ميسلون هادي صورة الأمريكي

صورة الأمريكي
ميسلون هادي

أحاول أولاً أن أتذكر المرة الأولى التي رأيت فيها جندياً أمريكياً في البلاد، فأعجز عن استرجاع لحظة مثل هذه، بل تمحى من ذاكرتي الصورة الأولى للجندي الأمريكي إلا من خلال التلفزيون حيث كان الستلايت ممنوعاً في العراق، وكانت نشرات الأخبار العالمية التي يبثها الراديو هي سيدة الموقف، ولكني كنت قد غادرت بغداد مع عائلتي إلى محافظة ديالى طلباً للأمان، فوصلنا هناك إلى مصدر آخر للأخبار حيث كان بيت أهل زوجي يستطيعون سحب البث الفضائي من قناة إيرانية كانت تبث باللغة العربية وتعرض تقارير مفصلة عن سير الحرب التي كانت تتواصل. ومن خلال ذلك رأيت الجنود الأمريكيين يصارعون الرياح الرملية العاتية التي كانت تهب عليهم في صحراء الحدود الجنوبية للعراق، فتطوح بهم ذات اليمين وذات الشمال، أعطى بعض الناس تفسيرات غيبة لأقوى رياح رملية أرسلها إلينا شهر آذار المهذار، بينما كان الصحاف يتوعد الأمريكان بمصير مظلم ويردد بأنهم سيقطعون رأس الأفعى في بغداد. بعد ذلك بأيام أصبحت الأفعى تتمدد بين بيوتنا وفوق شوارعنا.. وأصبحت بغداد لقمة سائغة للفوضى والخراب. في حال مثل هذه كانت عشبة الخلود من نصيب الأخبار العاجلة التي افتتحت من أجلها ثلاث قنوات فضائية مرموقة لا زالت تبث النيران لحد الآن.. أصبحنا فرجة للعالمين عند كل اشتعال للنار في مكان الانفجار، والدخان الكثيف يتصاعد منها، وصفارات الشرطة تدوي وتدور أضويتها باللونين الأزرق والأحمر.. والناس على مسرح الرعب يتراكضون في كل اتجاه وكأنهم هاربون من بيت نمل صببتَ عليه للتو دلواً من الماء.. أصبح روتيناً يومياً أن يرى الإنسان ذلك كله ويتشمم رائحة الحرائق متعلقةً بذرات الهواء، ولا يتخيل قط أن ما يراه له وجود حقيقي على الأرض أو أن شظاياه يمكن أن تصيب منه مقتلاً. وبهذا الوهم، على الأكثر، يمكث الناس في بيوتهم ولا يغادرونها طويلاً أثناء الحروب. وقتئذ بدأت خدمة الإنترنت تنتشر في العراق فجمعت عينة من أسماء القتلى والمخطوفين ممن أعرفهم، وقد تجاوز عددهم الثلاثين بين جار وقريب وصديق، وارسلتها لمن توفر لي ايميله من الصحف والبرامج الحوارية الأمريكية.. وبعد أن ضربت لهم ذلك الرقم الذي في العينة بتعداد نفوس العراق استخرجت نسبة تقريبية عن ناتج تلك الحرب التي أحرقت الأخضر واليابس، أردت ان أعرفهم بما فعلت بلادهم ببلادي.. ولكن لا مجيب سوى من صحيفة واحدة قالت إنها متعاطفة مع رسالتي ولكنها لا تستطيع اعتمادها للنشر.
الآن لم يتبق من صورة الأمريكي في ذهن العراقي المنهك شئ.. كانت تلك الصورة في البداية رهيبة في عدوانيتها وظلمها.. ولكن داخل إطارها الجهنمي كان وجود الجندي الأمركي يبدو خالياً من المشاعر والمواقف الأخلاقية، وجوده بدا آلياً جداً عندما يمتطي الدبابة أو يهبط منها، وكأنه روبوت متقن يتمشى بيننا ليكون بيدقاّ تقنياً في لعبة حاسوب يلعبها الكبار عن بعد بالريموت كونترول.. الهدف منها هو الفوضى الخلاقة التي تعني بالمثل العراقي العامي (نخبطها ونشرب صافيها) .. وبهذه الخلطة الخلاقة فإنهم يستكملون تدمير العراق من خلال العراق نفسه، والذي تمت برمجته طائفياً ليصبح مستجيباً لذبذبات ذلك الريموت. نقرة واحدة وتظهر على الشاشة كل تفاصيل الموقف الحزين لكي تنظر إليه عيون سوداء جاحظة تشبه عيون الحرباوات.. خلف تلك العيون الجاحظة يوجد اللاعبون الكبار .. يسجلون ناتج تلك الفوضى الخلاقة ثم يكتبون في لوح الحروف ما يفعله الإنسان لحظة الفوضى….. يراقبونه كلما سمح الوقت بذلك، وهو لا يدري أن هناك من يكتب بالنيابة عنه قصة حياته. يومه يتكرر بشكل ممل يمكن تسريعه في النهاية للقفز على بعض التفاصيل المتشابهة.. سيطرات.. جدران كونكريتية.. انفجارات.. جرائم.. ومهازل سياسية… شريط أيامه المتوالية كان يمشي سريعا بإتجاه أيام جديدة سرعان ما تتبدل بأيام أخرى، ولكن الخبر العاجل المثير يأتي عندما تختفي الصورة فجأة وتسوَدُّ الدنيا بالدخان ليعود المشهد بعد قليل مهتزاً وقد تكسّر زجاج المنزل ناشراً بعض الشظايا أمام عين الكاميرا السوداء.. إنه انفجار آخر يجعل الإنسان يترك مكانه ويمضي نازلاً إلى أسفل أو هارباً إلى تلفات الدنيا.. وهذا ما يريده اللاعبون الكبار دفعا للأمام أو للاستفادة من عنصر الوقت.. مشن إز دان؟؟
نو، إت إز نوت.. لأن بين الاثنين هناك عراقي ثالت محب للحياة متمسك ببيته ومتشبث بمكانه متحدياً كل المخاطر والأهوال لكي يحفظ لبغداد آخر ما تبقى لها من أمل أكيد. إنه حفيد أرض ما بين النهرين الذي لا يستجيب إلا لضوضاء الفواخت في الحدائق، ولا تئثر فيه ذبذبات (الري موت) أي رغبة باليأس،
(كنت أفكر ماذا أكتب؟ وكيف أبدأ الموضوع؟ أو كيف أنهيه؟ الممحاة تصغر لحظة بعد أخرى والقلم يقصر.. إنتظرت حتى آخر الدرس.. وفي النهاية كتبت لها أن الأمريكي جاء والثقوب في أذنيه ليفتش بيتنا فأكله الذباب. جاء في الطريق الطويلة التي انتهت إلى صحراء مخيفة، فمات من الجوع والعطش وأكله الذباب. تبارك عرفت أحسن مني وكتبت أن أمها قد دعت طاقم الدبابة إلى الغداء وأن أحدهم قد لاعب قطتها زوزو وسأل عن اسمها… كما طلبوا من تارا، التي كانت طالبة في الكلية الطبية، أن تعمل معهم في الترجمة، فقبلت وفرحت وظلت تعمل معهم عدة اشهر ثم تركت العمل بعد أن جاءها تهديد بالقتل..)
وأنا أتأمل هذا الكلام الذي جاء على لسان ياسمين في رواية (زينب وماري وياسمين)، لا أجده إلا صورة ميسرة عما حدث فعلاً بعد الحرب الأمريكية على العراق، حيث انقسم الناس بين باك انطوى على نفسه، وراقص كان يعتقد ان ثمن تغيير النظام ليس أكثر من هذه النزهة الصحراوية التي انتهت بيوم إسقاط الإمريكان للتمثال في ساحة الفردوس… الآن أصبحت تلك الذاكرة مصدر إحراج للجميع، بل تكاد تختفي تلك الأيام من بال العراقي المهموم بالسلامة والأمان. أكاد أعتقد أن صورة الأمريكي المعتدي أصبحت ممسوحة من عقول الناس الذين دوختهم زمر الحاكمين ونوبات الكهرباء الوطنية والشوارع المغلقة والجدران العازلة وطوابير السيارات التي تتوقف طويلاً بانتظار دخول مناطقها التي ما عادت مفتوحة للأفق. أجزم أن العراقيين لم يعودوا يحتقظون بصورة الأمريكي المعتدي بعد أن أغلقت عليها منافذ بيوتهم وتتابعت صور أخرى أكثر ظلاماً يديرها اللاعبون الكبار.. من بين أولئك اللاعبين ثمة أمريكي قاد هذه الحرب (بمشيئة الرب).. وأراد إنهاء المهمة على عجل (وات إبفر إت تيكس). صورته التي تجمع بين السفاهة والغرور لن ينساها العراقيون وسينتظرون دائماً أن يروها مرة أخرى مخلوعة من مكانها وموضوعة أمام منصة القضاء.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

النصف الآخر للقمر

ميسلون هادي القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا صغيرة، لأنها انشغلت بالصور المتلاحقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *