التعليم العالي في العراق إلى أين؟
( 19 )
هل الجامعات العراقية
على أبواب الإصلاح والتطوير؟
د. نجم عبدالله كاظم
( 1 )
هل الجامعات العراقية على أبواب الإصلاح والتطوير؟ سؤال أسأله في ضوء بدء العام الدراسي الجديد، الذي رافقتْه كلمة للسيد وزير التعليم العالي قال فيها: إن الوزارة “بادرتْ باتخاذ سلسلة من الإجراءات التي من شانها تطوير المؤسسات الجامعية بما يليق بعمقها التاريخي ومنهجها الأكاديمي ودورها الريادي.” ولعل إحدى أهم إشارات الوزير هي تلك التي يؤكد فيها على أن “العلوم يُكمّل بعضُها البعضَ ولا سبيل لتفرُّد أحدِها عن الآخر إلا بمقدار الاحتياج الفعلي في سوق العمل”، وحاجة البلد والمجتمع بالطبع. كما أكّد على منهج الإصلاح والتطوير على صعيد المنظومة الاكاديمية والإدارية، قائلاً: “أُطمئنكم بأننا على هذا المنهج سائرون وملتزمون حتى تتحقق الغايات التي نبتغيها جميعاً ونتوق إلى تحقيقها.” وإذا كانت هناك بعض المؤشّرات التي تؤيد فعلاً هذا الانفتاح من السيد الوزير، مثل القبول في الدراسات العليا والبدء المبكر فيها، والموقف العقلاني من التخصصات المختلفة على خلاف مواقف سلبية قصيرة نظر لمسؤولين آخرين من الدراسات الإنسانية، وبعض الإجراءات الأخرى تجاه ما كتبتُه أنا وغيري ونبّهنا عليه وشخّصناه من أخطاء، فأخشى أن هذا قد لا يكفي لكي يتحقق الإصلاح والتطوير؟ لماذا؟ لأنني أخشى أنْ يكون هناك ما يقف في الضدّ من كلامه، وكما سآتي إلى ذلك بعد قليل.
( 2 )
في بعض مقالاتي العديدة التي نشرتها على امتداد عام كامل عن التعليم العالي، وفي ضوء الواقع الكالح والمتردّي الذي تشهده العملية الأكاديمية في العراق بما يحيط بها من عمل بحثي غير صحي وإدارة سيئة ونشر (لا علمي) وتعليم مضطرب في الجامعات وهيمنة غير صحية لمسؤولين يتجاوزون على السياقات الأكاديمية، أشرتُ إلى أن أي إصلاح يجب أن يمرّ، وكما يقول بذلك علماء النفس، بثلاث خطوات بدونها لا يكون من تجاوز وإصلاح حقيقي: الأولى هي تشخيص السلبيات والأخطاء، وهو في الجامعات أكثر ما وقعت في زمن السيد علي الأديب وما بعده حين بدأت أوضاع التعليم العالي تتدهور بوتيرة سريعة، وأنْ يصاحب هذا التشخيص الاعتراف والاقتناع بأن هذا المشخَّص خطأ؛ والثانية هي اتخاذ القرار بإزالة الخطأ أو إصلاحه لأقامة الصحيح بدلاً عنه، وبما يعني في التعليم العالي إزالة السياقات الخاطئة والمسبّبين بها من المسؤولين؛ الثالثة هي الإقدام على الإصلاح، ولكن بعد التسلح بالعدّة والأدوات، وأهمها في التعليم العالي وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وبما يعني التجرّؤ على الاعتراف بأن جل مسؤولي التعليم العالي وجامعاته ليسوا الأشخاص المناسبين، لأنهم من بركات الأحزاب النافذة لا من بركات السِّيَر العلمية والكفاءة.
