وقفات قصيرة جداً
عند روايات قرأتها
الرعب والرجال: يحيى جواد
بعد خمسة عقود من العيش وسط عوالم متخيّلة دارت فيها أحداث المئات من الروايات التي قرأتها، بدءاً بأول رواية وكانت “حمار الحكيم” لتوفيق الحكيم، بدأتُ سلسلة وقفات قصيرة مستلةً من كتاباتي المنشورة وغير المنشورة أو ملاحظاتي التي درجت على تسجيلها في المئات من البطاقات عن تلك الروايات. وستكون غالبية وقفاتي وليست كلّها عند روايات عراقية. وقفتي اليوم عند رواية “الرعب والرجال” القصيرة (1978)، للفنان والقاص يحيى جواد (بغداد، 1928-1988).
يحي جواد فنان نحت وتشكيل عراقي معروف، وهو أيضاً قاص بدأ النشر مبكراً حين نشر أول قصة قصيرة وهو في الثامنة عشرة من عمره، لكنه بقي مقلاً جداً نشراً لا كتابةً. وقد أُصيب مبكراً أيضاً، وتحديداً وهو دون الأربعين من عمره، بمرض أقعده مشلولاً لا يحرك إلا واحدة من يديه وبصعوبة، وأحياناً ثلاثة أصابع منها فقط، حتى وفاته سنة 1988. مجموعته القصصية الوحيدة “الرعب والرجال” ضمّت، على الأقل من حيث الطول، ثلاث رويات قصيرة، وقصة طويلة واحدة وقصة قصيرة واحدة.
لعل التجربة الخاصة، المتجسدة أمامنا في قسوة المعاناة الذاتية… والظروف الحياتية الصعبة المرافقة، ولاسيما في ما فعلته في القاص رجولياً- إن صح التعبير- وفي النتيجة الحتمية نفسياً، هي العامل الأول والأساس في أن جاءت القصص الخمس التي ضمتها المجموعة [وضمنها القصة الطويلة أو الرواية القصيرة التي تأتي وقفتنا القصيرة جداً عندها] مرتبطة ببعضها بخط تستطيع أن تحسه بسهولة، ولعلنا نستطيع أن نعبر عنه بـ(الحساسية المفرطة والدقيقة) تجاه كل شيء، والتي من الواضح أنها كانت وراء أن كان الكاتب في هذه القصص راصداً لك ما هو محسوس وغير محسوس بنفس مرهفة. وهو، في ذلك، يستدرجك إلى عالم قصته بسهولة تكاد معها لا تشعر به إلا وأنت قد صرت داخل هذا العالم. بعبارة أخرى، وأنت تقرأ أيّاً من قصصه لا تستطيع إلا أن تكون معه أو مع أبطاله في عوالمهم ومعاناتهم، فتشعر بالضجر حين يضجرون، والحب حين يحبون، وبسعادة الحب حين يحسونها- وعلى أية حال نادراً ما تتحقق مثل هذه السعادة لهم- وبالخوف أو التوتر أو الراحة حين يخافون أو يتوترون أو يرتاحون. كل ذلك يكشف عن أن يحيى جواد حين يتعامل مع الكتابة، فإنه ينطلق من تلك النفس المتحسسة والمعانية التي تتفاعل داخلياً، وبمعزل عن العالم من حولها غالباً، بشكل يدفع بكل خوالجه لتتجسد هي نفسها عملاً فنياً، يقدمها من خلال أساليب فنية تبدو وكأنها تفرض نفسها على كتابته متناسبةً مع الموضوع والأحاسيس، سرداً ومونتاجاً وحواراً وتقنيات مختلفة.” من ورقتي البحثية الممنشورة “الرعب الكافكوي في قصص يحيى جواد”.
“وظهرت الحشرة.. ظهرت جاثمة تحت وهج ضوء القمر، وكأنها مجموعة ثآليل عملاقة يكسو رؤوسها شعر خشن غليظ كامد اللون.. بدت وكأنها محاطة بخيوط وزوائد تتشعب من كل جانب من جوانبها. ومن جزء واطئ من جسدها الطويل تمتد ذؤبتان مخروطيتان حادتان، شبيهتان بنابَي أفعى أو بساقَي فرجال منفرجتين… بدت وكأنها تتحسس وتتربص وتدرس مواقعها بحذر وحيطة… ثم اختلجت وأخذت ترتفع عن سطح الجدار شيئاً فشيئاً، ومع ارتفاعها كانت الظلال العميقة من تحتها تمتد وتنتشر وتتطاول.” من قصة “الرعب والرجال” القصيرة، ضمن مجموعة “الرعب والرجال” ليحيى جواد.