أ د. نجم عبد الله كاظم
لا شك في أن الثورة المصرية الجبارة قد شغلت الدنيا منذ ان بدأتْ بإزالتها للنظام المصري برأسه الذي كاد يُسلّم بلده إلى المجهول وهو يتشبث بكرسيه بعناد شرسٍ وراءه ما وراءه إزاء عناد آخر شريف هو عناد الشعب المصري الذي قرر وأراد وصمد وحقّق كل قراراته وفرض إرادته الجبارة، التي امتدتْ بعد ذلك إلى مرسي قبل أن يسلّم هو الآخر مصر إلى نفق مخيف. ففي ظل ذلك العناد الشريف والصمود الجبار للشعب، كان من الطبيعي ان يهتف (مش حنرحل) ردّاً على دعوة قائد عسكري لهم لترك الميدان وهو يقول لهم “حافظوا على ما تبقّى من مصر، فهو البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي لم يتمزق”، ويعني بالطبع في عهد حسني مبارك. الحقيقة أن ذلك القائد كان محقاً في هذا، ففعلاً لم تتمزق مصر في زمن حسني مبارك كما تمزقت بلدان غيرها، ولكن فات القائد العسكري أن يتذكر دور مبارك في تمزيق تلك البلدان الأخرى التي يشير القائد إليها، مثل العراق والسودان ولبنان وفلسطين، وغيرها، وفاته ما فعله مبارك ببعض الشعوب العربيية التي وقعت ضحايا تحالفاته مع أمريكا والغرب وإسرائيل. فكما سهّل حربَي أمريكا على العراق وتسبب في تداعيات تلك الحربين على الشعب العراقي، معروف ما فعله حصاره لغزة وتشجيعه لحرب إسرائيل عليها، ولا نظنه ينكر تأييده لحرب إسرائيل على لبنان بحجج هي ليست إلا تبريرات لأمريكا وإسرائيل في أفعالهما الشنيعة. قد يقول البعض إنه في ذلك كله كان يستهدف أنظمةً وطغاةً، ولكن واقع الأمر يثبت غير ذلك. فخطته الكبيرة لبناء جدار حديدي بين مصر وغزة، ودون إنكار عبث حماس وحلفائها بالطبع، كانت فضيحة القرن الواحد والعشرين، وتأييده لحرب إسرائيل على لبنان غير مخفية على أحد. أما معاناة الشعب العراقي فربما هي قمة مآثره الجبارة. لقد آن الأوان لمبارك، مع انطلاق الثورة المصرية عام 2011، لأنْ يتجرّع الكأس التي أذاقها للشعوب وليس للأنظمة المستبدة، حين وأد جهود القادة العرب لاحتواء حماقة غزو الكويت، فطوى سجل الأزمة بيديه الآثمتين بقرار (قمة) لم يحصل على الإجماع، في سابقة ما عرفتها لا الجامعة العربية ولا مؤتمرات القمة العربية. وهو في ذلك أعطى الضوء الأخضر لأمريكا لضرب العراق ضربتها الرعناء التي استهدفت شعب العراق وأطفال العراق لا نظامه المستبدّ. ومن تداعيات الحصار على العراق التي قد لا يعرفها الإخوة العرب، انهيار الدينار العراقي وتراجع قيمة الراتب الشهري للموظف الحكومي إلى ما يعادل ثلاثة دولارات شهرياً مما قاد شعباً كاملاً إلى جوع ما عرفه في تاريخه، وأدّى إلى هجيج الملايين من العراقيين إلى أصقاع الدنيا بحثاً عن لقمة العيش الشريفة. هنا أتذكر رحلتي البرية المريرة، منتصف التسعينيات من بغداد إلى الجبل الأخضر في ليبيا التي كانت إحدى البلدان العربية الأربع الوحيدة التي فتحت أبوابها للعراقيين في مأساتهم إلى جانب الأردن واليمن والسودان ليجدوا لقمة العيش فيها، بينما لم يكتفِ نظام حسني مبارك في غلق أبواب بلده أمامهم، بل منع حتى مرور أي عراقي به. فبالعودة إلى رحلتنا المريرة تلك، أتذكر أننا فوجئنا، بعد عبورنا عبر البحر من العقبة الأردنية إلى نويبع المصرية، بأننا غير مسموح لنا بمس التراب المصري، حتى وإن كنّا عابرين له إلى بلد آخر، مع أننا، كما يعلم كل إنسان حينها، كنّا هاربين من أوضاع العراق وسلطة النظام العراقي الذي كان نظام مبارك يدّعي معاداته. والحقيقة أن مبارك كان يعادي الشعب العراقي معاداةً اكتشفتُ حينها أنّ ما من أحد من المصريين الطيّبين كان يعرف بها. وهكذا أركبتنا شرطة الحدود المصرية في حافلة ليأخذنا إلى الحدود المصرية الليبية، وكان علينا أن نقضي فيها حوالي ستٍّ وثلاثين ساعة دون الترجّل منها. لكننا كنا برفقة صول لم تسمح له طيبته المصرية العربية الأصيلة بأن يشترك، مع رئيسه، في حصارنا، فكان طوال الطريق يعتذر منا ويسمح لنا بالنزول في بعض المناطق على مسؤوليته لتناول الطعام أو قضاء الحاجة أو الاستراحة. خلال ذلك كان بعض المصريين الذين يُتاح لنا الالتقاء بهم ولم يكونوا بعرفون بأنه لم يكن مسموحاً لنا بمس تربة مصر، كانوا يُذهلون حين نخبرهم بذلك، بل أكاد أكون متأكداً بأن جل الأصدقاء والأحبة المصريين حتى اليوم لا يعرفون ذلك.واليوم، وأنا أسترجع تلك التجربة المريرة، وهي إحدت أقسى تجارب حياتي، يتمثل لي ذلك الصول الشريف الطيب رمزاً لكل الأصوات التي هدرت في ميدان التحرير. أما حسني مبارك الذي اشترك في تعذيبنا وتعذيب عرب كثيرين، فلم يستحق من شعبه غير كلمة (ارحل)، ولا يستحق منا اليوم غير أن نقول: غفر الله له.