وقفات قصيرة جداً
عند روايات قرأتها
مكابدات عبدالله العاشق: عبد الخالق الركابي
بعد خمسة عقود من العيش وسط عوالم متخيّلة دارت فيها أحداث المئات من الروايات التي قرأتها، بدءاً بأول رواية وكانت “حمار الحكيم” لتوفيق الحكيم، عام 1967، بدأتُ سلسلة وقفات قصيرة مستلةً من كتاباتي المنشورة وغير المنشورة أو ملاحظاتي التي درجت على تسجيلها في المئات من البطاقات عن تلك الروايات. وهي وفقات بسيطة ولا أدّعي أنها نقدية، خصوصاً أن بعضها قد يعود إلى بداية العشرينيات من عمري، وغالبيتها وليست كلّها ستكون عند روايات عراقية. وقفتي اليوم عند رواية “مكابدات عبدالله العاشق”(1982)، لعبد الخالق الركابي (واسط/ 1946).
لا خلاف حول أن عبد الخالق الركابي هو أحد أهم الروائيين العراقيين، ولاسيما خلال المدة الممتدة من العقد التاسع من القرن االسابق إلى الوقت الحاضر. حصل الركابي هذا العام على جائزة العويس الرفيعة، في مجال (القصة والرواية والمسرحية)، وهي الجائزة التي أعتبرُها شخصياً أرفع وأهم جائزة أدبية عربية، حتى وإنْ لم تكن الأعلى قيمةً ماديةً.
مع ما أحسه شخصياً من تجاوز الروائي عبد الخالق الركابي، في اعتزازه برواياته، لرواية “مكابدات عبدالله العاشق”، مما أراه خطأً يرتكبه الكاتب، كما يرتكبه بعض النقاد بحقها، والسبب بظني هو حضور الحرب هامشياً فيها في وقت صار هذا الموضوع سبة عند الكثيرين، فهي عندي الأجمل بين رواياته، إلى جانب “الراووق”، بل كم أتمنى أن تكون جميع كتابات الكاتب على شاكلتها أسلوباً ولغةً وبناءً وتقنيات. “وإذا لم تكن الرواية لتشكل بروزا استثنائيا في مسيرة الرواية في العراق، فإنها تدخل بسهولة خانة الأعمال الروائية ذوات الخصوصية في المعالجة، شأنها في ذلك شأن أعمال روائية عراقية مثل “الوجه الاخر” لفؤاد التكرلي، و”النخلة والجيران” و”خمسة اصوات” لغائب طعمة فرمان، و”السفينة” لجبرا إبراهيم جبرا، و”الوشم” لعبد الرحمن مجيدى الربيعي وغيرها”. من كتابي “هذا الجانب من مكان صاخب”.
“كان الحديد الصقيل يومض بشكل لا يحتمل. لكنها لم يطرف لها جفن، إنما حدّقت في ذلك الخنجر المسلّط بين عينيها.. حدّقتْ فيه بشدة حتى انحرف سواد عينيها نحو منبت أنفها، وبعد محاولة يائسة للخلاص شمرت بغته بيدها الطليقة الشال عن صدرها… وكان الدم يدق في صدقيه، والشمس تلسع جانب وجهه بشكل لا يطاق. وهبطت يده بالخنجر.. هبطت به.. حتى رسم الطرف المرهف نقرة معتمة في إشراقة اللحم المكشوف للشمس. كانت النقرة تعمق عندما تشهق لتتلاشى عندما تزفر. وشعر بارتجافه لحمها المنتفض من خلال مقبض الخنجر المستكين بين أصابعه المخضلة بالعرق. وكانت قد أغمضت عينيها باستسلام تام، فشد على الخنجر قليلاً. ومن تحت النصل المرهف انبجس دم قانٍ تلوّى ببطء، عبر ذلك الأخدود الظليل. ولم تتحرك (نرجس).. فقط زوّت حاجبيها ورفّت أجفانها المغمضة.. وكان الزغب الناعم المنتشر على صدرها قد وقف بوضوح تحت وهج الشمس”. من رواية “مكابدات عبدالله العاشق” لعبد الخالق الركابي.