تشكلات البناء السردي في رواية دروب وحشية للناقد نجم عبد الله كاظم
أنفال_كاظم
جريدة اوروك العدد 10
8-3-2024
تعتبر رواية (دروب وحشية) للناقد الدكتور نجم عبدالله كاظم ، والصادرة عن دار وتر للطباعة والنشر _البصرة الطبعة ٢٠٢٢ ، هي تجربة لكتابة الرواية كما وصفها الناقد الدكتور نجم عبدالله كاظم(دروب وحشية هي الأولى والأخيرة ، كنت امارس كتابتها كي أعيش أجواء الكتابة الروائية وعملية كتابة الروائي لروايته ، كيف يفكر وبماذا يفكر وكيف تسير عملية البناء انطلاقاً من تخصصي في نقد هذا الفن) ، وقد كانت فريدة من نوعها فهي ذات وجهين احدهما يتمم الاخر بطريقة متكاملة تعكس واقع الشارع العراقي المعاش في حقبة زمنية لا يمكن نسيانها ، الا وهي حقبة الانتقال من النظام الملكي الى الجمهوري ، وما تضمنته من احداث ومفارقات وصفحات لا يمكن طيها بسهولة او اقصاؤها ببساطة من اجندات السياسة العربية ، ومن الذاكرة الجمعية للتاريخ السياسي العربي ، فهي رواية مكونة من نسيج اجتماعي وسياسي بأحداث مترابطة مأخوذة بجريرة بعضها البعض ، فقد كانت بمثابة سلسلة من الوقائع واسبابها والنتائج المترتبة عليها مثل ؛ حرب ١٩٦٧ ومأزق الانتماءات الحزبية الشيوعية والبعثية ، وازدياد التوتر بين مصر وإسرائيل و تنحي الرئيس المصري جمال عبد الناصر عن الحكم ، وإعلان العراق الحرب وإيقاف تصدير النفط للدول المساندة لإسرائيل آنذاك ، وما تبع ذلك من ردود فعل شعبية وجماهيرية ضجت بها شوارع العراق وازقة بغداد واروقة الجامعات ، تسلط هذه الرواية الضوء بشكل مكثف على مجموعة من طلبة الجامعات باعتبارهم المكون المجتمعي والسياسي الجوهري والضروري ، لقيام الأمم وبناء المجتمع وتشييد الدولة ، وهم الفتيل الذي بأشتعاله تندلع الحروب و تُنظم الثورات والتظاهرات الجماهيرية وتعم الإضرابات الطلابية المتوترة في ظل غياب الديمقراطية وتزعزع الأمن السياسي .شكل الروائي روايته بطريقة حافلة بالشخصيات الرئيسية والثانوية مثل (مازن ، وإسماعيل ، وفيصل ، ومجيد ،وناجي ، والهام ،وكريمة ،وسامية ، واحمد ،وايمان ،و جبار ، وجنات ، وسوسن ، ونجيبة و سمية ) وغيرها من الشخصيات التي تظهر بالتناوب استناداً لكل حدث وموقف ، اذ تربطها أواصر الصداقة والزمالة الدراسية والاخوة والحب في أحيان اخرى ، فقد كانت ( أي الشخصيات)تعيش في مكان اشبه ما يكون بساحة حرب او ربما بغابة تحكمها قوانين الغاب ، فهي اقرب ما تكون للدروب الموحشة المجردة من الرحمة والألفة والأمان ، اكثر من كونها حرم جامعي او مكان مخصص للدراسة فقط او مجرد بنايات لاقسام داخلية مخصصة لسكن الطلبة ، فهم كانوا في حالة كر وفر ومطاردة دؤوبة ومخاتلة مستمرة وتحدي مستميت مع افراد الأمن المدسوسين والمزروعين بين الطلبة لغرض التجسس والمراقبة متوسلين كل وسائل العنف ان استوجب الامر او تطلب الموقف، ومن هنا قد جاءت ربما فكرة عنونة الرواية (دروب وحشية) لما لها انعكاسات فكرية وانسجام روحي لفحوى الرواية التي انطلقت بمشهد مؤثر ، وهو ما لاحظه (مازن عبدالله) الشخصية الرئيسية التي وصفها غائب طعمة فرمان ( تقوم هذه الشخصية بدور رئيس، تكُّون قوة الأحداث وحركة الصراع مركزة عليها فهي نقطة ارتكاز البنية الروائية ومنها تنطلق الفعاليات المختلفة إذ يتجلى دورها في إثراء الحدث ونمو الفكرة وتداعيها)، عندما كان ماراً بأحد ازقة بغداد حين رآى مجموعة من الأطفال يتقافزون بفرح طاغ ونشوة وهم يرمون احجاراً بإتجاه قطة صغيرة مسكينة مدماة لا تقوى على الحراك فقدت أطرافها وهشمت عظامها، وما ان حاول من نهرهم وتخويفهم حتى فشل و بدأ بصد موجة الهجمات الموجهة له من قبلهم بالصراخ والحجارة ، كأنهم وحوش مفترسة وراح يهرول هارباً بدروب لم يكن يألفها من قبل وصولا الى أروقة الكلية التي كانت تضج بتيه واضطراب وارباك وتوتر سياسي اقسى مما اختبرته القطة لم يألفه هو بالذات وعلى مدار الأربعة سنوات ، فهو يعتبر السياسة شيئاً ثانوياً و الانتماء الحزبي بعيداً كل البعد عن تطلعاته ورغباته الهادئة ، لذا قرر الانزواء السياسي لانه لم يجد ما يتفق معه من اراء وأفكار وينبذ القسوة والحقد والانتقام والدم لكنه كان مواكباً لكل الاحداث من خلال مغامرات أصحابه الذين كانوا يخوضون اللعبة السياسية بسرية تامة و اندفاع وتهور منقطع النظير ، وتحديداً (إسماعيل) اكبر زملائه عمراً والذي عانى بسبب نشاطه السياسي وسجن احياناً خاصة في سنوات ١٩٦٣-١٩٦٥ ، وغيره من الاصحاب الذين بدورهم يشكلون الشخصيات الثانوية في الرواية فبعضها ذات أثر إيجابي والبعض الآخر ذات أثر سلبي تتباين في أدوارها وطبيعتها ومهمتها في دفع عملية التنامي السردي إلى الأمام، و تظهر وتختفي بالتتابع تبعاً لما يخدم الحدث والموقف ، وبما أن الشخصيات تعد من العناصر المهمة التي يعتمد عليها نجاح تناول الكاتب للشخصيات بشكل مميز من كل النواحي الاسياسية والاجتماعية ، وبزاوية رؤية ثلاثية الاتجاهات حيث يمكن من خلالها تنظيم العلاقات بذات الوتيرة بين الشخصيات الرئيسية والثانوية تبعاً للتابوهات الثلاثة (السياسةو الجنس والدين) وما تمخض عن ذلك من انعكاسات واضحة على بناء الاسر ومصائر افرادها ، على سبيل المثال عائلة مازن المؤلفة من ام واب وابنتان واخوين مازن واحمد ، والتي كانت تعاني من مشكلة جوهرية الا وهي قضية (أحمد) مع مشروع زواجه المجهض من (نجيبة) ابنة السيد علي المضمد ، الذي تحول الى قضية صراع وتحد امتدت اثارها الى كل حياته وعلاقاته وحتى سلوكه ومبادئه ، ودفعه للاستهتار والعبث بمشاعر (سمية) ابنة جيرانهم التي انقادت له بلا تفكير وانتهى بها المطاف بالانتحار وحرق نفسها عندما تقدم لخطبتها احد الشباب ، وعلاقة (مازن بإلهام) التي لم تكن واضحة بمشاعرها معه منذ البداية وأنهت مابينهما من قصة حب بكل قسوة تحت ذريعة العشائريات وابن خالتها، وارتأت ان يتحول ما بينهما من صداقة وكما ورد ضمن السرد (ولكن هل للصداقة والمحبة ان تستمر كما يستمر العداء والكره والقسوة والعنف؟ من يدري ؟ربما) ، مما دفع مازن لحظة ضعف وطيش ان يخوض مغامرة ماجنة منافية لمبادئة وقيمه مع من تكبره سناً (ام شاكر) التي كانت ثائرة وراغبة بالانتقام من زوجها الذي تزوج من امرأة ثانية ، تمخضت عن الكثير من المشاعر الإنسانية المتناقضة فلعل من يقرأها لأول مرة يشعر انها رواية سياسية بإمتياز وما ان يوغل في الصفحات اكثر يتوجه السرد نحو قضايا اجتماعية عديدة ، ولعل هذا ما جعل الرواية تفتقر للحبكة التي هي من اهم شروط بناء الرواية وتتحول الى اقرب مايكون (بالسرد) ، فقد كان أرسطو أول من أطلق على الحبكة (الجوهر الأول في المأساة وروحها ، والعناصر الأقل أهمية في نظره: الشخصية، واللغة، والفكرة، والمرئيات المسرحية، والأغنية) ، ويرى فلاديمير بروب وفيكتور شكلوفسكي (أن لكل عمل روائي متن حكائي ومبنى حكائي ، فالمتن الحكائي هو مجموعة الأحداث الخيالية المرتبطة معا في العمل، أما المبنى الحكائي فهو طريقة نقل معلومات وتفاصيل المتن الحكائي إلى القارئ، وهما يشكلان معا الحبكة) ، التي تمثل ترتيب الحوادث داخل السرد ولكل حدث داخل الرواية حبكة مصغرة ، وكما وصفتها الدكتورة نهضة الشريفي (هي الحبكة التي تقوم على حوادث مترابطة يأخذ بعضها برقاب بعض وتمضي في نسق واحد وخط مستقيم حتى تبلغ مستقرها)، ويظل السؤال المحوري المُحير والمتعلق بحجم الدور الذي تلعبه السببية في ربط الأحداث وإن لم تكن السببية … اين هي الحبكة ؟ ، اما فيما يخص اللغة فعلى الرغم من إن اللغة في الرواية ليست الهدف الجوهري من الرواية الا انها مهمة ايضاً وعليها ان تتشكل وفق مقتضيات السرد ، وقد استخدم الدكتور نجم عبد الله كاظم اللغة العربية الفصيحة البسيطة في سرده لاحداث روايته حتى الجمل الحوارية كتبها باللغة العربية الفصيحة ، واكد على ضرورة ان يكون الحوار كيان مستقل يحمل آراء الشخوص ومعتقداتهم ونظرتهم للحياة ، ومن الجدير بالذكر ان الروائي قد تعامل مع شخصياته سواء ان كانت الرئيسية او الثانوية تعاملاً نفسياً وتحليلاً اكثر من كونها أداة يجب الاشتغال على ابعادها الخارجية والداخلية بذات الوقت ، مما منح الرواية روحية الرواية التحليلية في الكثير من الأحيان ،وكما ذكر احمد هيكل (الرواية التحليلية يقصد بها الرواية التي يبرز فيها جانب التحليل النفسي حتى يكاد يطغى على بقية العناصر).
واخيراً ان رواية ( دروب وحشية) هي تجربة فكرية ونفسية رائعة تحمل بين ثناياها الكثير من وجهات النظر السياسية والاجتماعية تحديداً في الحقبة الزمانية والفسحة المكانية المحددة من قبل الروائي داخل العراق الا وهي حقبة الستينيات وما ترتب عليها من احداث عامة سياسية وماتلاها وترتب عليها من احداث للشخصيات الرئيسية والثانوية والتي انتهت نهايات مفتوحة.