فيروز التعويذة النادرة

ميسلون هادي

لم يحدث في ظاهرات الفن العربي على مدى تاريخه أن أجمع وجدان المستمعين على صوت وتفاعل معه على نحو بياني متصاعد ومديد مثلما حدث مع فيروز و اغاني فيروز، هذه الحالة النادرة التي منحت المستمع العربي في كلِّ مكان احساساً طازجاً ودائماً بالحلمية كانت مختلفة عن ظواهر أخرى زامنتها وانتشرت كانتشارها كظاهرة أم كلثوم وظاهرة عبد الحليم حافظ وظاهرة فريد الأطرش ليس بالاختلاف الذي يمليه الطابع المميَّز لكلِّ مُطرب وحسب وإنَّما مختلفة بمذاقها الفكري الخاص وطقسها الروحي النادر .
إنَّ نجاح اغاني فيروز، في وجه من وجوهه، يعود إلى كونها تتعامل مع حالات الوجدان المختلفة بالكلمة المثقَّفة قبل اللحن المثقَّف والصوت المثقَّف، وبتلك الأشياء مجتمعةً استطاعت فيروز أن تحقِّق المعادلة الصعبة في الجمع بين رفعة الفكر وشعبية التوصيل، وإذا قلنا أنَّ موضوعات أغاني فيروز قد لمست في قلب كل مستمع ذكرى معينة، فتلك مُسَلَّمة بديهية في نجاح أية أغنية، إلا أنَّ ذلك اللمس يصاحبه لملمة الموضوع ليبدو خاصاً، وهذه هي التعويذة التي تطبع أغاني فيروز بسحر خاص، لكل مستمع على حدة، بل حتى موضوعة المـ وت، التي نادراً ما يطرقها الغناء تحولت على يدها، والرحابنة طبعاً، إلى أغانٍ عذبة رفيعة المستوى لاتملّها الأذن، ولا يستغربها الذوق، بل على العكس يهفو لها بشوق متزايد هو نفس الشوق الذي يرتبط بتلك الأغاني التي تتحدث عن الحياة.
فيروز لم تجمع المستمعين في أرجاء الوطن العربي على الحب فقط وإنَّما جمعتهم على السلام ايضاً ففي أواخر شهر أيلول لهذا العام غنَّت فيروز في ساحة الشهداء وسط بيروت و أمام (٤٠) ألف متفرج أول حفل لها في لبنان بعد (۱۹) عاماً على بداية الحرب الأهلية عام ١٩٧٥، غنَّت فيروز برداء أبيض والدموع في عينيها على مسرح قد أُعِدَّ في ذات الخط الذي فصل بين شطري بيروت الشرقية والغربية طيلة أيام الحرب الأهلية الستة عشرة.

وقال أحد حضور الحفل الذي استمر ساعتين وهو يشير الى مركز قاعدته العسكرية السابق الذي يبعد حوالي مئتي متر عن المسرح المتلألى بأضوية الليزر أنَّ كل ما كان يمكن أن تجده هنا في الماضي هو الخنادق والألغام وجثث القتلى متناثرة هنا وهناك .. هكذا تكون فيروز رمزاً للحب والأمل والسلام دائماً و في كل مكان تحل به تثير أشجان المغتربين للعودة إلى بلادهم عندما تغني :(سنرجع يوماً إلى حيِّنا ،نسَّمَ علينا الهوى من مفرق الوادي.. وبعدك على بالي ) وفوق أنقاض الحرب وقفت هذه المرة لتردد اغنية للسلام مثلما رددت وستردد دائماً أغنية للحياة وسط أنقاض الفناء
التعويذة النادرة
مجلة ألف باء ،العدد:١٣٦٤
١٣-جمادى الآخرة-١٤١٥ه‍
١٦-تشرين الثاني -١٩٩٤
صفحة:٢٦

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

مشاركتي في ملف القصة القصيرة لمجلة الأقلام

ميسلون هاديشخصيات القصة القصيرة تكاد تكون جاهزة. لا نعرف شيئاً عن تاريخها، أو تطورها إلى …