التعليم العالي وتجاوز السياقات الأكاديمية

هل من عهد جديد مع الوزير الجديد؟
التعليم العالي وتجاوز السياقات الأكاديمية

د. نجم عبدالله كاظم
أستاذ الأدب المقارن المتمرس
كلية الآداب – جامعة بغداد
( 1 )
بدايةً يجب أن أقول إني لست متفائلاً كثيراً للتعليم العالي في عهد الوزير الجديد، مع بقاء مسؤولي التعليم العالي رؤساءَ جامعاتٍ، إذ لم نرَ منهم ما يدفع هذا التعليم إلى الأمام. مع هذا، وفي ظل احتمال ضعيف في أن أكون على خطأ تأتي هذه المقالة. وحين أعبّر عن محدودية التفاؤلٍ، فإني أبداً لا أعني شخص الدكتور قصي السهيل تحديداً، بل لأنني وجل أساتذة التعليم العالي والأكاديميين قد كُوينا مرات ومرات من قبل. فبعد خروج العراق من عنق زجاجة الطائفية عام 2008، والبدء البطيء، ولكن الحثيث، للتعليم العالي في السير نحو التعافي ليدعونا إلى التفاؤل بمستقبل جديد، تولّى الأستاذ علي الأديب وزارة التعليم العالي، فكُوينا بقراراته ومواقفه السلبية من الأكاديمية والأستاذ الجامعي التي أعادت التعليم العالي والجامعات إلى الوراء. وبعد عودة الوزارة إلى المسؤول الأكاديمي متمثّلاً في الدكتور الشهرستاني واستبشرنا به خيراً، كوينا مرة أخرى بسيره على خطى الوزير السابق. وحين تفاءلنا أخيراً بالوزير التالي الدكتور عبد الرزاق العيسى، كوينا هذه المرة بسلبيته ليغادر الوزارة وكأنه لم يدخلْها أصلاً. وهكذا أحجم جميع الوزراء السابقين تقريباً عن الإقدام على التغيير الجذري الذي يحتاجه التعليم العالي. هنا نستحضر قولة المالكي المكررة بأن الآخرين يريدون أن يعيدونا إلى المربع الأول. فمع أنْ ليس إلا القليلون كانوا يريدون العودة إلى المربع الأول، فإن الأفضل كان سيتحقّق للعراق والتعليم العالي، لو كانوا قد أعادونا فعلاً إلى المربع الأول وتحديداً مربع ما بعد بريمر. فليس صدفةً أو أمراً غير ذي دلالة أن التعليم العالي في العراق بعد أن كان قد صُنّف نهاية السبعينيات بكونه أحسن تعليم في جنوب آسيا والشرق الأوسط، ما عاد يحتل اليوم أي مكانة معتبرة في التصنيفات الجادة للتعليم العالي والجامعات في العالم، بل يعجز عن تخطّي إلا القليل جداً من سلبياته الكثيرة، ولننسَ اللافتة المرفوعة عند مدخل جامعة بغداد حول مركزها وفق تصنيف QS، فهو تصنيف سيّئ الصيت، والحقيقة أن تعليمنا العالي وجامعاتنا تغرق في الظواهر والممارسات والأوضاع السلبية.

( 2 )
ولأننا تعرّضنا لجل ما رصدناه من سلبيات من خلال أكثر من عشرين مقالة نُشرت في جريدة “المدى” خلال سنتَي 2014 و2015، وضمها كتابنا “التعليم العالي في العراق إلى أين؟”، لا نجد من حاجة هنا إلى العودة إليها جميعاً، بل نُجمل أهمها وبعض ما تراكم عليها عسى أن يجد بعضها طريقه إلى المعالجة.
فأولها مركزية الإدارة والقرارات الفوقية، وهي التي مورست أكثر ما مورست ابتداءً من عهد الوزير الأسبق الأستاذ علي الأديب ومَن رافقه من مسؤولين في التعليم الجامعي والجامعات التي هي تتعارض طبيعةً عن البيروقراطية المركزية، وهو الأمر الذي قاد المسؤولين إلى اختيار مَن هم غير كفوئين أو مناسبين للإدارات التابعة لهم ليضمنوا لهم التبعية وتطبيق ما يريدونه ويتّخذونه من قرارات، ولاسيما ما يتعلق منها بالأكاديمية والمسار التعلمي. وضمن أهم ما ترتب على ذلك غربة المسؤول عما هو مسؤول عنه من كادر واختصاص، وعدم التزامه بالسياقات الجامعية والأكاديمية، إما جهلاً بها، أو تعالياً عليها، الأمر الذي قاد، في النهاية، إلى الكثير من النتائج السيئة التي نراها اليوم في كل مرفق من مرافق المؤسسات الأكاديمية، وكما سنمثل لها في نهاية مقالنا بمثال حديث. فنحن نعرف أن القرار العلمي/ الأكاديمي الصحي، بشأن الأستاذ الجامعي والعمل البحثي والمؤتمر العلمي ومسار العملية التعليمية، أفضل ما يكون حين يصدر عن القسم العلمي المختص، بينما جُردت الأقسام العلمية عندنا من جلّ صلاحياتها، حتى وإنْ ليس بشكل صريح دائماً، ليأتي القرار الفوقي في النتيجة مربكاً ومعرقلاً غالباً للعملية الأكاديمية، كما وقع مثل هكذا إرباك حين اتخذ الوزير الأسبق قراراته الفوقية بالتخلّص من النخبة الأرقى من أساتذة الجامعات، وكما وقع لطلبة الدراسات العليا الإنسانية حين رفضت رئاسة جامعة بغداد، قبل سنتين، طلبات تمديداتهم المشروعة، وكما يجري لأقسام بعض الكليات باتخاذ عمدائها قرارات غير صائبة ولا يتفق معهم فيها رؤساء تلك الأقسام، وغير ذلك كثير.
في هذا السياق تحضر تأثيرات المسؤول والجهاز الإداري السلبية. فمع أنه من المنطقي، في التعليم العالي والجامعات، أنْ تتسيّد الأكاديمية والعمل الأكاديمي على الإدارة والجهاز الإداري، وتحت مظلة القانون والأنظمة بالطبع، فواقع الحال يرينا أن ممارسات الجهاز الإداري، بمسؤوليه وموظفيه المطلقي الأيدي، هي أحد أكثر معوقات العملية التعليمية والأكاديمية، وأحد مرهقات الأستاذ الجامعي ومعذباته. ونعتقد أن وراء هذه الممارسات عوامل لعل أهمها: الأول الأنظمة والتعليمات و(القوانين) التي تُعملق مسؤوليها. الثاني ممارسة السلطة والمسؤوليات بدون مظلة قانونية ونظامية. الثالث إخضاع الأكاديمية، نظاماً وقِيماً وإنساناً ومسؤولاً، للإدارة والإداري المسؤول وليس للقانون والنُظم. الرابع جهل المسؤول والإداري أو تجاهلهما لمسؤولياتهم الحقيقية. والخامس، وفوق كل كذلك، انطلاق المسؤول والإداري من هوس بالسلطة مهما كانت صغيرة، وبممارستها بحق الأكاديميين الذين يُفترض أن وجود هذا المسؤول والجهاز إنما هو تسهيل مهمتهم وتسهيل العملية الأكاديمية والتعليمية، فكانا بدلاً من ذلك عبءاً عليهم وعلى الأكاديمية ومعرقلاً كبيراً لمسار العملية التعليمية وما يرافقها. الواقع أن هذه الممارسة كثيراً ما تتماهى مع التوجه الواضح للتعليم العالي خلال السنوات العشر الأخيرة نحو استهداف الأستاذ الجامعي، حين هذا الجهاز أداةَ تعذيبٍ، بل إذلال له أحياناً، وعرقلة لعمله التعليمي والبحثي والأكاديمي. هنا يجب أن نعترف بأن بعض سلبيات التعليم العالي والأكاديمية هي من فعل أكاديميين أو برضاهم، وتحديداً حين يتولون هم أنفسهم مسؤوليات إدارية، وحين يسكتون على التجاوزات غير القانونية على الأكاديمية والأكاديمي. ولنتوقف عن نماذج محدودة على هذه الممارسات.

