مجلة “المرأة اليوم” الإمارات..
رندة العزيز
- ميسلون هادي .. كيف تعيشون اليوم فوضى الحروب والاحتلال، لو صحت التسمية، داخل العراق ؟
- نعيشها بالحد الأدنى للبقاء .. والمسألة نسبية على ما يبدو، فإذا تعرضتِ مثلاً وأنت في الإمارات لانقطاع التيار الكهربائي لمدة ثلاث ساعات لشعرت بالهلع.. نحن تعرضنا في الصيف الماضي إلى ليالٍ كابوسية بحق ، إذ كان التيار الكهربائي ينقطع فيها لأيام متواصلة . كنا نبلّل الشراشف بالماء أو نغمر أجسامنا بالماء بين الحين والآخر . وآخر ما توصلنا إليه أن نمسح الأرض جيداً ثم ننام على البلاط البارد .. تصوري .. وهذا كان أسوء مما عشناه في فترات القصف الشديد. الآن عندما ينقطع التيار الكهربائي عشر ساعات واثنتي عشرة نعد هذا تحسناً في الخدمات. العراق الآن مثل بيت استُبيح فلم يعد صاحبه يهتم بما إذا كان هذا البيت مبعثراً أو متسخاً، لأن المهم أولاً هو أن يُنهي الاستباحة.
- ألا تخشين ما يحصل؟ ألا تخافين على أبنائك، خصوصاً وزوجك موجود في الخارج ؟
- يبدو أن العراقي يمتثل ، بفعله الباطن ، إلى تاريخ طويل وملبّد من الحروب والمحن والاضطرابات ، وأن هذا يجعله في حالة قدرية من التكيّف المزمن معها . وبما أن الاستقرار هو حالة نادرة في تاريخ العراق الحديث ، ولشدة ما لعلعت البنادق وسالت الدماء في هذا البلد ، فإني لأخشى أن يأتي يوم على العراقيين سيشعرون فيه بالملل إذا ما صمتت البنادق ، وسكت دوي المدافع .
- لماذا تبقين في الداخل ولديك فرصة للخروج ؟ وكأم كيف تحتملين آلام البقاء ؟ وهل لك أنت خيار بالمجازفة ؟ وما هي التفاصيل الصادمة لك من العراقيين ومن قوات الاحتلال ؟
- فكرة الغربة لا تسعدني أبداً .. ومجرد التفكير بالسفر يضايقني جداً حتى ولو كان لفترة قصيرة. وحتى لو دفعتْني الظروف إلى التفكير بذلك فأولادي يرفضون. أما بالنسبة للتفاصيل الصادمة فهي لا تصدم لأنها متوقعة.. بغداد الآن ساحة من الأزبال ، وشبكة من الأسلاك البديلة للكهرباء ، وأنقاض الحرب لم تُرفع لحد الآن . أما عن النظام المروري فليس هناك إشارة ضوئية تعمل ، والسيارات تمشي وتتوقف على هواها ، والشوارع في حالة فوضى . لقد لخص أحد سائقي السيارات هذه الفوضى بكلمات موجزة عندما رآه سائق آخر يأتي من الاتجاه المعاكس فقال له : يا أخي ليش دتمشي رونغ سايد . فأجابه : يا معود البلد كله ديمشي رونع سايد .
- أسئلة كثيرة تحوم حول دور المبدع ، والمبدعة بطبيعة الحال ، اليوم في عراق ما بعد صدام . هل تستطيعون الآن الكلام أكثر من السابق ؟
- العراق يمر الآن بفترة شبيهة تبلك التي مر بها في عشرينات القرن الماضي عندما كان يقاوم الاحتلال البريطاني .. وبعد مضي عقود من الثورات الكفاح وتقديم التضحيات ها نحن نعود إلى عصر الاستعمار من جديد. فإذن نحن لسنا في مرحلة ما بعد صدام، بل في مرحلة ما قبل الملكية في العراق.. لقد عدنا مئة سنة إلى الوراء ، ويصراحة لا أعرف ماذا سيكون عليه دور الكاتب عندما يتقهقر بلده مئة سنة إلى الوراء ؟ فهذه حالة غير مسبوقة في العصر الحديث ، هل يكتب روايات فنطازية تجريبية سريالية ، أم يتحول إلى سياسي تحريضي تعبوي ؟
- ما الذي تفكرين في كتابته بعد رواية “العالم ناقصاً واحد” وهو ينقص كل ساعة عشرات في بقعة جغرافية واحدة ؟
- منذ سقوط بغداد ولحد الآن لم أكتب أي شيء عدا وضع اللمسات الأخيرة لروايتي الأخيرة “الحدود البرية” التي ستصدر هذه الأيام عن المؤسسة العربية بعد أن كنت قد توقفت عن إكمالها مع غزو العراق .. أستحي من بغداد أن أكتب .. أشعر أنها جريحة وتحتاج إلى ما هو أهم من الكتابة.
- لا تبدو التجربة الاجتماعية موفقة في بغداد الحاضر . كيف تكسرين رتابة ساعات يومك ؟ وهل ما زال العمل قادراً على استيعابك ؟ وهل أنت قادرة على استيعابه ونحن نسمع عن فوضى ومشكلات اقتصادية ورواتب ؟
- المكان فاشل ، وبغداد عاطلة عن التبغدد .. لقد اختفت فجأة تلك المدينة الجميلة التي عصافيرها لا تكف عن الزقزقة ، وأشجارها عن الامتداد ، وشمسها عن السطوع .. فكيف يمكن أن تكون هناك حياة اجتماعية والحداد قائم ؟ كيف يتزيّن الرجل أو تتبرج المرأة وترتدي ملابس جديدة وجميلة بينما المكان في حالة يرثى لها من الاتساخ والفوضى ؟ مرة أخرى أقول نحن لم نرَ الشمس منذ سقوط بغداد ، ولا نعرف كيف شكلها الآن . ولكن وجودنا في بغداد ضروري .. وجودنا هنا هو العزاء .. هل يترك الحبيب حبيبته وهي مريضة ؟
- كيف هو حال الصحافة في العراق بعد الطفرة الهائلة في الإصدارات عقب الاحتلال مباشرة ؟
- ربما هذا هو الشيء الإيجابي الوحيد بعد الاحتلال . هناك تنوع كبير في الاتجاهات والآراء وهناك مدى من الحرية يكفي للجميع ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذا المقام هو : هل بعد أن تقولي رأيك يحرية سيتغير شيء ، ام أننا نمشي في طريق مرسوم بعناية وما هذه الحرية إلا كلام ياخذه الهواء ؟