وقفة مع قصص للقاص العُماني
محمد سيف الرحبي
د. نجم عبدالله كاظم
لعلي أكرر ما يقال في مثل هكذا مناسبات إذ أقول إن هذا الذي أقدمه هنا إن هو إلاّ قراءة أواستقراءً مكثّفاً– لا تفصيلياً– يقترب من أن نصفه بالوقفة القصيرة أكثر منه القراءة التحليلية لثلاث من قصص القاص العماني محمد سيف الحربي قرأناها واستمعنا إليه وهو يقرأها في أحد المنتديات. ونحن هنا إنما نجمل رأياً هو نتاج الصدى الأول الذي يتركه فينا أي عمل أدبي نقرأه أو نسمعه لمرة، ويترافق مع هذا وربما يتلاءم معه أننا نتبنى في كتاباتنا النقدية عادة نظريات القراءة والتلقي، وإن كنا ميالين عادة أيضاً إلى أن لا نكون حرفيين جداً في ذلك. وإذا كان للقصة وللنص الأدبي عموماً ، كما يقول أحد النقاد، أن تتحاور مع القارئ أو بالأحرى أن تتقبل تحاوره معها للوصول إلى المعنى الذي لا تعترف بعض مدارس النقد الحديث ومناهجه بوجوده في النص بمعزل عن هذا القارئ، فإننا في الواقع نجد هذه النماذج القصصية تقدم نفسها نصوصاً غير ذوات معانٍ جاهزة، بل هي تتجاوز هذه الجاهزية وتنطوي ضمناً على تقدير للقارئ والتلقي. وهكذا لا بدّ فعلاً من استقراءٍ ومحاورةٍ وتشغيلٍ لبعض ما في نفوسنا ووعينا ولا وعينا لصناعة معنى العمل الأدبي، وهو المعنى الذي من هنا لا بد أن يتعدد بتعددنا نحن القراء أو– لو أُتيح لنا– بتعدد قراءات الواحد منا. القصص التي نحن بصدد تناولها هي:
“قال الحاوي”
و”الأفكار التي تراود حامليها”
و”عمامتان للشيخ والأخرى للغريب”
تشاء صدفة أن يكون محمد سيف الحبي أول قاص عماني أقرأ له، وكان ذلك من خلال قصة له بعنوان “شفاء المقابر” نُشرت له في أحد أعداد مجلة “نزوى” العمانية في سنة 1997. وعززت علاقتي الأدبية بالقاص صدفة ثانية، حين شكّلت قصة له بعنوان “الراعي لا يحب النساء” بداية أول موضوع نقدي أقرأه عن القصة العمانية، وكان الموضوع عبارة عن حلقة ضمن حلقات عن القصة العمانية كتبها الدكتور عبد الواحد لؤلؤة في جريدة “الزمان” اللندنية في سنة 1999. وتأتي اليوم صدفة ثالثة إذ يكون هذا القاص هو أول من نستمع له ضمن الجلسة القصصية التي قُدمت في سوق صحار الأدبي 2004. وها نحن نعزز هذه الصدف الطريفة لا بصدفة أخرى بل بواعي منا بأهمية هذا القاص في القصة العمانية.
عرفنا القاص الرحبي من قبل، كما عرفنا القاصين العمانيين عموماً وخاصة الجيل المؤسس والجيل الذي تلاه، معنياً كثيراً بالبيئة المحلية، لكن القاص هنا يسجل مغادرة من نوع خاص لهذه البيئة، فهو إذ يغادرها بوصفها موضوعاً أو موضوعات لقصصه فإنه لا يستطيع أو لا يريد أن يفلت منها، لتبقى على ما يبدو همّاً ذاتياً لا فكاك منه، وعلى أية حال ليس للعمل الأدبي، وخاصة القصة إلاّ أن يعنى بالبيئة المحلية أو تنطلق منها بشكل أو بآخر. وتعلقاً بالذات لا أظن غريباً أن ينطلق الأديب في تعامله مع موضوعاته وأفكاره من الذات، حتى وإن لم تكن في حقيقتها من تجارب القاص أو الأديب فعلاً، ولكن قاصاً يبدو وكأنه عاش موضاعاته تجارب ذاتية فعلاً، مع أنه لم يحبس نفسه في التجربة الذاتية، بل هو ينطلق في فضاء الفكر المتحرر من ذلك.
ونعود لنقول إن القاص إذن حين غادر البيئة موضوعاً بقي مسلّما بحضورها وزخمها الفاعل فيه وفي ما يكتب، خصوصاً وهو حين فعل ذلك إنما غادرها إلى دواخل الإنسان عبر الفكر والأفكار التي يريد أن يعنى بها فيقولب هموم هذا الإنسان وتداعياته وانشغالاته. لكن هذه التداعيات والاشغالاته كانت بما من حوله وبما يمارَس عليه من ضغوط، هي ضغوط الحياة والبيئة والنظم المختلفة، الدينية والاجتماعية السياسية والثقافية التي كثيراً ما تتحول إلى سيوف مسلطة على الفرد لتجبره على إطاعتها غير معترفة بإرادة هذا الفرد ورغباته وحاجاته الإنسانية الحياتية والعاطفية والغريزية. وهكذا انطلاقاً من هذا أو بسببه يكون الانفصام ما بين بطل القاص فرداً والمجتمع حامل هذه السيوف، وبين هذا البطل محكوماً والحاكم، وبينه منتمياً بالولادة، أي قبل العقل والوعي، وما ينتمي إليهم وإليها من أناس ودين ونظم. وكل ذلك يكون خصوصاً حين يُدفع هذا الطل– الإنسان إلى أن يعيش كما يُراد له يعيش، ويرى ما يُراد له أن يرى وعبر منظار مفروض عليه لا منظاره:
“وحين سمع كبير العلماء ما سمع، صحح أقواله وأضاف إليها من الأدلة ما أضاف، وقال إنه لم يتبين الأمر في الصحيحين وقرأهما ناسياً وضع النظارة الجديدة، وأفتى عالم آخر بوجوب وضعها على عيني الحي والميت سوء بسواء”– قصة “وقال الحاوي”.
والأمر يتعدى في قمعيته وظلمه واعتدائه على خصوصية الإنسان وذاتيته وحقوقه، وإنسانيته، لتصير حتى ممارسة الإنسان الفرد للتفكير والسلوك والفعل انطلاقاً من ذاته ومن رؤيته هو (كبيرةً) من الكبائر لا يُسامَح عليها صاحبها، بل أن الفرد يفقد في مجتمع القمع وسلب الإرادة، كما هو في القصة السابقة، حتى حق التساؤل وإبداء الرأي. ولعل هذه القصة زيادةً في تأكيد حالة الانفصام بين الفرد والآخر أناساً وسلطة ونظماً تسمّي بطلها “غريباً”، فللغريب بالطبع دلالته الواضحة تعلقاً بحالات انفصام الفرد واستلابه واغترابه..
“ولأنه غريب اعتقدوا في عقله لوثة كي يرى ما يرون، فكذبوا دعواه، واستشاط الجميع غضباً من هذا الذي يسفه معتقداتهم، وأشار رجل منهم أن احملوه إلى كبيرنا المستوي على الكرسي”– القصة.
بل إن الأمر عند القاص يتعدى هذا إلى فرض حتى ما يجب على الإنسان التفكير به، أو الكيفية التي يفكر بها، كما تقول لنا قصة “الأفكار فد تراود حامليها” مثلاً. إن إنسان الرحبي عموماً يعيش مرة أخرى ونتيجة لذلك حالة هي أقرب إلى الانفصام منها إلى الحالة السوية، وهو يعبر عنه بشكل جلي وربما مباشر أو صريح في هذا القصة، كما يعبر عن نفسه بالفعل لا بالفكر في قصة “عمامتان.. واحدة للشيخ والأخرى للغريب”، بينما هو يتغلف بأسلوب السخرية الجميل في قصة “وقال الحاوي”. إن بطل “الأفكار التي تحاور حامليها” يتحول، كما يتحول كل شيء في عالم القصة، إلى فكرة.. مجرد فكرة، “أصدر الرئيس قراره: “سنعاقبك وسنحولك فكرة” – القصة. هذا التحول أو التحويل إنما يعبر عن استلاب الإنسان في بيئة أو عالم فرض عليه أن يسلم بالممنوعات والمسموحات– وما أكثر الممنوعات مقارنة بالمسموحات في حياتنا!– حتى بدون أن يفهم لماذا، وحتى حين تكون تلك الممنوعات تحديداً هي احتياجات إنسانية ولدت معه كما تولد مع كل إنسان. وإذ لا يكون غريباً أن يُفرض على الإنسان أمر أو قانون أو أي شيء آخر أو حتى أن يُطارد حين يدينه المجتمع أو القانون، فإن هذا الفرض أو المطاردة قد يكونان في قصص الرحبي أيضاً وبشكل أو بآخر من جنس ذلك الذي يمارس على الإنسان الفرد من قمع وظلم، كأن يكون الفعل الذي يفعله هذا الفرد ويستحق عليه العقاب أو المطاردة إنما هو مما فرضته عليه الظروف والمجتمع والقيم والعادات السائدة… كما يبدو أن قصة “عمامتان.. واحدة للشيخ والأخرى للغريب”.
إن سعي بطل الرحبي للإفلات من هذا كله، عبر الجدل أو الرفض أو المقاومة، لا ينجح عادة ولا يحقق له الخلاص، لكن ذلك لا يعني الاستسلام. وإذا كان التشخيص الأول بعدم النجاح يعني أن يؤشر رؤية سلبية لهذه المعضلة، فإن عدم تسليم البطل بشكل نهائي يشكل معادلاً يقلل من سلبية هذه الرؤية أو يلغيها، حتى حين يكون ذلك عبر عدم قناعة البطل أو تسليمه بما يُفرض عليه فقط.
إن الرحبي في هذه القصص إنما يعبر عن الهم الانساني، وخاصة من خلال الإنسان الذي نعرفه، الإنسان العربي، ولا أقول هنا العماني، حتى وإن وردت أسماء عمانية شعبية أو جغرافية أو غيرها، فهذه الأسماء لم ترد حين وردت برأينا إلا مقحمة أو على الأقل شكلية، ولا أجد في الواقع لهذه الألفاظ والتعبيرات ما تقدمه أكثر من الدلالة أوالمعنى المعروف والعادي لها. فلك أن ترفع مسقط أوصور مثلاً لتضع بدلاً منها الدوحة أو بغداد أو الإسكندرية أو غيرها من المدن العربية وربما الشرقية غير العربية ، وهكذا الأمر مع أجواء القرية والريف والأجواء الشعبية والبدوية والقبلية.. مع المسميات المختلفة:
“عرف الشيخ أنه [الغريب] أحد البانيان الذين يتنقلون بين مسقط وصور ونزوى للتجارة وأشياء أخرى”– القصة السابقة.
ما نريده من هذه الإشارة أو التشخيص هو أن هذه (المحلية) هي غير تلك التي عرفناها في قصص الكاتب القديمة وقصص الكُتّاب العمانيين عموماً. فهل هو التعلق بالمحلي، أم هو من شغف قديم، أم هو مما أبى إلا أن يدخل رغماً عنه في قصصه بعد أن أدمنه الكاتب؟ أياً كان الأمر تبقى القصة، كما قلنا معنية بالهم الإنساني أكثر منها بذلك كله، وخاصة من خلال أزمة الفرد المأزوم الذي انطلق منه الرحبي لتنبني عنده القصة في دواخل هذا الفرد، وكأني بالقاص يريد لنا أن ندخل وإياه هذه الدواخل، ومن خلال معايشة القارئ لهذه الدواخل وتمهاهيه معها وربما انصهارها فيه وانصهار همه هو فيها يكون المعنى الأدبي للقصة. وحتى حين يكون حضور الخارج أو البيئة أو الماحول فإنما يكون ذلك من خلال هذا الفرد المأزوم ودواخله، وكأن الخارج يأتي إلى دواخل الفرد وليس العكس. وفي ذلك كله وعبره تسعى القصص، أو على الأقل بعضها لتحقيق تاعلنا– إذا جاز لنا القول– مع بطلها المأزوم.