الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً بلغ السن القانونية فتقاعد .. لما لامه على ذلك أحد.. ولما استدعت هذه الحالة الدهشة أو الاستغراب أو الإستهجان.. بل على العكس فإنَّ الأمر على هذا النحو يبدو في غاية الاعتيادية .. ومنطق الأشياء يفرض على أصحاب المهن التقليدية، والوظائف الرسمية في مقدمتها أن يبدأوا، حالما يقتربون من السن القانونية للتقاعد، عدَّهم التنازلي باتجاه ساعة الصفر التي تكون الحد الفاصل بين الحياة العملية المشدودة كخيط القوس وبين حياة أخرى قوامها الهدوء والطمأنينة والراحة والاسترخاء .أمّا اذا تجرأ البعض وتجاوز ساعة الصفر هذه أو تجاهلها متعمداً لكي يبقى يصول ويجول في ساحة الخدمة مستسلماً لسلطانها ومتشبثاً ببريقها الأخّاذ فإنَّهُ غالباً ما يسمع اللوم يوجَّه اليه، خفيةً وعلانية، لتهالكه على الوظيفة – إن كان موظَّفاً – أو لاستماتته في العمل – إن كان صاحب مهنة حُرّة – باعتبار أنَّ أية ساعة اضافية خارج حدود الشوط المقرَّر هي حركة استعراضية ليس لها داعٍ ما دامت الأهداف قد سُدِّدَت في المرمى وانتهت اللعبة بشوطيها ووقتها الضائع أيضًا.إلّا لعبة إسمها الكتابة.يتقدم العمر بالكاتب و تسلخ حياتهُ السنين في أوراقه خُلاصة تجاربه على الورق.. حتى اذا ما أبيَّضَ شعرهُ وملأت وجهه الغضون .. وظنَّهُ الناس قد بَلَغ السنّ القانونية للتقاعد.. يكون هو في واقع الحال قد بلَغَ أوج عطائه الثقافي وقمّة نُضجه الفكري والفني وتكون روحه في أزهى اخضرار لها وعقله مثل العُملة النادرة التي يعلو ثمنها كُلَّما تقادم عليها الزمن .وللكاتب أيضاً عدّهُ التنازلي .. ولكن ليس من أجل انتظار ساعة الصفر التي يتوقف فيها عن العمل، بل من أجل التوفر على الوقت اللازم لإنجاز كل المشاريع والأحلام التي تراوده فيما تبّقى من سِنيّ الحياة خشية أن لا يسعفهُ الوقت .وفي الوقت الذي تنتهي فيه عادةً، عند سن التقاعد، صراعات وأحلام وطموحات وتهدأ نفوس وأمزجة. لا تتوقف لدى الكاتب للحظة واحدة هذه الصراعات ولا هذه الأحلام أو الطموحات بل تبقى في توهج وغليان دائم من أجل تقديم الأفضل والأكثر بقاءً .ولا عجب أنَّنا غالباً ما نسمع الشيوخ من الكُتّاب وهم يتمنون لو يمتد بهم العمر الى الأمد الذي يتيح لهم إنجاز مخطوطات جديدة أو مشاريع مؤجَّلة . ولو امتد بهم العمر فعلاً لوُلِدَت بالتأكيد أحلام طازجة وطموحات جديدة. لأنَّ هذا هو المعنى الوحيد للحياة لدى الكاتب .. وبدون هذا المعنى لا يمكنه الاستمرار، فالكتابة ليست حرفة يدوية ولا مهارة مكتسبة يتخلّى عنها صاحبها متى ما سأم منها أو أدركهُ التعب .. ولكنَّها مزيج من فكر ولغة ينضج على نار السنين الهادئة فتطيب رائحته وتنتشر … وكلَّما مرت السنون أصبحَ الثمَرُ حُلواً وثميناً كالعقيق. الحلم الذي لا ينتهي أبداً .. ولا يعرف معنى للتقاعد.مجلة كل العرب.8- 10- 1986

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

فيروز التعويذة النادرة

ميسلون هادي لم يحدث في ظاهرات الفن العربي على مدى تاريخه أن أجمع وجدان المستمعين …