والآن، وإذا ما اقتنعنا بهذا، هل أقدمتْ التعليم العالي على هذه الخطوات؟ وهل كلام السيد الوزير كافٍ؟ بظني ليس تماماً، وهنا سأعرض مثالاً واحداً يُثبت ظني بأنها لم تقمْ بالخطوة الأولى فلم تعترف بوجود الأخطاء والسلبيات؛ وإذا ما كانت هناك إشارات خجولة تلمّح إلى هذه الخطوة، فإن الوزارة لم تخطُ الخطوة الثانية لتقرر بشكل واضح النّيّة لتجاوز الأخطاء والسلبيات؛ وحتى إذا ما لمحنا شيئاً من هذه الخطوة، فإن الوزارة لم تخطُ الخطوة الثالثة فلم تفعل من شيء للتجاوز ولم تغيّر مسؤولاً واحداً ممن هم وراء هذه السلبيات والأخطاء. ونزعم أنّ مثالنا سيثبت أن التعليم العالي لم تقم حتى بالخطوة الأولى لننتظر أن تخطو الخطوتين التاليتين، فلم تشخّص الخطأ وتعترف وتقتنع بأنه خطأ. والواقع أن هذا ليس غريباً والتعليم العالي هي إحدى وزارات حكومة لا تعترف أبداً بأي شيء من هذا، بل هي ربما لا تراه. فحين يقول المالكي إنهم يريدون إيقاف المسيرة وإرجاعنا إلى المربع الأول، فذلك يعني الإصرار على الخطأ، في وقت لو كان المالكي قد عاد فيه فعلاً إلى المربع الأول عام 2003 لبدء مسيرة سياسية جديدة، لكان العراق الآن في شكل آخر، في مقابل هذا هو دعا مرةً بلدان المنطقة، وبشكل يدعو إلى السخرية، إلى الاستفادة من تجربة العراق في الإعمار. وحين يقول الجعفري: “إن العراق صار في طليعة بلدان المنطقة” ولا يرضى حتى بهذا فيضيف: “بل في طليعة بلدان العالم”، فإن هذا يعني أنْ يبقى العراق في ذيل القائمة في كل شيء. وحين يقول الجعفري نفسه إن الحكومة “حكومة ملائكية” فإن هذا يعني ليس من سبيل لحكومة أفضل من هذه ببساطة لأنها “ملائكية”. وحين يتكلم العبادي عن إصلاحات غير موجود منها على أرض الواقع أي شي، فهذا يعني لا أمل في إصلاح وتطوير. وحين يقول إن “كل قادة العالم الذين قابلناهم أبدوا إعجابهم بالتجربة العراقية في الإصلاح”، وهو ما لا يمكن لعاقل أو طفل أن يصدقه، فلا أمل إطلاقاً لا بالعبادي ولا بالحكومة. وإنّ امتلاك مسؤول مثل العبادي هكذا جرأة على الادعاء بالقيام بأشياء لم يتحقق ولو شيء واحد منها، يعني أنْ لا أمل في العبادي وفي أن تغيّر هذه الحكومة شيئاً. وحين تحتفي رئاسة جامعة بغداد بالوضع الذي هي عليه فهذا يعني أن الجامعة ستبقى على وضعها، فلماذا نغير إذا كان كل شيء (تمام) و(الدنيا ربيع والجو بديع)، على حد قول المرحومة سعاد حسني؟
( 3 )
انتقالاً إلى المثال الذي أشرنا إلى أنه يحول بيننا وبين التفاؤل بالإصلاح والتطوير، جاء على موقع جامعة بغداد مؤخراً الآتي:
“جامعة بغداد تؤكد من جديد تربّعها وصدارتها للتصنيفات العالميه من خلال حصولها على ثلاثة نجوم في تصنيفات QS للجودة. جاء ذلك من خلال الاحتفال الذي اقيم بحضور السيد رئيس جامعة بغداد الدكتور علاء عبد الحسين عبد الرسول والسيدين مساعدَي رئيس الجامعة والسادة عمداء الكليات ومدراء الاقسام في تشكيلات الجامعة كافة… اذ تعتبر هذه الشهادة ارفع شهادة في مجال جوده التعليم العالي ومتطلباته تحصل عليها الجامعة خلال مسيرتها الممتدة لما يزيد على اكثر من خمسين عاماً… ويُعدّ هذا الإنجاز الأفضل والأبرز على مستوى العراق والمنطقة العربية والجامعات العالمية… وحصول الجامعة على هذا التصنيف المتقدم يؤكد على أن بوصله العمل مستمرة لتحقيق هذا الهدف في الاتجاه الصحيح.”
والآن، هذا يبدو أول وهلة شيئاً مفرحاً، وكأن جامعة بغداد قد حققت فتحاً لم تحققه حتى كيمبرج أو أوكسفورد أو هارفرد، لأنه، كما تقول الجامعة، “الأبرز على مستوى العراق والمنطقة العربية والجامعات العالمية”، وقد اعتبرَتْه “أرفع شهادة تحصل عليها الجامعة خلال خمسين سنة.” فهل هو كذلك؟ وهل هو بمستوى الاحتفال الكبير الذي أقامته الجامعة فعلاً؟ لن أُجيب بنعم أو لا، بل بالتعريف بتصنيف شركة (QS)، وبعرض بعض ما يقوله خبراء عديدون عنه.
( 4 )
بداية يجب أن نعترف بأن جهات تصنيف الجامعات، ومنها الثلاث العالمية الرئيسة: كيو إيس وتايمس هاير إجيوكيشين وشانغهاي، وغيرها، تتعرض دائماً للنقد، وهذا طبيعي، إذ يشكك الكثير من خبراء التربية والتعليم العالي بقيمة التصنيفات ويعتقدون بأنها كثيراً ما تقيس أجزاءً فقط من معايير الجودة في التعليم العالي. لكن ما يُثار عنQS يتعدى الحدود التي تجعله مقبولاً من الجهات الرصينة. فمع تصريح بين سوتير، مدير الوحدة الاستخبارية في شركة QS، بأن الشركة لم تستخدم أي وسيلة تعتمد على استبيانات يتلقى المستجيبون لها على مقابل مادي، يبقى على هذه الشركة الكثير من التحفظات، ومنها ما يتعلّق بهذا الجانب تحديداً. فإليزابيث ريدين، المتخصصة في التعليم العالي والعاملة في موقع (إنسايد هاير إجيوكيشين) المعروف، والأستاذة السابقة في جامعة كولومبيا، تقول: “لقد أثار استعمال موقع رئيس له نفوذ عالمي لتصنيف الجامعات، لاستطلاعات مدفوعة الثمن الكثير من التساؤلات والتحفّظات”، وهي إشارة واضحة الدلالات. ويقول فيليب آلتباك، الأستاذ في التعليم العالي في بوسطن: “إن تصنيفات QS هي أكثر التصنيفات إشكاليةً”. فقد تعرضتْ لانتقادات شديدة من الكثيرين بسبب تخصيص درجة عالية لمقياس (مراجعة الأقران) أو النظراء، الذي عليه الكثير من الاعتراضات العلمية. ويشير بيتر ويلز، من جامعة أوكلاند في نيوزلندا إلى “أن المسح الذي يقوم على هذا المقياس يقوم بالتصنيف من خلال دعوة كادر الجامعة المعنية، وحتى عرض إغراءات مالية، للمشاركة فيه. ومن الطبيعي أن يشعر كادر الجامعة بأعظم الفائدة في أن يقوم هو بنفسه بتصنيف مؤسسته وليس غيره. وهذا يعني أن نتائج الاستبيان أو المسح ستكون كلها محطَّ شكٍّ كبير، وأن التصنيف في النتيجة ليس له أهمية بأي حال من الأحوال”. الواقع، يقول خبير آخر، أن آلية التصنيف التي تعتمدها QS طالما أثارت الكثير من الجدل، بشكل خاص بسبب عدم اعتمادها على ما يعتمده مصنفون آخرون من وسائل قياس متعددة الوظائف.
أما البروفيسور براين ليتر، مدير مركز القانون والفلسفة والقيم الإنسانية في جامعة شيكاغو، فقد كان أكثر صراحة في موقفه من تصنيفات QS هذه حين قال إنها “احتيال علني”. ذلك أن (QS) تستخدم تنوّعاً في آليات اختيار الأكاديميين الذين يملأون استبيانات السمعة التي تُعنى بسمعة العمل البحثي والعملية التعيلمية، تتضمن الحصول على قوائم تُدرِج معلومات الاتصال بالأكاديميين، وكذلك دعوة الجامعات المعنية لترشيح أسماء منها لإجراء الاستبيانات معها. وتعلّقاً بهذا، يقول فيليب ج. ألباك، وهو مدير مركز كلية بوسطن للتعليم العالي العالمي والمستشار في أعمال التصنيف، بأن المعلومات التي يتم جمعها بهذا الشكل “رخيصة وسهلة، خصوصاً وهي لا تعير اهتماماً لكيفية اختيار مالئي الاستبيانات”، وهذا محض خلل يكاد ينسف مقدماً كل ما يترتب عليه من نتائج.
وضمن أبرز نقاد هذا التصنيف سيمون مارجنسون، الأستاذ في التعليم العال في مركز دراسة التعليم العالي في جامعة مالبورن، والذي “يوزّع جهات التصنيف عموماً على ثلاث فئات أو خانات: الأولى تعتمد أدوات القياس الإحصائية ومقاييس البحث الموضوعية العلمية، وفي هذه الخانة نجد تصنيف (ARWU)؛ والثانية تعتمد المقاييس المتعددة المؤشرات، وفي هذه الخانة يدخل تصنيف (التايم هاير إديوكيشين THE) وتصنيفات أخرى تخصص وزناً وقيمةً لمختلف المؤشرات الموضوعية والذاتية”. أما الخانة الثالثة فتحتلها (QS) وحدها التي، كما يقول مارجنسون، “لا تقوم بأي عمل بالجودة التي يقوم بها مصنفو الخانتين السابقتين الذين يسستخدمون مقاييس متعددة”.
أخيراً يقول ديفيد بلانشْفلاور من دارتموث كوليج، عن هذا التصنيف: إنه “هُراء (زبالة) ولا أحد يجب أن يضع أي مصداقية فيه، إذ تستند النتائج فيه على منهجية خاطئة تماماً… إن (QS) مؤشر معيب، وينبغي تجاهله”.
( 5 )
والآن حتى إذا ما رضينا بتصنيف شركة (QS) المشكوك أصلاً في سلامته وعلميته، فإننا نجد أنفسنا أمام مغالطة كبيرة من رئاسة الجامعة حين “تعتبر هذه الشهادة أرفع شهادة في مجال جودة التعليم العالي ومتطلباته تحصل عليها الجامعة خلال مسيرتها الممتدة لما يزيد على اكثر من خمسين عاماً”. فمواقع جامعة بغداد وفق هذا التصنيف نفسه، ومنذ تأسّسه بانفصال الشركة التي تقوم به عن (تايمس هاير إجيوكيشين) عام 2010، هي الآتية: 2011: لا يوجد، 2012: 601، 2013: 701، 2014: 701، 2015: 651، وبما يعني أن الجامعة لم تحقّق حتى العودة إلى الموقع الذي كانت قذ تراجعت عنه في زمن السيد علي الأديب وبدء رئاستها الحالية. ولكي يتّضح أكثر ما يعنيه موقع جامعة بغداد الحالي وفق هذا التصنيف غير الموثوق به، لنا أن نطّلع على بعض ما حققته بسهولة جامعات عربية من مواقع فيه. فقد تقدمت على جامعة بغداد خمس جامعات من السعودية، واثنتان من لبنان، وأربع من مصر، واثنتان من الأردن، واثنتان من الإمارات، إضافة إلى جامعات قطر والسلطان قابوس. يضاف إلى هذا أن التصنيف العالمي للجامعات لم يبدأ أصلاً كما نعرفه الآن إلا منتصف التسعينيات، ولم يكن قبل ذلك إلا تصنفيات محدودة وغير شاملة، فكيف تقرر الجامعة أن هذا هو أفضل إنجاز تحققه الجامعة خلال خمسين سنة؟ هذه مغالطة وادعاء يجب أن يُساءَل أصحابها عليها.
وهكذا في النهاية، وأنا أتمنى من كل قلبي أن يتحقق ما أنا لست متفائلاً من تحقُّقه، أقول إن إصلاحاً وتطويراً جوهرياً لن يتحققا للجامعات العراقية، والتعليم العالي عموماً، إن لم تتوفر أولاً الجرأة على الاعتراف بظواهر الخطأ والسلبية والاعوجاج، وثانياً التصميم على تجاوزها؛ وثالثاً الإقدام على استبدال جلّ المسؤولين الأكاديميين والإداريين. إن عدم توفّر هذه الشروط يجلعني أجيب على سؤال مقالي: “هل التعليم العالي على أبواب إصلاح وتطوير؟”، بـ(لا)، أو هي أبواب لا أراها في الأفق.
najmaldyni@yahoo.com
شاهد أيضاً
رعب كافكوي في قصص يحيى جواد
رعب كافكوي في قصص يحيى جوادقراءة لمجموعة “الرعب والرجال” في ضوء المنهج النفسيمنشورةأ د. نجم …