( 3 )
لقد كنت شاهداً، قبل بضع سنوات، على حاجة تدريسيّ لشهادة خبرة، فتقدّم بطلبه للكليات التي عمل فيها، ومعروف أن استجابة هكذا طلب هو أحد السياقات الروتينية جداً التي يجب أن لا تأخذ من الموظف أكثر من دقائق، في جميع جامعات العالم، بل إن تلك الجامعات عادةً ما تزوّد بهكذا شهادة خبرة، وبدون طلب، كلّ من يعمل عندها أو يُلقي محاضرات فيها أو يشارك في مؤتمرات تُقيمها، فماذا تتصورون النتائج؟ حسناً، لقد زودتْ كلية اللغات المعنيّ بهكذا شهادة خلال أقل من ساعة، وأرسلتْ كلية من نيويورك الشهادة بريدياً لتصل خلال بضعة أيام، بينما كان على طالب الشهادة أن ينتظرها من كلية ثالثة أكثر من ثلاثة أسابيع من الركض والتعذيب والبيروقراطية بل الإذلال على يد موظفة متوسطة الدرجة الوظيفية اختلقت كل ما يخطر ولا يخطر في البال من أجل تحقيق ذلك. فقد أرادت أولاً تأييد رئيس القسم، ثم تأييد رئيس القسم السابق، ثم طالبت ما يوثّق ذلك رسمياً من القسم، ثم ما يؤيد الموافقة على إلقاء المحاضرات في محضر لمجلس الكلية، ثم ما يؤيد القيام بإلقاء المحاضارت فعلاً في محضر آخر لمجلس الكلية. وحين استنفدت كل وسائل التعذيب والتعويق ولم يعد من مجال للتحجج بشيء، خرجت على المعنيّ بطلب غريب وهو أن تكون شهادة الخبرة معنوة إلى جهة ما، في الوقت الذي كان طالب شهادة الخبرة يريده لملّفه وسيرته، ونحن نعرف أن هناك من يحضل على هكذا شهادة لتعليقها على الجدار، وعندها اضطُرر إلى إعطائها عنوان كلية اللغات التي تلقّت الخبرة حينها مستغربة وأعطت الشهادة لطالبها. الكارثة هنا ليست في هذه السلوكية الشاذة فقط، بل في موقف العمادة منها حيث لم تقم بأي إجراء فعلي يوقف الموظفة عند حدودها بالرغم من رفع القضية إليها.
هذا المثال يجب أن لا يُؤخذ بحجمه المحدود، وبكونه يتعلق بشخص واحد، بل بدلالته، وبما يمكن للأداري، حتى وإن كان موظفاً صغيراً، أن يفعله من تعويق لسياق ما وتأخير لأعمال والتأثير في شؤون جيش من الأكاديميين، خصوصاً إذا ما اقترن بتجاوزات وسياقات خاطئة و(تعليمات) زائفة، وإذا ما جاء من مسؤول إداري أكبر وبخصوص أمور أهم تخص العملية التعليمية والبحثية والأكاديمية. هنا نتذكر، مثلاً، إجابة أحد مسؤولي ملحقياتنا الثقافية في إحدى البلدان الغربية، ردّاً على رغبة طالب دراسات عليا بالموافقة على القيام برحلة بحثية تخدم دراسته في تخصص الأدب المقارن، بعدم وجود تخصص بهذا العنوان (الأدب المقارن) في ذلك البلد، مع إن إحدى ما تُسمّى مدارس الأدب المقارن الثلاث تعود لذلك البلد، ورفض أحد مسؤولي التعليم العالي الموافقة النهائية على رحلة بحثية إلى إحدى جامعات المغرب الرصينة، بعد استكمال جميع متطلباتها، لطالب دكتوراه يدرس (البنيوية) لأنها رحلة إلى بلد عربي وليست إلى بلد أجنبي، وهو ما يدل على جهل ذلك المسؤول لحقيقة أن المغرب هو الأفضل لدارس (البنيوية) من أي بلد آخر. ونضيف إلى ذلك المثال الذي ذكرناه سابقاً عن قيام رئيس إحدى الجامعات، وانطلاقاً من فهم قاصر للتخصصات الإنسانية، برفض عام لطلبات جميع طلبة الدراسات العليا في هذه التخصصات للتمديد المشروع المقرّر وفق نظم والذي هو من صلاحيات الكليات والأقسام العلمية. ومعروفة لجميع التدريسيين والباحثين الإجراءات المغذّبة التي كثيراً ما تمارسها دائرة العلاقات الثقافية في بعض الجامعات العراقية قبل تكرّمهما بالموافقة على مشاركة الأستاذ أو الباحث في المؤتمرات العلمية التي هي من صلب الممارسة الأكاديمية.
من الأمثلة الحديثة على الفهم الإداري الخاطئ، فهم الجهات المعنية عن التقييم، لفقرة (خدمة المجتمع) على أنه الأعمال الإنسانية، فأغرقت العديد من الأساتذة والأقسام والكليات بمثل هكذا إعمال، من تبرّعٍ بالدم وزيارةٍ لبيوت المسنين ودور الأيتام وجمع تبرّعات وما إلى ذلك. والحقيقة ليست هذه الأعمال هي المقصودة في فقرة (خدمة المجتمع) وليست لها، مع نبلها بالطبع، علاقة بالإداء العلمي والأكاديمي، بل المقصود هو إسهام الأستاذ الجامعي في خدمة المجتمع ضمن تخصصه، كأن يقوم أستاذ العربية بفتح دورة تقوية في اللغة والكتابة، وتنظيم أستاذ الطبية حملة علاجات مجانية، وقيام استاذ الزراعة بزيارات لمزارع حكومية أو خاصة من أجل الإرشاد، وقيام أستاذ القانون بالتوعية القانونية، وقيام أستاذ الأدب بتحكيم أعمال مشاركة في جائزة، وزيارة أستاذ التربية لمدارس، وهكذا. ومثل هكذا ممارسات كثيرة وكثيرة جداً، ولكننا نريد أن نتوقف وقفة أخيرة عند مثال جديد عن تجاوز المسؤول للسياقات حتى الإدارية، وهو يصدر هذه المرة عمّن يجمع عندنا كل ما كان وراء ممارسات الإدارة والإداريين من عيوب: ممارسة السلطة التي يملكها بشكل خاطئ، وزيادتها بسلطة لا يملكها، وتجاوز الأكاديمية، وتجاوز حدود المسؤولية، وعدم المعرفة أو التجاهل.
لقد أبلغتنا إحدى الكليات بأن مدير الدراسات العليا في وزارة التعليم العالي قد منعها من التعاقد مع من يحمل لقب أستاذ متمرس، بحجة أن اللقب يتعارض مع ذلك. وهنا واضح تماماً أن المسؤول المعني يتخطى حدود مسؤوليته، وإلا ما علاقة مسؤول الدراسات العليا بقانونية التعاقدات؟ وفوق ذلك يمارس المسؤولية، التي لا يمتلكها أصلاً، بشكل خاطئ إذ لا علاقة للقب بحرية تعاقد حامله، وكان سيكون الأمر قانونياً لو ترتب على هذا اللقب تعاقدُ عملٍ بين مانح اللقب والممنوح له، وواقع الحال لا يدل على هذا. كما أن المسؤول يمارس هنا سلطة ويوجه تعليمات وبدون كتابات رسمية. بقي أن اللقب، في حقيقته، يقترب من أن يكون فخرياً، تتشرف الجهة المانحة له بمنحه لأستاذ يستحقه، ويتشرف من يُمنحه به وبتلك الجهة المانحة له، أي أن الجامعة تتشرف بمنح اللقب للأستاذ، ويتشرف الأستاذ بنيله من الجامعة، ولهذا نقول للسيد المسؤول، الذي من الواضح أنْ لا معلومات له عما يعنيه اللقب، أنّ هناك من حامليه في جامعات العالم مَن لا عمل لديهم في الجامعات المانحة، ولكنها قد تحتاج إليهم في استشارة ما أو عرض ما أو محاضرات، مما قد يتم في يوم أو فصل أو اجتماع أو مؤتمر، وقد لا يتم أي من ذلك كله. ولهذا ليس غريباً أن نجد بعض هؤلاء الأساتذة لا يقيمون حتى في البلد الذي فيه الجامعة المانحة للقب، بل نجد منهم مَن يتعاقدون مع جامعات أخرى مع بقاء أسمائهم أساتذة متمرسين في جامعاتهم الأصلية. وهكذا ما كان للجهة المانحة، مقابل هذا اللقب الفخري، أن تعمل عمل الشرطي، فتحجر على الأستاذ وتمنع مواصلة نشاطه الأكاديمي، إلا إذا كان هذا متأتياً من عدم معرفة، وتجاوز نظمٍ وسياقات، وممارسة سلطة على من لا سلطة قانونية عليه.
والآن كل ما سبق من سلبيات ما كانت لتكون لو تولى المسؤوليات الأكاديمية والإدارية من هم مناسبون لها، ولو وُضعت حدود للجهاز الإداري، ولو تسيّدت الأكاديمية في التعليم العالي، ولو تم الالتزام بالسياقات الأكاديمية والقانون والنظم، ولو تشبهنا بالتعليم العالي والجامعات الرصينة في البلدان المتقدمة، بما في ذلك العربية، وأخيراً لو كان التعليم العالي في العراق يسير في مسار صحيح.
najmaldyni@yahoo.co

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

رعب كافكوي في قصص يحيى جواد

رعب كافكوي في قصص يحيى جوادقراءة لمجموعة “الرعب والرجال” في ضوء المنهج النفسيمنشورةأ د. نجم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *