مستقراً مكيناً في رأسي، تبدأ تغلي في رأسي ليل نهار كالمرجل ولا أملك فكاكاً منها إلا بكتابتها.. أي هناك فكرة رمزية وهناك أقمار تدور حولها، وستعمل الحرفية عملها وستصب كل تأملاتي وأفكاري خلال شهور كتابة الرواية أو القصة، ستصب في مجرى المدارات التي تدور فيها الأحداث وتتحرك فيها الشخصيات، ثم أضيف إليها من مخزون آخر هو قصاصات أحتفظ بها في كل مكان توثِّق لحظات وانتباهات وتأملات قابلة للنسيان.. أو استعين بأوراق من قراءاتي ودفاتري القديمة والجديدة، وكل ما تقع عليه عيني من مشاهدات. خلال ذلك احتاج إلى أن أقرا العديد من المصادر والمراجع التي تتعلق بالعمل الذي اكتبه، وأن أشاهد الكثير من البرامج والأفلام الوثائقية، والأهم من ذلك كله أنْ استمع جيداً إلى الآخرين والتقط من أفواههم الأمثال والحكم والأخبار، والنساءُ منهن على وجه الخصوص راويات بالفطرة ولهن القدرة على تحويل مكان حزين، كمجلس عزاء الميت، إلى خشبة مسرح نجد فيه القصص والأخبار والأشعار والدموع وشق الجيوب، وشرب القهوة، وأكل الطعام، وهستريا الهياج الذي يتحول أحياناً إلى ما يشبه رقص الدبكات.
- تضمّنين أعمالك كثيراً من المفردات اليومية والشائعة والبسيطة. بم تفسرين شيوعها في أعمالك، مثل الأغاني، والعادات اليومية، والحاجات النسائية، وغيرها؟
- انطلق في كتابتي من الواقع، وتاريخية العمل مرتبطة بزمانه ومكانه، فكيف يكون لنا أن نتعرف على الزمان الذي تدور فيه أحداث العمل دون أن نستمع إلى أغانيه وحكايات شيوخه، وعاداته، وروايات نسائه.. فضلا عن علاماته الفارقة، وأهم مظاهر حياته الاجتماعية.. فإذا قلت مثلا، (أورزدي باك) ستتبادر إلى الذهن حقبة زمنية معينة من تاريخ العراق، وإذا قلت (سامكو) سيحيلنا إلى حقبة أخرى، وإذا قلت (طريبيل) سيحيلنا إلى حقبة ثالثة، وهكذا..
- هل استأثرتْ واحدة من رواياتك بظروف خاصة كُتبتْ فيها؟
- هناك روايات تنكتب من تلقاء نفسها كرواية “يواقيت الأرض، التي انسابت من أولها إلى آخرها في تتابع وهدوء، مثل قطار يسير دون توقف أو معوقات. وهناك روايات اشتغلت عليها كما يشتغل الباحث على بحثه فيبني ويهدم، ويضيف ويحذف، ليخرج بنتيجة محددة أو هدف معلوم، وهذا ما حدث في “العيون السود، التي وثقت لفترة الحصار في تسعينيات العراق بكل تفاصيله ومفارقاته وتحولاته. وما يفاجئني حقاً في تلك التجربتين أن “يواقيت الأرض” جاءت أقلّ اصطناعا من “العيون السود”. فالأولى خرجت من البداهة، والثانية خرجت من (محترف الرواية) بامتياز.. مع ذلك نالت “العيون السود” من الجوائز والتقييم والكتابات ما جعلها بنظر الآخرين- وليس من وجهة نظري طبعاً، فكل أعمالي أبنائي- الرواية الأفضل بين كل أعمالي.
- ما الهموم التي تحملها ميسلون هادي في الكتابة؟
- أحمل الهمّ الإنساني بمعناه المطلق.. وأحاول إيصال رسالة مفادها أن الحياة يجب أن تُعاش من خلال أداء الواجب.. ومن هذه النقطة يبدأ الطريق لبلوغ السعادة.. التي ربما يصل إليها الإنسان أو لا يصل أبداً، وفي الحالين فإن على الإنسان أن يؤدي واجبه الأخلاقي تجاه كل ما يحيط به من الالتزامات، وأن يعطي لحياته المعنى من خلال بذل الجهد الأخلاقي في التعامل مع مختلف التحديات. فإذا كان الواجب يقتضي منه أن يضحي من أجل عمله أو عائلته أو بيته، فان رسالته كإنسان تقتضي منه أن يقوم بذلك.. وسلامه الروحي أيضاً سيتحقق عبر ذلك.. والواجب يتعدى، بالطبع، العائلة والعمل والعقيدة إلى تفاصيل أخرى كثيرة، كالبيئة مثلا والإحساس بالواجب تجاهها وبالمسؤولية حيال الحفاظ عليها وعدم التفريط بها والاقتصاد في استخدام مواردها، واهم تلك الموارد الماء الذي يجب أن ننظر إليه كشيء ثمين، والهواء الذي يجب أن لا يلوثه الدخان وسموم المداخن وعادمات السيارات، والعصافير التي يجب أن لا تطردها المدينة من أجوائها الطبيعية، لأن لها الحق في أن تبقى في حصتها من الطبيعة. وعلينا أن نحافظ على ذلك التوازن، وأن نعلم أطفالنا محبة الحيوانات وعدم رمي القطط والكلاب بالحجارة أو إلحاق الأذى بالطيور.. وأن لا نستسهل قتل الحشرات التي تدخل إلى بيوتنا ونحاول التبيؤ معها قدر المستطاع، إلا ما كان ضاراً، فنُجبر على محاربته.. فليس ضرورياً أن نقتل نحلة دخلت بيتك عن طريق الخطأ، ولا أن تدوس عمداً نملة تمشي في أمان الله وهي تجر طعاما إلى بيتها. أما في الرواية فقد كان علي أن أضع الأولوية في هذه الرؤية للواجب الأهم، وهو الواجب تجاه الوطن.. وبالتأكيد لا يمكن للرواية أن تهتف بذلك في شعارات كما يفعل المتظاهرون، أو الساسة، أو قادة الأحزاب، ولكننا نفعل ذلك من خلال تقديم المصائر الغامضة التي يلاقيها الهاربون من هذا الواجب.. كما يحدث مثلا لـ(ناجي عبد السلام) في “يواقيت الأرض”، أو ل(خالد) في “الحدود البرية”.. إنهما يحاولان النجاة بنفسيهما من الخراب، ولكن على رأي كفافي فإن إيثاكا دائماً معك في هذا الخراب وهي خراب أينما حللت فإذن عليك أن تلتزم بالسعي لإإصلاح هذا الخراب لا الفرار منه، والتزام المكان هو من أعز الثيمات على قلبي، وقد جسدتها في المكان الذي يكاد يحتل البطولة فيما كتبت من روايات، ألا وهو (البيت).
البيت في “العالم ناقصا واحد” هو المسرح الذي تدور فيه مشاعر متضاربة نعرف من خلالها أن ما يجري في الخارج هو مأساوي وفظيع، والبيت في “العيون السود” هو عدة بيوت في زقاق واحد تقدم بانوراما العراق لعقد كامل هو التسعينيات من زمان الحصار. وهنا أتوقف عند (الواجب الأخلاقي) الذي قدمته من خلال الجهد الذي بذلته (يمامة) في تقبُّلها لشخص جعلته ظروف العراق ينقلب من إنسان مثقف ورومانسي مرهف، إلى ابن سوق، وتاجر عُمْلةٍ. ومع ذلك فإنها عندما ترفضه كزوج تتقبله في النهاية كإنسان مختلف يجب أن تحتويه وتضمه إلى لوحتها التي رسمتها في نهاية الرواية. فتقبُّل (الآخر)، لأنه عراقي بالرغم من اختلافه، وتقديم الانسجام في زقاق واحد من أزقة بغداد كان هو الثيمة التي اشتغلت عليها كما يشتغل الباحث على بحثه في رواية “العيون السود”، ولكن (الآخر) عندما يكون محتلاًّ ومعتدياً، وبربرياً وغير إنساني، فلا يمكن أن يكون مقبولاً، بل لا يستحق الاحترام أو الغفران، وهذا ما تقوله رواية “نبوءة فرعون” من خلال بطلها (يحيا).
- ما مدى تأثير نقد أعمالك في توجيه فعلك الكتابي؟ أعني هل تؤثر الأحكام النقدية التي يطرحها النقاد في توجيه هذا الفعل؟
- النقد اهتم بأعمالي بشكل مبكر.. وقد جاءتني منه إشارات مبكرة بأن أسير في طريق خاص.. ولم تكن بي خشية من أن أُصاب بالإحباط من أي شيء يكتب ضدي، لأن الكتابة بالنسبة لي هي الحديقة التي تجمّل حياتي، ولولاها لكانت حياتي مجدبة وخالية من الهدف. وإنه لإنسان محظوظ جداً من يمتلك موهبة الكتابة، وقبلها التأمل والاهتمام بهذا العالم.. واهتمامه سيجعله إنساناً نوعياً يعادل في أهميته آلافاً مؤلفة من آخرين لا يهتمون، ولا ينظرون إلى شيء، وربما ينظرون ولا يبصرون.
- ما تقييمك لأعمالك في ضوء مستوى تجاوب القراء معها؟
- إن مسالة التقييم تأتي لاحقاً في قضية الكتابة.. كما لو أن شخصاً يبذل مجهوداً جباراً في حياته، ولكن لا يُمنح الجائزة التي يستحقها.. أعترف بأن هذا يسبب بعض الألم للكاتب، لكنه لا يثنيه مطلقاً عن رسالته التي تصبح جزءاً لا يتجزأ من حياته. وقدر تعلق الأمر بي، فقد وصلتْ كتاباتي بشكل جيد إلى الناس وبحدود معروفة تحكمها العلاقة الفاترة بين الكِتاب والقارئ العربي، والتي ينعدم فيها التوازن بين مكانة الكاتب الحقيقية وبين شهرته وإقبال القراء على قراءة أعماله.. وأنا ليس لديّ أوهام عن نجومية الكاتب العربي، ولكن تصلني معلومات بان أعمالي تشارك في المعارض التي تقيمها دور النشر في مختلف البلدان العربية، وبعض الروايات تباع بشكل جيد كـ”العيون السود” و”نبوءة فرعون”، ومؤخرا لمست بعض التواصل مع القراء عن طريق الانترنيت عندما وجدت بعض الملاحظات عن تلكما الروايتين، أو عندما أجد من يرشحهما لخانة أفضل ما قرأ من أعمال. هذا أقصى ما يسعدني حتى وإن كان من قارئ واحد فقط.
- لأنك قضيت بعض سنوات حياتك وكتبت بعض أعمالك في الغربة، أسأل هل تختلف الكتابة، لاسيما الروائية، في الغربة عنها في الوطن؟
- نعم تختلف.. واختلافها يأتي من اختلاف المكان، وليس من اختلاف الجوارح أو القلوب.. فالمكان يؤسس من حوله بيئة روحية مختلفة عن البيئة التي تعيشها في بلدك.. وأبرز سمات تلك البيئة الطقس بكل تفاصيله المختلفة، كسطوع الشمس، وهطول المطر، ودرجات الحرارة.. كل ذلك مجتمعاً ستجدينه في شهر معين من شهور السنة، مختلفا في الغربة عما هو عليه في بغداد.. وبالتالي فان الاكتئاب الذي يصيب الكاتب بسبب اغترابه عن الجو.. سينعكس سلباً أو إيجاباً على كتاباته أيضا حتى وإن لم يقصد ذلك أو يعيه. الروائح أيضاً مختلفة والأصوات مختلفة.. وهناك مدن لا تسمع فيها زقزقات العصافير في الصباح، أو أصوات الباعة المتجولين، أو صياح الديك عند الفجر، أو أصوات آذان الفجر، أو آذان الظهر، أو إقامة الصلاة في الجوامع، أو قراءة القران في مجالس العزاء.. إلخ. كل ذلك مجتمعاً وغيره كثير يجعل الكاتب في الجو الملائم للكتابة في بيئته المحلية وهمومها، فإذا ما انفقدت تلك الأجواء سيعوض الكاتب ذلك بالرجوع إلى الخزين العاطفي الذي لديه، أو يكون مرهفاً وحساساً بما فيه الكفاية لجعل أجواء الوطن حاضرة معه في كل مكان، أو يلجا إلى لا تاريخية العمل فيكتب في موضوع الإنسان المطلق وهمومه الكونية التي لا تعرف المكان ولا الزمان، شاًنه في ذلك شأن الفلاسفة والمفكرين العظام.