ظهر السمكة.. ذروة الطوفان التي غسلت أدران البشر
ميسلون هادي
يقول أكثر من روائي إن الصفحة الأولى مهمة جداً لجذب القارئ للرواية، وذهب البعض الآخر للقول إنها هي التي تجعل القارئ ينجذب للرواية، أو يقع في غرامها على الفور، ويبدو أن الصفحة الأولى من هذه الرواية(ظهر السمكة) للشاعر حميد قاسم، كانت تنص على هذه الفرضية، فجاءت مشوقة يتساءل فيها الروائي منذ البداية، كيف سيكتب روايته؟، وهل سيستعمل فيها مصطلحات غامضة، كالعزلة الكونية، تستهوي القارئ، فيقول لنفسه كيف يستعملها الكاتب، مالم يكن ذكيا وبارعا ومكتنزاً بالمعرفة والعبقرية؟ !
ولكن الكاتب يعيش في العراق، ويتنقل بين أزمانه العصيبة والمؤلمة، فهل يروي حكاية من حكايات أبيه المؤثرة التي انبهر بها في طفولته؟، هل تكون الرواية عما حدث خلال فترة تشرين وعزلة كورونا، وما حدث خلالها من اغتيال للرموز الناشطة في حراك تشرين؟، هل يتتبع الراوي أولئك المنفذين، ويعرف ردود أفعالهم، بعد أن عادوا لبيوتهم، وكأن شيئاً لم يكن؟. سيتنقل من فكرة لأخرى، ثم يقرر العودة إلى العام 1982، وتحديداً في قطاع 42، بمدينة الثورة، حيث جاؤوا بابن عمته شهيداً من معركة شرق البصرة. ومن هنا تبدأ وتنتهي حكاية العراق، فيحسم أمره، ويتذكر دفتراً قديماً لرفيقه في الحرب سليم غانم سلطان، ويقرر أن ينتحل هذا الدفتر الذي قُتل صاحبه سليم، دون أن يستطيع الراوي إيصاله لأهله.
لقد أخبرنا الراوي منذ البداية أن الرواية عبارة عن مجموعة حيل، وهذه إذن هي الحيلة التي سيدأ بها الشاعر روايته، اي انتحال دفتر مذكرات لا يعود له، فيبدأ كتابة الرواية، التي هي حلم قديم بالنسبة له، وسيضع تلك الأوراق أمامنا بعد 34 عاماً على مقتل صاحبها. ومقتل باقي الشهود، ماعدا الناجي الوحيد الذي يروي الحكاية.
لدى المفكر عبد الفتاح كيليطو مبحث كامل عن هذه الحيلة في كتابه (الأدب والارتياب)، إذ يعتبر كيليطو المؤلف، كيفما كان شأنه، هو محل ريبة صريحة أو غامضة… ويقول إنه إذا سلمنا بأن القارئ عدو، فالنتيجة الحتمية أن كل كاتب في وضعية شهرزاد، وكل قارئ في وضعية شهريار، ولهذا قيل: (لا يزال المرء في فسحة من أمره ما لم يقل شعراً أو يؤلف كتابا).
يقول عبد الفتاح كيليطو أيضاً: بصفة عامة كان المؤلفون العرب يعلنون في مستهل مصنفاتهم أنهم كتبوا تلبية لطلب أو أمر صادر عن جهة ما، سواء في كليلة ودمنة، أو مقامات الهمذاني، أو في ألف ليلة وليلة، وكأنهم، كشهرزاد، بحاجة ماسة الى ترخيص حجة أو عمدة أو شخص ذي سلطة. فلا تأخذ شهرزاد (الليالي) على عاتقها، وإنما تنسبها الى مؤلف غير مسمى، وتستهلها بهذه العبارة “بلغني أيها الملك السعيد”، وقد يكون مردّ هذا السلوك إلى التواضع أو الحذر أو الرغبة في إعلاء شأن الكتاب.
إذن سينتحل الراوي تلك الأوراق لرفيقه سليم غانم، فنجول معه في وحشة الجبهات وقسوتها وذكوريتها. وكيف تكون إجازة أسبوع واحد هي الفرصة الوحيدة للتخلص من فكرة الموت الذي يحيط بهم في منطقة تقع عند أقدام جبل سي سر، بين المواضع الملآى بالصفائح والجنود والخوذ والقذائق والدخان والعتاد وقنابر الهاون والجرذان التي تشاركههم أرزاقهم الجافة.
ستحدث ذروة الرواية بعد أيام من طوفان المطر حولهم، في تلة الراقم الذي يدعى بشت ماهي، ويعني بالعربية ظهر السمكة.. وهي الذروة التي حولت مشهداً من مشاهد الحرب إلى لحظة إنسانية مؤثرة.. فمع كل سنتمتر يرتفع من الماء كانت هناك مشكلة.. ومع كل سنتمتر ينخفض كانت هناك مشكلة.. ولا أستطيع أن أقول أكثر من ذلك. لأن هنا تكمن لحظة التوتر في الرواية. والتي عبّر عنها سليم (صاحب المذكرات) في حواره مع عدوه (الافتراضي)، قائلاً: هل يعقل أنك عدوي، هل أمضينا سبع سنوات يتربص بالآخر ليقتله، فيما كنا نقرأ الكتاب نفسه طيلة سنوات؟!
هذه الرواية المهمة قدمت الوجه الآخر للحرب بصورة مؤثرة، وعندما تصل إلى لحظة غسل أدرانها، فقد وجدتُ أن الراوي يتوسع في الاسترسال بذكرياته حتى أثناء تلك اللحظة، وكان يمكن لهذا الإسترسال أن يكون قبل تلك اللحظة لا بعدها.. ولكن هذا ما رآه الشاعر الروائي يجب أن يحدث على ظهر السمكة، لمن كان ينظر لحياته كلها من بعيد.
شاهد أيضاً
النصف الآخر للقمر
ميسلون هادي القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا صغيرة، لأنها انشغلت بالصور المتلاحقة …