حوار إمضاءات

الكتابة ترتدي ألف وجه، ولا يمكن أن تكون خادمة للأيديولوجيا ولن تكون .

حوار إمضاءات مع ميسلون هادي.. أسئلة الدكتور حيدر

*الفصل الاول من (( الحدود البرية )) فيه حوار يدور بين الام والطفلة، (( ماما .. شوفي .. الدنيا كلها طيور ميتة !)) وفيه متابعة الام لطفلتها وهي تشرب الماء من البراد .. (( شربت الطفلة بما يشبه الخوف.. )) .. كأن هذا الفصل لكثافة مادته السردية و دقة الكاتبة واجادتها ما يمكن تسميته الإيقاع القصصي، الإنتقال من حياة الخارج الى حياة الداخل، رمزية الحدث وحيويته وعفويته بالاضافة الى الابتعاد عن النية في افشاء سر القصة من وراء الفعل الرمزي … كان هذا الفعل قصةً قصيرةً مكتملة و يمكن  قراءتها مستلةً لوحدها . لكن الملاحظ ان الكاتبة عندما تنتقل من الجو القصصي الى الفضاء الروائي تتبدل لديها طريقة الملاحظة والتركيز … مثلا في الفصل الرابع تتيبس أوراق شجرة النبق بفعل حرارة شمس الصيف وتجف الاغصان … المعروف ان النبق هو الشجرة الوحيدة الذي تزداد نضارة اوراقه وتتحول خضرته الداكنة الى لونٍ اخضرٍ زاهٍ اثناء شهر تموز تحديداً … كتبت ميسلون هادي القصة القصيرة وكتبت الرواية. هل يدعو الفضاء الروائي الكاتب الى ان تبدّل عدسة بؤرة مرآة السرد المستعملة في كتابة القصة القصيرة ؟

_ في الأغلب الأعم بداية الرواية بالنسبة لي هي تاجها وهي رتاجها.. بمعنى إن الفكرة أو الصورة التي أفتتح بها الرواية، هي التي تكون قد أثارت في نفسي الحافز الأهم لرسم الأفق الأوسع للقصة أو الرواية.. وفي الوقت نفسه لا أجد ضيراً من أن أنحي هذه الفكرة إلى فصل آخر، وأفضل عليها تاجاً آخر  أضعه في مكانها، بعد انتهائي من هندام الرواية.

 بالنسبة لشجرة النبق، فبالرغم من كونها دائمة الخضرة، قد تبدو أوراقها الخضراء فاتحة اللون، أو متيبسة ومتشققة بفعل الشمس الحارقة في الصيف، وهنا تتناظر هذه الرؤية مع حالة المكان الروائي وزمانه، وكذلك حركة الوضع النفسي للشخصية… و هذا التعبير عن هذه التحولات وفقاً لمتغيرات عناصر البيئة من نباتات وحشرات وأنواء ومواسم وتكوينات.. هو من الأمور التي لها أولولية في كل أعمالي (وفي السرد النسوي بشكل عام على ما أعتقد)، ومن خلالها يستطيع الكاتب أن يحول عيونه إلى مختبرات للترجمة الفورية تترجم الصور إلى صور أخرى ثم إلى إشارات مختبئة بين السطور.. وبالنسبة للانتقال من الفضاء القصصي إلى الفضاء الروائي فقد يحدث هذا في حالات متعددة تكون فيها الشخصيات الذهنية هي المسيطرة على الرواية.

*هنالك اسطورة تنبئ من يقرأ كتاب (( الف ليلة وليلة )) بأكمله بالتعرض الى حادثة أو مكروه. ما هو رأي الكاتبة بأسلوب السرد المتبع بهذا الكتاب ؟ وهل كان صداه وتأثيره لدى كتاب الشرق مشابهاً لما فعل بالغربيين من القرّاء والباحثين والشعراء والنقّاد والكتّاب ؟

–  قرأتها مرتين.. فهل يكسر هذا مفعول التعويذة.. ؟!!!!.. رأيي بهذه الملحمة أنها مكتوبة من عدة أشخاص في حقب زمنية مختلفة، وليس من شخص أو عدة أشخاص في حقبة زمنية واحدة.. والإضافات التي تسلسلت عليها واضحة من تكرار بعض الحكايات، أو من اختلافها بين ليلة وأخرى.. وبالتأكيد فإن الناسخين يلعبون دوراً في تلك الإضافات الكثيرة، وكأنهم أضافوا إليها نكهات مختلفة من أذواقهم أو (بوستات) فيسبوكية من عندهم في عصر لم يكن فيه مواقع التواصل الإجتماعي موجودة.. ومعلوم إن الشكل الذي كتبت به تلك الحكايات محكوم بسياقها التاريخي، حيث كان الإسهاب والتزويق اللفظي والإسترسال هي سادة الموقف.. أما اللغة فهي قريبة من اللغة العربية التي نستعملها الآن، وإن جاءت مثقلة بالسجع والزخرفة الفائضة عن الحاجة.. ولكن أكثر ما استوقفني في ألف ليلة وليلة هو اكتشافي إن الكثير من قصص الأطفال التي نظنها عالمية كقطر الندى وبيتر بان وغيرها موجودة جذورها في ألف ليلة، حتى إني تساءلت مع نفسي كيف تعتبر هذه القصص من التراث الاوربي، وهي موجودة في ألف ليلة وليلة؟ ثم شككت أكثر وقلت هل هي فعلاً مقتبسة من ألف ليلة وليلة، أم أنها فعلاً أوربية، ثم أضيفت إلى ألف ليلة وليلة باعتبارها قد تناسلت إلى وقت قريب، وتم اختراع واضافة بعض القصص اليها حتى  بداية القرن الثامن عشر، حيث ترجمها بتصرف كبير المترجم الفرنسي غالان، ولربما أضاع بعض معالمها الأصلية ..

الأمر الآخر هو أن إن الكثير الخوارق والمستحيلات التي نراها الآن على الشاشة في أفلام الرعب والخيال العلمي، كانت بذورها موجودة في “ألف ليلة وليلة”، وظهرت في تلك القصص على شكل مخلوقات أسطورية ينتمي بعضها إلى الأنس وأخرى إلى الجن وأخرى جسَدها خيال الكاتب المجهول على شكل غيلان وطيور متوحشة ونملات بحجم الكلاب وفواكه تبكي وحجارة تمغنط وأزهار تضيء، وحيّات تتكلم، وجبال من البلور ومسافات أطوالها بعشرات السنين، ومخلوقات أطوال أذنابها بمسافة عشرين سنة وبشر ينقسمون إلى أنصاف، كل نصف منها يمشي في اتجاه، وعماليق رؤوسهم في السحاب وأقدامهم تحت التراب، ورؤوس بلا أبدان، وأبدان بلا رؤوس، وأقوام تطير، وأشجار أغصانها تشبه رؤوس بني آدم، إذا طلعت الشمس تصيح تلك الرؤوس جميعاً وتقول في صيحاتها واق واق.. سبحان الملك الخلاق.. خلاصة القول أن كتاب “ألف ليلة وليلة” يزخر بأروع صور الخيال الجامح، وأعجب ما يمكن للإنسان أن يفكر فيه من غرائب وخرافات.

*ماهي مصادر الخيال لدى الكاتب القصصي أو الروائي ؟ في(( حلم وردي فاتح اللون )) نقرأ عن االجرس الذي ينطق ويرى، والمنزل الذي (( له، مثل كل البشر، لسان يتحدث به، و رائحة … و ذكريات )) . هل هنالك فارق جوهري بين الخيال لدى الشعراء وكتّاب النثر؟

_ لو قلنا إن المهندس إذا دخل بيتاً نظر إلى سقوفه وجدرانه، وإن ربة البيت إذا دخلت بيتاً نظرت إلى أثاثه وستائره، فإن الروائي إذا دخل قرية ألتقط لها صورة شاملة كاملة وحفظها في دماغه.. وبمرور الزمن يتحول هذا الدماغ إلى مايشبه الكومبيوتر الذي يحفظ كل الفايلات التي تخص عمل الكاتب.. وما هذه الفايلات سوى أوليات للحدث الذي سيروى من جديد والذي لن يكون حدثاً إذا لم نروه من جديد؟؟ فكل واحد منا يروي كل يوم كل مارآه وفعله ومر به خلال اليوم حتى لو كان مباراة لكرة القدم. ويأتي دور الروائي لكي يقدم قراءات مختلفة للحكاية غير تلك التي كان يقصدها الآخرون في المرة الأولى.. فيصنع وفقاً لتلك المرة الثانية الحكاية من منظاره كرائي  يجب أن تكون السلطة الأخلاقية التي يمتلكها كونية وليست عنصرية أو دوغماتية ضيقة، وكأنه نوع من البشر منتدب من الطبيعة للاقتراب من فكرة العدل والحق والجمال عن طريق الكتابة التي هي لغة هذا النوع…. وقد لا يحق له إمتلاك هذ السلطة إذا كانت أفكاره لا تعبر عنه وإن كانت بهذا الشكل، لأنه سيكون موجوداً داخل ما ينتقده، وسيشعر إن عليه أن يغير نفسه أولاً قبل أن يغير الآخرين.. أي كما يقول غاندي: ( كن أنت التغيير الذي تحب أن تراه).

     باقي مصادر الكاتب هي القراءات المستمرة وتحديث معلوماته بكل شئ جديد، وقد وفر عصر الانترنت فرصة ذهبية للكاتب لأن يقوم بهذه المهمة، حتى أزعم بأنه ليس هناك مهنة أفادت من الانترنت مثل الكتابة. أما الفرق بين خيال الشاعر والروائي فأعتقد لا فرق بينهما إلا بالمسافة التي تفصلهما عن أرض الواقع إذا ما حلق كل منهما فوقه واطئاً أو عالياً.

*في ((العالم ناقصا واحد )) تُشبه الكاتبة المعزّين وتناقصهم نتيجة مغادرتهم لمجلس العزاء بالاسنان المقلوعة او الساقطة من فم سوف يخلو من عظامه. وفي شاي العروس  نقرأ (( الوجوه تحجبها التعابير مثلما السماء تحجبها الغيوم)). و في العيون السود: (( مكنسة يدوية ذات عصا طويلة تشبه القامة الفارعة حافية القدمين سامية الجمال )) نجد هنا الصلة مقطوعة تقريباً بين الصفة والموصوف، المشبَّه والمشبَّه به ، هل تجرب الكاتبة طريقة جديدة في فن الوصف؟

– الكاتب لا يتخذ قراراً بذلك فيقرر أن يكون مختلفاً مثلاً، ولكن العكس هو الصحيح أي بمعنى إنه ينظر إلى الحياة بطريقة مختلفة، وبالتالي يلجأ إلى طريقة مختلفة في التعبير تكسر حاجز الألفة والتوقعات، وتجعل الرسالة تصل بشكل أفضل في عالم ينقل ملايين الرسائل في اللحظة الواحدة، ومن الضروري أن يبقى للكتابة سحرها الخاص والغامض الذي يشبه سفراً في عربة تمشي في الليل، ولا تتوقف في النهار.

*هنالك وصف في (( الحدود البرية )) تقترب فيه لغة التشبيه من لغة الشعر ؛ تصف الكاتبة ثمرتي نبق معلقتين على غصن شجرة و الفصل صيف هكذا: (( انهما جميلتان و غامضتان بشكل نادر. إنهما في غيبوبة البراءة التامة .. مستحيلتان لشدة براءتهما )). هل يكون الجمال دائماً في غيبوبة البراءة التامة ؟ هل يكون الجمال مستحيلاً ؟

–  قرأت مرة بأن حتى الذرة أصغر ما موجود في الكون، إذا راقبتها ستدرك إن هناك من يراقبها فتغير سلوكها.. ويبدو أن الجمال الحقيقي بهذا المعنى هو مستحيل للبشر الذين يستجيبون لتوقعات الآخرين المعلبة عنهم، فيتدجنون ويفقدون الكثير من ذواتهم الحقيقية، بينما الكثير من الكائنات الأخرى التي لا تعي هذه المفارقة هي في غيبوبة البراءة التامة، وهذا النوع من الجمال مستحيل بالنسبة للبشر وللكثير من الأحياء، ولكنه ممكن للوردة والشجرة، لأنها لا تعي حتى الأخطار المحدقة بها، وتطلب الحياة بهذه الطريقة الخالية من الآخر، ولا تسجن نفسها خلف قضبان الصفات .                                   

 *(( محروس)) في قصة (( الحمامة )) برعت الكاتبة في تصويره؛ فهو (( يتسلق كرب النخلة بمقدرة وخفة لا تتناسبان مع ثقل وزنه )) أو وهو يتطلع الى (( عوف )) صبي القصة (( بنظرات يشوبها احمرار خفيف )) ثم يتلفت (( يمنة ويسرة وفمه مفتوح .. لم تكن ابتسامة بالتاكيد، كان فيها شئ غامض خافه “عوف” دون أن يفهمه)) . استطاعت القاصّة هنا التعبير عن (( المسكوت عنه )) في المجتمع واخلاقه والجنس وشذوذه .لكن القارئ ينسى كل شئ عن (( جميلة )) راعية الغنم في هذه القصة . هل يمكن للقارئ حذف هذه الشخصية دون ان يؤثر ذلك على القصة وحبكتها ومغزاها ؟

– جميلة هي ملاك القصة مقابل محروس شيطانها.. وهل يمكن لأحدنا ان يكون أكثر سلاماً، أو أن يحقق نجاته إلا من خلال فكرة البراءة التامة  في عالم مخيف ووحشي، ولذلك ستلاحظ بأن رواياتي وقصصي تعج بمثل هذه الشخصيات النسائية التي تعادل وحشية هذا العالم العاطل عن العقل والأمل والسلام.

*في روايات ميسلون هادي ثمت شخصيات يعيش القارئ معها و يعرف كل شي عنها؛ مثلا ((هنوه )) في (( العيون السود )) نتعرف على (( كشاكشها)) التي (( كانت تتحرك وتتطاير  حتى عندما لا تكون هناك في الجو نسمة هواء)) ونسمع الصمت الذي يسود بيتها وكيف ينقطع هذا الصمت بصوت آنية طبخ ترفع من مكانها، أو بحركة السكين وهي تنغرز في قطعة  اللحم الطازجة واللينة …. بينما نقرأ في (( شاي العروس)) عن (( انكه )) سوى اسم هذه الشخصية ……. يرد مرة في الصفحة ….ومرة ثانية في صفحة …….. ولا نعرف عن هذه الشخصية سوى اسمها . من هو أو هي ((انكه ))؟

– إنه حارس مرمى كرة قدم لفريق ألماني وجدته الشرطة منتحراً على سكة القطار حزناً على وفاة ابنته ذات العامين التي ماتت بمرض القلب.. لقد تصادفت هذه الحادثة مع وصول محمود بطل الحكاية إلى أمريكا،  وأراد محمود من هذه الحكاية أن يضيفه إلى قائمة الذين يدعو لهم بالرحمة في سره وجهره بالرغم من اختلاف ديانته، لأن الموت من وجهة نظره يساوي في فظاعته وجبروته بين الجميع.  

*((تك وانفتح غطاء الاوكسجين)) ((تك وانفجر المصباح… تك وحل ظلام دامس)) ماهي حكاية هذه التكتكات في (( العيون السود )) ؟

–  إن الحد الذي تكتمل فيه الكتابة هو القراءة. والقراءة هي الجزء الأهم من الكتابة. قد تبدو الحدود صارمة للحكاية التي يرويها الكاتب، ثم يجئ دور القارئ ليجعلها مترامية الأطراف حسبما تكون أهواء ومشارب كل واحد من القراء.

*في (( العيون السود)) يكون الصمت هو الصوت الطاغي والمسموع طوال صفحات الرواية ؛ ((ثمة صمت موارب في الجو )) او ((هذا الصمت ، يبدو صائحا بهذا الشكل الصارخ)) وفي المستشفى (( تنهدت)) جنان (( و صمتت فسجا الليل واصبح المكان مظلما)) الصمت يفعل الكثير : (( .. لاول مرة تجد نفسها وحيدة في البيت .. وحيدة في صباح البيت .. وحيدة في صمت صباح البيت .. وحيدة في وحشة صباح البيت )). ما دلالة هذا الصمت الذي (( يبدأ صائحا بهذا الشكل الصارخ )) في الرواية؟ (( ولكن رائحة برتقال طازج قطعت ذلك الصمت بقدحين مثلجين )) …

–  طالما وضع الكاتب نفسه بين قوسين من الصمت بعد الكتابة وقبلها وأثناءها.. وعلى العكس من الفكرة التي تقول إن المراة ثرثارة بطبيعتها، فإني الأحظ أن البيت الخالي من الرجال يميل إلى الصمت أكثر من غيره.. وفي رواية العيون السود يتسيد وجود المراة على بيوت الحي في زمن الحصار، ففي بيت يمامة هناك يمامة وخالتها فقط، وفي بيت جنان هناك ثلاثة بنات مع الجدة، وفي بيت هنوة لا يوجد أطفال، بينما نجد الصراخ ينطلق من بيت كاظم البغدادي بسبب عراكه المستمر مع زوجته فائقة.. وهذا الانتشار النسوي لم يكن مقصوداً في الرواية إلا بقدر قصدية الشروط التي تمليها مسارات الشخصيات، والزمان الذي دارت فيه أحداث الرواية..  أما الصمت فكان موجوداً عندما تتخلل الرواية حالات ترقب ومفاجآت، وهناك عناصر سبك مقصودة من أجل الإيهام بنهايات مفاجئة أو غامضة.. وبالكاد يستطيع المرء أن يتحدث بحريته إذا كان الغموض هو سيد الموقف أو كانت سفينته توشك على الغرق.

*في الروايات الأخيرة نجد صوت المؤلفة ملحوظاً، وأحياناً يكون عالياً وطاغياً على صوت الشخصيات. هل أن همّ الروائي الاول هو نقل افكاره وخواطره ام ترجمة تجربته الى القارئ بصورة شخصية حية؟

وظيفتي ككاتبة تحتم علي أن لا أكون في مكان ليس لي.. وأن لا أحل مكان أحد.. وأن أنظر للشخصيات من بعيد وأضع أفضل مسار ممكن لكل واحد منهم.. سأحأول أن أكون معهم عندما يثيرون انتباهي للمسارات الافضل.. وفي الأغلب فإن الأكثر منهم يتخفون خلف صفة تميزهم، ولكن الكاتب قد يزيح الستار ليتعقب صفات وغرائز أخرى.. سيعمل كهوائي لالتقاط ذبذبات وروائح تحيط بهم.. ولكن المشكلة إن هذه الذبذبات تنطلق من المجال المغناطيسي للكاتب نفسه، ولا يستطيع الإستقلال عنها أو الإفلات مما يتذبذب منها.. فلهذا تراه يسحب شخصياته إلى الحافات النائية من محيطه المغنطيسي ليجعلها تبدو بعيدة عنه، فيخفت صوته عندما تكون الشخصية خارجة تماماً عن ذلك المجال، ولكنها لن تكون كذلك دائماً.

*ذكرت لنا شيئاً في (( شاي العروس )) عن (( قانون الجاذبية في امر جمال البنات )). ما هو هذا القانون ؟

– هذا سؤال طريف.. قانون الجاذبية لدى البنات هو ليس في جمال الشكل.. ولكن في جمعها بين براءة الملائكة وأنوثة النساء .

*البعض يعتقد ان الأدب يكتسب دوما قيما جمالية كلما نفذت اليه الفنون الجميلة الاخرى. أي الفنون هي اقرب الى النفاذ في عالم ميسلون هادي القصصي والروائي ؟

– العلوم هي الأكثر قرباً من عالمي القصي والروائي.. وهي لا تقل في إمتاعها عن لوحة جميلة أو أغنية مؤثرة.. ففيها نعثر على بعض أسرار الكون الغريبة، ونتوصل إلى فتح درج صغير من أدراج هذا الوجود وأسبابه وأسراره.

*قبل أن يفقد بطل ((الحدود البرية)) وعيه كان اخر ما راه هو اجمات الاشواك النابتة على الارض المحاذية للطريق وهي تركض الى الظلام بعد أن تخرج من الضياء الساطع لمصابيح السيارة المتراجعة … كيف تتعامل الروائية ميسلون هادي مع معطيات الحياة من حولها، ابطريقة التماس المباشر مع الواقع ام بطريقة المطبخ الفني الذي تدخله المعطيات مواد اولية لنتائج لاتشبه الواقع الا بما يشبه احتساء نبات العدس وحبته ؟ هل تقع اجمة الاشواك هنا ضمن دائرة الجمال التي تضم الكاتبه اليها كل ما هو ((مستحيل لشدة براءته)) ؟

– أجمة الشوك المتدحرج من الظلام إلى الضوء تعبر عن طريق خارجي في مكان صحراوي عادة، ولكن إذا أنصتنا لباقي الترددات سيكون الناتج  متطابقاً مع هبوب هواء حار عليك في بلاد غريبة شديدة البرودة. قد تجد هذا الهواء الحار  مزعجاً في بلادك، ولكنه في الغربة سيذكرك بمكان ما تشتاق إليه. الأمر نفسه يحدث مع الروائح العطرية التي قد تكون غير مستحبة ولكنها مرتبطة بتجربة معينة أو حادثة معينة. وأفضل تجليات تلك القدرة الإنسانية، برأيي، هي عندما يمضي الزمن طويلاً جداً على المشاهدة الأولى لمكان من الأمكنة فتعجز الذاكرة عن استرجاع تفاصيل ذلك المكان. ولكن ما أن يرتبط ذلك المكان بعطر صابون معين أو طعام معين أو رائحة حطب مشتعل مثلاً، حتى يحضر المكان في الذاكرة بأقرب ما يكون من حضوره الأول.

    الحواس الأخرى، كالسمع والبصر، قد تصنعان هذا الارتباط العاطفي بين الإنسان والمكان، وخصوصاً فيما يتعلق بالأصوات القاهرة للزمن كآذان الظهر وأغاني أم كلثوم وزقزقة العصافير وصفير القطار وهدير البحر وصوت القطار وجرس المدرسة ونداءات بعض الباعة المتجولين.. هذه كلها ترتبط في أذهاننا بأماكن معينة ومراحل بعينها من العمر، فيوقظ سماعها لدينا الحنين الغامض إلى ذلك المكان أو ربما النفور منه.. أما الروائح فتترجح كفتها على كفة الأصوات في مُصاحبتها الإنسان، إذ هي ترافقه بسهولة من مكان إلى آخر، وفي كل الظروف. من مدخل كهذا يحتاج المبدع إلى أن تكون علاقته مع الطبيعة سفارة فوق العادة، وأن يكون سفيراً لها في كتاباته، فيجعل ذلك العبق يتضوّع  وينتشر من النص إلى قارئه ليثير ويحفّز مخيّلة ذلك القارئ، ويساهم في نقل رسالة فورية إلى المتلقّي تعمل، مع باقي عناصر الإثارة، على إضفاء حياة حقيقية إلى القصة وجعلها ثلاثية الأبعاد (3D) يستطيع القارئ أن يحسّها ويشمّها ويسمعها أيضاً.

*يعود ((جمال)) من الاسر في ((العيون السود )) فيستقبله اهل الزقاق جميعا، الموتى والاحياء (( وهم يقفون بين الصحو النوم )). ترسم (( يمامة )) هذا الحشد في لوحة تسميها : اعواد بخور .. (( كلنا في اللوحة متشابهون مثل اعواد البخور وكاننا جموع لا مفرد لها )). الاستعارة والصورة هنا أكثر من رائعة. السؤال هو لماذا لا نجتمع جميعا سوى في حالات الحزن الطاغي او في اوقات الفرح الشديد؟ هل كانت هذه الصفة جبلة فينا منذ القدم ولا زالت مستمرة الى اليوم ام انها طبع اكتسبه الناس وهو جديد عليهم وتزداد جدته وتقوى كلما تسلط القوي منا على الاضعف وتغلب هذا على الضعيف وتقوى الثالث على الاكثر ضعفا …….. ؟

– التزام المكان هو من أعز الثيمات على قلبي، والمكان الذي يكاد يحتل البطولة فيما كتبت من روايات، هو (البيت) العراقي الذي كان حاضراً بقوة في العالم ناقصا واحد وفي حلم وردي فاتح اللون وفي شاي العروس ونبوءة فرعون والحدود البرية وحتى في “يواقيت الارض”. والبيت في “العيون السود” هو عدة بيوت في زقاق واحد تقدم بانوراما العراق لعقد كامل هو التسعينيات من زمان الحصار، وتقبُّل (الآخر)، بالرغم من اختلافه، وتقديم الانسجام في زقاق واحد من أزقة بغداد كان هو الثيمة التي اشتغلتُ عليها في تلك الرواية، وعندما يجتمع أهل الزقاق لاستقبال جارهم الأسير جمال فهذه صفة عربية بامتياز نجدها واضحة في سرعة تجمع الناس  لنجدة شخص مصاب أو سيارة تعرضت لحادث.. هذه الصفة العربية فيها جانب ايجابي كبير وهو إن الرباط الوجداني بين الناس لا زال حياً لم يتفكك.

*لقصائد الشاعر محمود البريكان اجواء قريبة مما يدور في قصة (( الشخص الثالث )) .هل تحاول الكاتبة هنا ان تعلم القراء بان ما يرونه امامهم في الواقع ماهو الا مجموعة اوهام ؟ حبكة القصة تشبه تلك المستخدمة في القصص البوليسية، من هو (( الشخص الثالث )) ؟

–  لطالما تمنيت أن أكون كاتبة بوليسية.. ولهذا استعنت بتقنيات الكتابة البوليسية في أغلب أعمالي، وجعلتها مشحونة بالترقب والانتظار.. أما الشخص الثالث فهو غير موجود إلا في أوهامنا.. وهذا الوهم قد يكون هو الحقيقة التي نعيشها لأن الطبيعة تتنكر وتضع القناع الذي نظنه حقيقة.. فاللون الأبيض مثلاً يتكون من سبعة ألوان تسمى ألوان الطيف الشمسي وهناك أطوال موجية لكل لون، فاذا مر هذا الطيف بأي وسط ناقل كالهواء مثلا فان اللون الذي طوله الموجي قصير يستطير عمودياً، بينما تبقى الألوان الأخرى سائرة بخط مستقيم وهذا يفسر ظهور الشمس باللون الأحمر الأرجواني في آونتي الشروق والغروب، لأنها تكون أفقية بموازاتنا في الحالين فيستطير اللون الأزرق عموديا ولانرى الا الضوء الأحمر الذي يسير بخط مستقيم تجاهنا. بمعنى آخر فإن شمس الأصيل ليست حمراء، والسماء ليست زرقاء، وقميصي الذي يبدو لونه رمادياً، قد يكون خليطاً مشوشاً من عدة ألوان.. ولو رأيته على ضوء شمس آخرى وداخل وسط هوائي آخر سيكون له لون آخر.. إنه القناع.

*يجد الرجل نفسه في المراة التي يحب وتجد المراة نفسها كذلك: (( لم احسب السنوات التي امضيناها سويا .. ولم يحبها هو ..ولكن الاخرين انتبهو الى ان احلامنا وابتساماتنا ونظراتنا راحت تتشابه مع مرور الايام .. تماما مثلما تتشابه زهرة عباد الشمس مع قرص الشمس وتدور كيفما تدور)) .الرجل هنا يعبد المراة والمراة كذلك، انه تعريف طريف للحب يسمو به كي يكون ديناً يجمع اثنين على ممارسة طقوسه الحلف المقدس بينهما.(( لحظة من العام 1988)) قصة امراة تفقد زوجها بحادث سيارة ثم تلتقي به في مصعد الدائرة التي تعمل فيها (( خرج من المصعد ومضى .. رجعت خطوة الى الوراء لاتفحص ملامحه جيدا .. كل شئ فيه لم يتغير , وجهه وضحكته وبريق عينيه .. وكانني تركته البارحة فقط ))هل تريد الكاتبة منا التعرف في هذه القصة على هذا النوع من الحب، يرتفع بشريكيه وهما على الارض الى مرتبة الخلود ؟

–  أضع الرومانسية نصب عيني عندما أكتب.. وهي جزء من طبيعتي كإنسانة تبدو في غاية الواقعية في حياتها ولا تهرب من هذا الواقع إلى أي مكان آخر، ولكنها موجودة فيه من أجل لحظات جميلة لا علاقة لها بالمأكل والمشرب والملبس، إنما لها علاقة بحاجة الروح إلى التجلي والاتصال بباقي الإشارات التي تهبط من مكان خفي من الكون لتصل الآخرين ببعضهم البعض دون ان يشعروا.

*قصة (( الليل بالباب )) من القصص الجميلة والناجحة المكتوبة عن الحرب، ما يلاحظه القارئ هو الحوار المتكون من جمل قصيرة مبتورة، اسئلة قصيرة واجوبة اقصر، وكان الحرب تشل القدرة على الحديث والنقاش ،الخوف وحده هو السيد وهو الامر المطاع .

– إنها فترة الحصار وظلمة الحصار وعوز الحصار.. كانت فترة عصيبة علينا جميعاً وكانت تداعياتها موجعة علينا وعلى البلد بأكمله. ولم يكن الفرد العراقي مهيئاً لكل تلك المضاعفات، مما جعله يعاني كثيراً من ضيق ذات اليد وتردي الخدمات وانهيار العملة العراقية التي كانت مرهوبة الجانب، لهذا فإنه في القصة يتعامل مع انقطاع الكهربائي واحتمال حدوث حرب جديدة، بكثير من التشوش والارتباك والخوف من المستقبل المجهول.. كما إن الظلمة احاقت بالمرأة من كل مكان، فاختنقت وأصابها الاختلال والدوار.. (( هبطت الصغيرة من حضنها ثم هرولت باتجاه الباب لتفتحه .. لبثت هناك لحظة أو بعض لحظة ثم قالت :  ولكن أين الباب ؟ لاتوجد باب )).

*ماهو راي الكاتبة ميسلون هادي بقصص الخيال العلمي، وهل يوجد في القصص العراقي من كان مولعا بهذا النوع من ادب الخيال ؟

– أدب الخيال العلمي يحمل رسالة قوية للتحذير من تدمير البيئة أو كوارث الطبيعة أو الاحتمالات المتوقعة لجشع الانسان ونزعاته الاستهلاكية التي بددت موارد الأرض. وعلى ذكر ألف لية وليلة قبل قليل، فإن بعض الخرافات الخوارق التي وردت فيها يمكن أن تكون قد شكلت نوى لأدب الخيال العلمي الذي لم يزدهر إلا بعد “ألف ليلة وليلة” بقرون. وقد كتبت مقالة عن  بعض هذه الخوارق وأشرت إليها بكثير من الدهشة والعجب إذ كيف تم تخيّلها في عصر لم تكن فيه عجائب التكنولوجيا ووسائل الإتصالات وفنونها قد عُرفت بعدُ على أرض الواقع. ومن هذه الخوارق التي ورد ذكرها في “ألف ليلة وليلة” طاقية الإخفاء التي يعثر عليها حسن البصري، وفرس الأبنوس الذي يطير بالأميرة مرجة بين بلاد فارس وصنعاء اليمن وبلاد الروم، والفارس المصنوع من النحاس الذي يحرس مدينة الموتى ويتحرك باللوالب للإشارة إلي الاتجاه الصحيح، والسرير الطائر الذي يعود بعلاء الدين وزوجتيه ياسمين ومريم من روما إلى مصر بعد أسره من الروم وجعله يخدم في الكنيسة مدة عشرين سنة.

وبالنسبة لإهتمامي بالقصة العلمية فقد كان انعكاساً لشغفي بالعلوم بشكل عام، ولهذا كتبت قصص الخيال العلمي في أحايين متباعدة، ومؤخراً جمعت ماكتبته في هذا المجال وأصدرته في مجموعة ألكترونية عنوانها (ماما تور بابا تور). أما بالنسبة لكتاب أدب الخيال العلمي في العراق، فإنهم يعدون على عدد أصابع اليدين وأكثرهم تخصصوا في مجال أدب الأطفال أذكر منهم طالب ناجي الخفاجي وخالد رحيم المطلبي وعبد الستار ناصر وصفاء صنكور وعامر فتوحي.

*في كتبك نقرا العديد من المفردات والتعابير العامية، الحوار، باعتباره لغة التخاطب بين الشخصيات فانه يحتمل لهجة العامة كي تكون الشخصية مجسدة اكثر ومصورة بدقة اكبر. أيجوز استعمال اللغة التي يتفاهم بها الناس في الشارع والبيت …. اسلوبا يرتفع بقوته جرم السرد ؟

– طبعاً ممكن؟ ولكن على شرط أن يكون ضمن حوارات الشخصيات، ولا يتسلل إلى لغة السرد إلا عند الضرورة القصوى، ومن هذه الضرورات أن تكون الرواية ساخرة مثلاً فتعمل المفردة العامية على كسر جدية الجملة، وبعثها من جديد في تعبير مختلف يختلف كلياً عما هو مقصود منها دلالياً.

*تبدو رواية (( العالم ناقص واحد )) وكأنها تعبير عن تجربة حقيقية مرت بها الكاتبة وانتقلت الى قلمها ثم الى الورق. خصوصاً المشهدان المؤثران جدا في الرواية، الأول حيث يبكي ابن الجيران الجميع بسؤاله عن موت (( علي)) والثاني عندما يبكي الاب ابنه في المقبرة ويضرب راسه بصندوق السيارة لتلتحق به زوجته ثم تتعثر بعباءتها وتتهاوى على الارض وهي تصيح وتصرخ بهيستيرية : لا عيني لا … لا عيني لا.. إلى أي مدى تعتمد الكتابة السردية لديك على تجارب حية وتاريخية؟ وكيف يجري تمثيل الأخيرة في المتن السردي؟..

– جمعت في العالم ناقصاً واحد بين تجربتين أحدهما خبرية والثانية وجدانية.. التجربة الخبرية تخص زميلة أعرفها استشهد أخوها في الحرب ثم تسلل الشك إلى نفوس أهلها بان الجثة التي استلموها ليست جثة الأخ.. اما التجربة الوجدانية فهي تخصني باعتبار أن أخي الأصغر قد استشهد في حرب إيران وكانت تلك الصدمة مدمرة للعائلة. أما اعتماد تجارب حية وتاريخية فيكاد يكون حاضراً بقوة في كل أعمالي فأنا مستمعة جيدة للناس والحياة وأشعر بأنهم أعطوني توكيلاً غير معلن للكتابة عنهم. ثم أن الكاتب يستجيب لرغبة دفينة للنفاذ إلى وعي الآخرين، أو الاقتراب من الحقيقة من خلال مصائر مخترعة لأشخاص لا يعرفهم.

*في احدى القصص تعود الشخصية الرئيسة في القصة إلى الدار التي كانت تسكنها في الماضي , تكتشف ان غرف المنزل وممراته التي تراها واسعة في الذاكرة هي في الحقيقة ضيقة وجدرانه غامقة اللون متقاربة من بعضها.. هل يغير الزمان المكان , لا بفعل التقادم والاندثار , ولكن بفعل سطوة لا ترحم يمتلكها الوقت الذي يمضي , يغير ابعاد المكان ويقلل مساحته ويجعل جدرانه متقاربة وفناءه ضيقا ؟

– يبدو إن الذاكرة تمنح طلاقة أو رحابة للأماكن التي نحب.. وإذا ماغادرناها لفترة طويلة ثم عدنا إليها سنراها تبدو أضيق وأصغر مما كانت عليه.. بمعنى إن الأبعاد لم تتغير بسبب مرور الزمن، ولكن بسبب خداع الذاكرة التي ترتبط بمكان أليف تحبه وتظنه هو الجنة، ثم عندما تعود إليه بعد غياب تجده على صورة رثة، وهذا يفسر صدمة الكثير من المغتربين ببغداد عندما يعودون إليها بعد غياب طويل.. ليس لأنها رثة وحسب، ولكن نسبة إلى الامكنة الجديدة التي عاشوا فيها، فإنها ستبدو بمنتهى الخراب والبشاعة.

*كتبت ميسلون هادي (( رائحة الشتاء )) قبل ان يكتب الراحل محمود عبد الوهاب قصته الشهيرة والتي تحمل نفس العنوان، كما ان للكاتبة قصة ((يوم استثنائي )) وللكاتب قصة ((عابر استثنائي )) ما هو راي ميسلون هادي بانجاز محمود عبد الوهاب القصصي ؟

– إنه رائد وكاتب قصصي متميز.. وكونه مقلاً في أعماله جعل له مكانة ونكهة خاصة في القصة العراقية، لهذا ارتبط اسمه بالقصة أكثر من ارتباطه بكتاباته الأخرى كالمقالة والمسرحية والترجمة.

*(( الياقوتة ))من اجمل ما كتبت ميسلون هادي. انها تحفة فنية لا يضاهيها اي عمل قصصي مكتوب باللغة الام في راي بعض القراء. الاغنية في هذه القصة : (( الحب قلبان يغنيان اغنية واحدة )) كانها منقولة الى العربية من لغة ثانية. هل كتبت القصة بتاثير تجربة دارت في العراق ام في الخارج ؟ هل من ذكريات معينة تخص هذه القصة تفيد الدارسين لادبك وتقدم لهم العون ؟

– الأغنية منقولة عن اللغة الانكليزية، والقصة دارت أجواءها في مدينة برستول البريطانية وشخصية العجوز شخصية حقيقية كنت ألتقيها أحياناً في الباص.. رجل عجوز تغطي الكدمات وجهه، ويدندن مع نفسه بألحان وتمتمات غريبة، ويجرجر وراءه حقيبة سفر تبدو فارغة من الملابس.. كنت أتساءل مع نفسي دائماً ماذا يوجد في هذه الحقيبة؟ وجواباً على ذلك السؤال كانت قصة الياقوتة التي جعلت منه عازفاً في أوركسترا تهديه الفرقة التي يعمل فيها ياقوتة ثمينة في نهاية خدمته، فيرى فيها كل ماضيه الجميل وأمجاده الموسيقية، ولكن جارته تطمع في تلك الياقوتة فتنتهي القصة كما تنتهي الحياة.. لا شئ سوى أوهام.

*تمرين كتابة القصة موضوع وارد لدى كتاب عديدين .في ((زينب على ارض الواقع )) تذكر الكاتبة انها تكتب (( في النقطة المشتركة بين منطقة الواقع ومنطقة الخيال )) ؛ نقرأ في الحوار بين الاسير والكاتبة :

]– قبل أشهر عدت من الاسر .

– لا أحد يعود من الأسر قبل أشهر … عندما تؤسر فانك لا تعود من الأسر أبداً .[

يطلب الاسير من الكاتبة ان تكتب لقصته نهاية سعيدة  ترفض الكاتبة طلبه لان (( النهايات السعيدة ليست من اختصاصي )) و ((يمكنك ان تقصد جاري  الكاتب عبد الباقي مقصود من اجل ان يضع لك النهاية التي تريد .. انا متاكدة انه سيرحب بطلبك فهو يحب النهايات السعيدة )) . من هو الكاتب المقصود والذي (( يحب النهايات السعيدة )) ؟

– إنه شخصية خيالية أردت أن أكسر بها كآبة الموقف.. وقد تكررت فيما بعد في قصة أخرى بطلها جليل القيسي أسمه” الكاتب ينسى القارئ يتذكر”. وهنا أحب أن أذكر شيئاً عن الكاتب عبد الباقي مقصود الذي يحب النهايات السعيدة.. إذ إن المترجم الدكتور شاكر مصطفى ترجم هذه القصة ضمن انطولوجيا القصة العراقية التي صدرت في أمريكا.. ويقول إنه كلما قرأها أمام مجموعة من طلاب الجامعات ضحك الطلاب عند هذه العبارة العابرة.. كما انهم اعتبروا القصة قصة ساخرة بسبب تلك العبارة.

*((عنان)) في (( ضربة جرس)) هي شخصية حقيقية، اليس كذلك؟ لقد أبدعت في تصويرها الى حد ان القارئ يتمثل امامه وهو يقرأها مشهداً سينمائياً وليست مقطعاً قصيراً في فن القص.

– نعم .. هي شخصية واقعية، ولكني استعرت منها بعض الحوارات الطريفة التي دارت في تلك الجلسة النسائية الحميمة التي أنهت ضربة الجرس هناءتها وكأنها أعلنت إنتهاء الدرس الأخير من  ذلك المرح الذي كان يعم المكان.

*يقوم السرد بمهمة الوصف مع الاحتفاظ بقيمة الوصف عندما يكون ضروريا ومعبرا وشعريا في نفس الوقت. ((اما عمتي فتجلس قرب النافذة … وحيدة حزينة مثل لافته مهملة على الطريق الخارجي)) . هذه القصة”ضربة جرس” ناجحة فنياً تماماً.. اي انها تمتلك جميع مقومات فن القص. من هو الكاتب العراقي والعربي وغير العربي، الذي تقرا له ميسلون هادي كثيرا وتفضله على البقية الباقية من معشر الكتاب ؟

– كثيرون جداً وبعدد الكتب التي قرأتها.. ولكني أحببت زكريا تامر في القصة القصيرة أكثر من غيره.. وفي الرواية فولكنر وفؤاد التكرلي ويوسف الصائغ وريمارك وكونديرا فضلاً عن روايات مهمة حببت لي الفن الروائي في مطلع شبابي كزوربا والعطر والجحيم وليلة لشبونة والأخوة كرامازوف والغريب والصخب والعنف وكبرياء وهوى والمحاكمة والمسخ والأم والساعة الخامسة والعشرون وصحراء التتار والمبعدون والقلعة الخامسة والرعب والرجال ورجال تحت الشمس وشرق المتوسط والوجه الآخر والنخلة والجيران وكانت السماء زرقاء.. والقائمة تطول وتطول ويصعب تذكر مئات القصص والروايات التي قرأتها في حياتي والتي أزعم إنها قد صنعت مني الكاتبة التي تعرفونها أكثر مما فعلت الموهبة الخالصة.

*العاج والابنوس

متجاوران في اصابع

البيانو

في انسجام كامل

فلماذا لايكون

الناس هكذا

هذه الاغنية نسمعها في (( طلاب المسز روبنسن ))مع اغان اخرى.. يمكننا اعتبار ( هذه القصة) درسا في كتابة القصة القصيرة ,الشخصيات تتقافز امامنا وتلعب وتضحك وتجعل القارئ احد المشتركين بالسفرة الى خيمة السرك المنصوب في (( الوايت لبديز )) ..  نكتشف في هذه القصة ماهية المتعة الحقيقية في الحياة .. (( .. متعة النظر الى الاشياء والانصات الى لغتها المرئية )). هل تستطيع الشعوب المبتلية بالتخلف والجهل وعموم الامراض التي لا شفاء منها كتابة او قراءة قصة قصيرة مثل (( طلاب المسز روبنسن )) ؟القصة تثبت عكس ذلك.  في اي سنة كتبت هذه القصة ؟ 

  • سلام الله عليك يادكتور حيدر. أعدتني إلى فترة جميلة من حياتي عشتها في أول زواجي وكانت في بريطانيا لأن نجم اكمل دراسته العليا هناك.. كما أعدت إلى ذاكرتي أغنية العاج والأبنوس لبول مكارتني وستيفي ووندر، والتي كانت شائعة يومذاك واحتلت المراتب الاولى في سباقات الأغاني، وهي الآن تعتبر من أفضل الأغاني لكلا المطربين. ولكن فعلاً الكاتب ينسى والقارئ يتذكر… لأني وإن كنت أتذكر تفاصيل هذه القصة المبنية على رحلة واقعية.. ألا إني لا أتذكر تاريخ كتابتها  بالضبط وارجح إنه 1985.. فعلاً كانت تلك القصة تعبر عن متعة الحياة في أيام الشباب وراحة البال، وأنا مندهشة من كل تلك الانتباهات التي تضمنتها أسئلتك المهمة، والتي تعني أن قصصي قد أوصلت رسائلي إلى القارئ بالاعتماد على إشارات الحياة ومتعة النظر الى الأشياء والإنصات إلى لغتها غير المرئية. أما عن محنة الشعوب العربية مع القراءة فهي محنة مستديمة، وبرأيي أن الكاتب الذي يستطيع الوصول إلى القارئ دون أن يتنازل عن شروطه الصعبة هو ما نحن في أمس الحاجة إليه في هذه الأيام.

*قبل مئة عام كانت المراة في العراق سجينة المنزل تماما . اليوم لدينا كاتبة واحدة عراقية مبدعة ومهمة في حقلي  القصة القصيرة والرواية . في العقد الاخير سمعنا دعوات تحت شعارات دينية متطرفة تطلب من المراة العودة الى مكانها الاول في القرون الماضية . هل تتوقع الكاتبة ميسلون هادي من المراة في العراق موقفا سلبيا في الصراع والكفاح ضد عودتها القسرية الى المنزل، سجنها الاول التليد ؟

– أبداً لن تكون المرأة العراقية سلبية في موقفها من الحياة، فهي التي أدارت بيتها كحكومة مصغرة في فترات الحروب والحصار وماتلاها من ويلات، وهي التي حافظت على بيتها من الضياع.. وبقلبها الكبير جمعت شتات ما تبقى من العائلة وحولته إلى كيان متماسك لا يزال يعط برائحة الرز العنبر وخبز التنور.. مع الأسف إن الرجل العربي يظن إن في قمع المرآة يستقيم المجتمع، وهذا أمر انعكس على حالة التردي المريع في مستوى النظافة والذوق والعمارة، فلا نجد شارعاً نفخر به، ولا إشارات مرورية تعمل في التقاطعات، ولا مجمعات سكن عصرية، ولا سينمات، أو مسارح، أو سائق يلتزم بالنظام أو بقوانين المرور. بل أن حتى بضاعة السوق قد تردت ألوانها وأشكالها وأصبحت سوقنا زبالة أسواق العالم، فهل هناك من يضرب هذا بذاك ويخرج لنا بنتيجة من حاصل هذا الضرب؟؟وما هي نتيجة الضرب سوى أن أوضاع المرأة اذا تردت تردى المجتع بأكمله، وأن حماية هذا المجتمع من الرذيلة والدنس لا يكون بعودة المرأة الموؤودة إلى الواجهة حيث ينتشر الحجاب حتى بين طالبات المدارس الابتدائية، ولكن يكون بتحصين العقل من الأفكار المتطرفة وتحجيبه بالوعي لا بالعباية فقط، وإذا كان الوعي كسيحاً بشكل مسيس، فما من شيء يمنع من أن يحدث أي شيء من (جوة العباية) كما يقول المثل الشعبي، فالرشوة تدفع من جوة العباية، والسرقة تتم من جوة العباية، والتزوير يتم من جوة العباية، ولم يعد ثمة عيب في السرقة ولا الرشوة أو التزوير، لأنها أصبحت مشرعنة تحت شتى المسميات، بينما العيب كل العيب أن لا تغطى المرأة شعرها بقطعة قماش تراها وزارة المرأة مقياساً للشرف الذي لا يحدده أي مقاس أكبر وأعمق وأرفع… وحبذا ان يبذل الرجال الذين يتعاركون كالديوك على السلطة والنفوذ جهداً أخلاقياً بسيطاً لإعادة النظر في ذواتهم التي قادتنا الى الحروب والويلات وإفساح المجال للمرأة لكي تكون في مواقع قيادية تحسن من حال البلد ولكن على شرط أن لا تكون هذه المرأة مستجيبة لاشتراطات الرجال وأحكامهم الظالمة..

*هنالك سؤال افتراضي ينتظر منا جواباً حقيقياً، لو كنت في جزيرة معزولة عن الناس أي كتاب ادبي تتمنى الكاتبة ميسلون هادي مرافقته أثناء عزلتها ؟

–  ما أشد حاجتي إلى هذه الجزيرة. لكي أتحرر من القراءة والكتابة، وأقرأ نفسي جيداً مرة تلو أخرى.. ثم أقرأ ما حولي من نبات وحيوان..  ولكن هل تعلم إن لدي رواية لم تنشر بعد تدور أجواءها في مثل هذه الجزيرة وفكرتها فنطازية للغاية .

*من هو الأديب المقصود في قصة(( استجواب)) هل هو جبرا ابراهيم جبرا؟ نختار سؤالا من الاسئلة الموجهة اليه في القصة : أي من شخصيات قصصك هي اقرب الى نفسك ؟

– هو خليط من عدة شخصيات أدبية ولربما هو شخص واحد يمثل الكاتب في شيخوخته حيث يرى السمكة التي تلبط إنها تموت.. أما أقرب شخصياتي إلي فهي شخصية شهرزاد المرحة في حفيد البي بي سي لأني، استعرتها من شخصية جدتي الحقيقية وكانت على جانب كثير من المرح وتستمع إلى نشرات الأخبار من راديو تضعه قرب رأسها.. رحمها الله كانت صندوقاً أو (صندقجة) للحكايات والأمثال البغدادية، ومنها أكتسبت هذا الحس الساخر في الكتابة، والذي أختفى فترة طويلة خلف أحزان العراق الكبيرة، ولكنه يعود للظهور من جديد في روايتي الأخيرة التي ستكون ساخرة أيضاً بل بإنعطافة حادة (أكثر من حفيد البي بي سي) نحو السخرية.. وهكذا هو الأصل كلما ابتعدنا عنه نشتاق إليه.

حوار إمضاءات مع ميسلون هادي أسئلة الدكتور حسن سرحان

* يلاحظ من يتابع معظم ما كتبت وما زلت تكتبين أن لديك حباً عميقاً للكتابة. لا أحد بإمكانه التشكيك بتلك العاطفة. لكن السؤال الذي يدور في ذهني هو كيف تفهمين الكتابة؟ هل الكتابة لعنة؟ هل هي ترياق يتخلص الكاتب بفضله من الشياطين التي تسكن رأسه؟ أم تظنين إن تصوراً كهذا لمعنى الكتابة لا يعدو أن يكون أكثر من وهم سادر لم يعد يتناسب مع المهنية والاحترافية اللتين أصبحتا الآن، والشواهد على ذلك كثيرة، سمتين بارزتين لكل كبار الروائيين؟

  • الكتابة لا تعصم الكاتب من الشياطين، ولا ليست ترياقاً للتخلص منها.. كما أنها ليست لعنة ولا نقمة ولا نعمة أيضاً، ولكنها لغة كونية لنوع معلوم من البشر  ينصرفون لتأمل العالم البائس من حولهم، واستباقه بخطوة إلى أمام..  وقد قال أجدانا القدماء إن الشاعر يوحى إليه من الجن التي تجتبيه من بين البشر، وتلهمه الهيام والجنون، أو تهبه الروح الشقية واليافعة في السلوك وفي التفكير، وبهذا المعنى فالكاتب إنسان مختلف عن العوام يجد نفسه مهموماً بالوجود وأسئلة الوجود، وقد يجيد التعبير عن هذا الهم بالكتابة أو الفنون التعبيرية الأخرى من أجل تبديل السيئ بالحسن سواء في نفسه أو العالم من حوله، حتى إذا ما أمتلك الكاتب مثل هذه الإيمان بقوة سلاحه، ستأتي بعد هذه الخطوة خطوات مهنية أو إحترافية أصبحت ضرورة من ضرورات التجويد في أي عمل من الأعمال. ولكن مما يؤسف له إن هذه الخطوات مرتبكة عندنا، ولا تخضع لشروط العرض والطلب، لأننا نعيش في عالم مغيب ضيع المشيتين، كما يقال، وهيهات أن يصل إلى ما وصل إليه العالم المتحضر من إحترام لجهد ومكانة المؤلف، فلا هو رأسمالي يخضع لقوانين السوق والعرض والطلب، ولا هو اشتراكي يحظى بدعم مؤسسات الدولة، مما جعل الكتابة بالنسبة للكتاب العرب عبارة عن جهد فردي بحت يقوم به الكاتب بنفسه، منذ أول فكرة تطرأ على باله، وحتى صدور الكتاب وتمويله وإخراجه واختيار غلافه، بل إن الكاتب قد يضطر إلى أن يساهم في الترويج عنه في وسائل الإعلام،  وذلك لغياب أي جهة تقوم بهذه المهمة، سواء من قبل ناشر الكتاب أو الوكيل الأدبي الذي بدونه لا يمكن للكاتب أن يشق طريقه نحو الشهرة والتألق في الغرب. ولا تزال هذه التسهيلات بعيدة كل البعد عن نشاط التأليف والنشر عندنا. وأنا متأكدة إن أي كاتب ناجح في الوطن العربي يخجل أن يقول بأنه لا يطبع أكثر من ألف نسخة لكل كتاب جديد يصدر له، وهذا الرقم  هو أقصى ما يمكن توزيعه للطبعة الواحدة، والتي إذا نفدت، فسيكون هناك طبعة جديدة بألف نسخة أخرى.. وهذا الحال البائس للكتاب في الوطن العربي أسبابه كثيرة في مقدمتها ضعف الإقبال على القراءة وضعف الإهتمام بها من قبل قنوات الاتصال الفضائية، والتي أصبحت تزيد من الجاهل تجهيلاً، ومن المعروف تعريفاً، فتراها تعيد وتزيد بأسماء مكررة ومستهلكة أغلبها لمن ينتمون إلى عالم الشهرة الفنية، سواء ذات الطابع الجاد أو التجاري.

* هل تقرئين النقد؟ أقصد عموم النقد من نظريات ومفاهيم؟ هل تشعرين بأهمية أن يواكب الروائي ما يصدر من نظريات نقدية جديدة؟

  •  لست من النوع الذي يهمل الجوانب التنظرية والمعرفية والتاريخية للفكر الإنساني، وأعرف الكثير ممن يجهرون بهذا القول ولا آنس لأمثالهم، لأن من لا يقرأ هذه النظريات أو يعرف عنها شيئاً هو كمن يطغى بعلمه على من يرسمون له معالم الطريق…….. ولكن مهما نبذنا القديم من أجل الجديد، فثمة ثوابت صالحة لكل زمان ومكان، ولهذا يكون إيماني بهذه الثوابت هو الذي يحدد ما أتأثر به من نظريات نقدية تطرح مفاهيم جديدة كالتلقي والتفكيك وماوراء القص.

* كيف تتصرفين ازاء ما ينشر من نقد يخص كتاباتك؟

  • هناك دراسات نقدية أفادتني كثيراً في تأشير مواطن الاختلاف في كتاباتي، وجعلتني أتأمل كيف ينظر لهذا المسار من زاوية أخرى. ومؤخراً مثلاً نشرت عدة قصص من مجموعتي الجديدة أقصى الحديقة، وهذه المجموعة فيها تلوينات على قماشة بدائية تتبنى خللاً ما في شخصيات القصة تجعلها تتعامل مع العالم على طريقتها الخاصة أو (الغشيمة) حيث لا تعرف كيف تدرك ما تريد، وإن أدركته سيبدو أضعف وأقل مما ينبغي أن يكون عليه بملايين المرات، ولكنه بالنسبة لهذه الشخصيات فهو مكتمل داخلياً لأنه بعيد عن الانطباع الذي يكَونه الآخرون. وقد نشرت بعض قصص المجموعة في الصحف، فكتب كل من الناقدين جاسم عاصي وشكيب كاظم عن قصتين منهما، وأشعلا إشارة خضراء حملت لي رسالة جيدة بأن تلك التجربة الجديدة قد وجدت من يلاقيها عند المنعطف .

* هل من الصحيح القول ان كتاباتك لا تعدو أن تكون نصاً واحداً يكرر نفسه في كل مرة بشكل جديد يختلف، كثيراً أو قليلاً، عن ذاك الذي سبقه؟

  • نعم.. هذه صحيح الى حد كبير.. النص يلبس ثوباً مختلفاً في كل تجربة جديدة، لكن الروح واحدة في كل مرة ولا تتغير إلا بحدود التجدد والتطور الذي يمليه تنفس هواء جديد  في عيد بهيج، وهذا المسار لم تمسه جوهرياً سوى روايتي الساخرة حفيد البي بي سي، والتي كانت مقصودة من أجل التهكم على واقعنا العربي وعلينا نحن نتاجه من أفراد وأحزاب وملل.

*هل حدث وإن شعرت بالفشل أمام محاولة التعبير عن موضوع معين؟

  • يحدث هذا مع التابوهات أو المحظورات التي تربينا عليها، والتي أجد من الصعب علي الخوض فيها بطريقة صريحة، فأحاول الالتفاف عليها بطريقة ما، ثم تقديمها بشكل موارب. ورب ضارة نافعة كما يقول المثل، لأن المباشرة في مثل هذه الثيمات يجعلها تقطع الخيط الرفيع بين تقديمها على أطراف الأصابع أو تحت حزمة ضوء ساطع.

* ما هو المعنى؟ هل بوسع الكتابة أن تمنح العالم معنى؟

  • المعنى أم فقدان المعنى؟ لا أرى هناك الكثير من الفرق بين الإثنين إذا ما عرفنا إن الأرض  ستتوقف عن الدوران إذا ما ارتطم بها أحد الأجرام الفضائية ذات التهديد المحتمل. أفترض إن المعنى موجود في الطرق التقليدية لصياغة المعنى.. أي في استمرارية الحياة من أجل الحياة ذاتها، ومن أجل تحسينها وتجميلها وتوسيع خيارات العيش الأفضل لكل الكائنات التي تعيش على كوكب الأرض والامتثال للروح الأمين بأن لا يعيث الحمقى في هذه الأرض مفسدين.. لاحظ كيف يكون الموت على مرمى حجر، ونحن نجعل من سقوط سن واحد قضية ما بعدها قضية، ومن ظهور الشيب أو التجاعيد محنة نبذل من أجلها الغالي والنفيس.. ولهذا فإن كل حداثة لا تتبنى المعنى التقليدي فاشلة، بل هي سلة نفايات تستطيع أن تجمع مليون( بعد) بعد (ما بعد الحداثة) ولكنها لن تستطيع أن تضع لك مكاناً مريحاً في هذه الحياة والتي لا نشعر بمعناها إلا من خلال لحظات الراحة أو الرخاء والسكينة بعد الجوع والتعب و الألم. لقد أدى تبني الحداثة والمبالغة فيها داخل فنون كالعمارة مثلاً إلى تدمير الشكل الرومانسي للبيت أو المبنى، وعندما أرى شارعاً ملظوماً بالعمارات الزجاجية الزرقاء الشاهقة في عاصمة من العواصم، أحمد الله إن بغداد لا زالت محتفظة بطابعها الأفقي الجميل والذي لا زال ينبض بالروح بالرغم من الخراب..  أما كيف تمنح الكتابة المعنى فمن الجهة نفسها يكون من المستحيل تماماً أن يكون المعنى نابعاً إلا من الحياة ذاتها والتي إذا تبخر ماؤها يجب أن تروى بماء جديد هو ماء المطر وليس ماء كوكب المريخ..

* ماذا تصورين في كتاباتك؟ واقعاً معاشاً بامكان القارئ التحقق من صدقيته ومطابقته لما يعيش؟ أم انك تتمثلين واقعاً غير “واقعي” يسكن مخيلتك فقط؟

  • أكتب في الجهتين.. أحياناً أتحمس للواقع كثيراً وأشعر بأني معنية بل مهمومة به وبتقديمه بالصورة التي يجب أن يكون عليها بعيداً عن الأحقاد والكراهية. وأحياناً أستخف به وأحلق فوقه قليلاً فأكتب في الفنطازيا أو الخيال الجامح او الغرائبي.. في الحالين هناك قاسم مشترك لا أستطيع التخلي عنه.. وهو التشبث الخفي ببساطة الحياة ونبذ المبالغات التي أصبحنا نعيش فيها سواء في العقيدة أو الأستهلاك أو التكنولوجيا أو سرعة الاتصالات عبر الأقمار الصناعية.

*هل تمتلك الرواية العراقية هوية سردية خاصة بها؟ وكيف للهوية السردية أن تتضح من خلال الكتابة الروائية؟

  • كلا… لا تمتلك الرواية العراقية هوية سردية خاصة بها كما هو الحال مع الرواية المصرية مثلاً، والتي تعكس روحاً جمعية تجدها اليوم متمثلة بقوة في الجموع التي تخرج إلى ميادين التحرير، بينما التغيير في العراق لا يكون دائماً عن طريق الجموع وإنما عن طريق الإنقلابات الفردية التي تعكس فردية الذات العراقية وإنطوائيتها وهيامها بنفسها عبر التاريخ. بالرغم من ذلك يمكن القول إن ثمة قواسم مشتركة بين الكتاب في العراق وهو النزوع إلى التأنق في اختيار المفردات وتوظيف الفلسفة والتاريخ داخل أعمالهم السردية.

*هل انت مع التدوين الايديولوجي الذي بدأ، منذ احتلال العراق، يظهر بقوة في عدد لا باس به من نصوص ما بعد الاحتلال؟

  • أنا مع نهاية الأيديلوجيات، وأكره التحزب لأية فكرة معينة حتى وإن كانت علمانية أو ليبرالية.. وأحاول أن لا أسفه فكرة الآخر أو عقيدة الآخر إذا كان مخلصاً في ايمانه بها.. ولهذا على الكاتب ان لا ينتمي لأية ايديولوجيا معينة لأنه سيضطر الى الدفاع عنها، ويفقد بذلك أهم صفات الكتاب وهي الحياد والنزاهة والموضوعية. والإعلامي وحده هو الذي ينحاز إلى تيار معين ضد تيار آخر ويعتبره مضاداً له، أما الكاتب الشاعر أو الروائي فهو ليس ضد أحد، وله العيون العالية التي ترى من بعيد، وتنظر بمزيد من العطف إلى كل المخلوقات الطيبة والشريرة.. وهذا النأي بالنفس أعني به التنزه عن إطلاق الاحكام على أحد، والحذر من النظرة الجاهزة أو المعلبة إلى الآخر باعتباره العدو أو المناوئ دون أخذ المقدمات بنظر الاعتبار. مع الأسف هذا حلم بعيد المنال، لأننا نعيش في عصر تحولت فيه حتى الفضائيات والإعلانات والأزياء إلى أيديولوجيات.

*هل تجدين عيبا في أن ينطلق الكاتب، في موضوعاته وتصوير شخصياته، من اشياء ومن نماذج يعرفها؟

_  ليس عيباً أن ينطلق الكاتب من نماذج يعرفها أو يلتقيها على الأرض. بل إن هذا سيمنح كتاباته الروح والنبض والحركة، وتعلم بأني قريبة جداً من الحياة والناس وأنقل الكثير من مشاهداتي إلى الورق، وأكثر ما ينبغي أن يقلق الكاتب في كل أعماله هو أن يقول ما لا يفعل.. يعني أن يضع كل سيئاته مثلاً في شخصية من الشخصيات، ويدع القراء يظنونها شيطاناً من الشياطين والكاتب هو الملاك .. كل إنسان يرى حدوده هي حدود العالم ولكن الكاتب يرى غير ذلك، بل وينظر لكل رأي أو عقيدة من وجهة نظر حيادية سمحة خالية من التعصب والكراهية .. ولهذا فأن الكتاية ترتدي ألف وجه ووجه، ولا يمكن أن تكون خادمة للأيديولوجيا ولن تكون .

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

حوار طفتوطؤي-ئيليان-لةطةلَ

طفتوطؤي ئيليان لةطةلَ ‘مةيسةلوون هاديي’ سازدان: سووريَن ئيبراهيم – ئيليان #تايبةت بة ئيليان ئيليان: لةضيرؤكي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *