من هي الكاتبة الجريئة؟

من هي الكاتبة الجريئة… من هو الكاتب الجرئ؟
ميسلون هادي

حين يتعلق الأمر بالمرأة الكاتبة، فإن من الغريب أن يضع الكثير من أدبائنا ونقادنا العرب مفهوم الجرأة، لديها تحديداً، في جراب واحد هو جرأتها على استعراض تجارب حسية تقترب من المناطق المحظورة أو المخفية في حياة المرأة. وغريب أيضاً أن يجري مثل هذا الطرح حول مفهوم الجرأة في العمل الأدبي، في الوقت الذي يزخر تراثنا العربي الأدبي فيه بكم هائل من القصائد والقصص والمرويات التي تناولت هذا الجانب الحساس من الطبيعة البشرية وأشبعته قصاً وشعراً وبحثاً وتندراً… هذا التعامل الطبيعي مع موضوع الجسد هو مايفترض ألا يجعلنا نصفق لكاتبة معينة لمجرد انها تناولت هذا الموضوع المطروق بقوة في أدبنا وآداب الأمم الاخرى ،أو لمجرد أنها كــ(إمراة) قد وجدت في نفسها الشجاعة للحديث عن هذه المحظورات واختراق صفوف الاخريات (الخائفات) صارخة بأعلى صوتها بكل ماهو ممنوع أو مثير أو إباحي.
ولا أريد أن أجرد كاتبات هذا النوع من جرأتهن التي تحسب لهن، فإنها حقا لجرأة منهن أن يتناولن تلك الموضوعات الحساسة في كتاباتهن، لاسيما أن ثمة عقدة اخرى يعانيها الناقد والقارئ على حد سواء، وهي أنهما (يشخصنان) العمل الروائي الذي تكتبه المرأة أي يضعان الكاتبة شخصياً (لا الشخصية الروائية) بطلة لكل التجارب التي تقدمها في أعمالها. وبذلك فإن خوض أولئك الكاتبات في مثل هذه التجارب يتطلب تجاوزهن لأعراف اجتماعية سائدة وموروثة، ويتطلب منهن تحديهن لها ولسلطة الرقيب الاجتماعي أيضاً.. أي باختصار تكسير قضبان ذلك القفص الذي يضعها فيه القارئ، وهذه لعمري جرأة مابعدها جرأة لايمكن العثور عليها عند الكاتب الرجل أحيانا، فكيف بالكاتبة المرأة رهينة تلك النظرة الأبوية الصارمة التي حددتها بدور ثانوي لايمكن الخروج عليه بسهولة!؟
إذن إنها لجرأة فعلا منها، وهي لا تزال في مرحلة فك القيود، أن تحاول التحليق بعيداً لتغرد خارج سرب باقي (الدجاجات) الشاطرات …. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة أمامنا الآن هو التالي: هل هذه جرأة فكرية تخص المسار الجدلي لأفكار قديمة تتصارع مع أفكار جديدة أم أنها جراة إجتماعية تشبه ارتداء سروال ضيق أو تنورة قصيرة في مجتمع محافظ؟ تتناول دراسةٌ مهمة عن الحرية في أدب المرأة للدكتور عفيف فرّاج عدة كاتبات عربيات، مثل ليلى بعلبكي وكوليت خوري وأمية حمدان وسميرة عزام وليلى نصر الله وغادة السمان وحنان الشيخ وبثينة الناصري وديزي الأمير وحميدة نعنع ونوال السعداوي. ويقول فيها المؤلفُ، في معرض إجابته عن سبب اهتمامه بأدب المرأة، إن المرأة الجديدة تُبدعها الحرية، ولحظة الفعل والثقافة التي تستجلي الجوهر العقلي الذي تتكشف عنه التجربة الحسية. ويقول إن العمل الفني هو العقل المبدع الذي يعيد صياغة التجربة جمالياً، ومن هنا يصبح العمل الفني خادماً لغرضين. فهو، من جهة، مرآةٌ تعكس التجربة الواقعية بحدودها ودرجة غناها، وبنجاحها وإحباطاتها. وهو، من جهة أخرى، يتيح لنا رؤية المرأة في لحظة الفعل المبدع الذي يخصب عقلياً لا بيولوجياً، والذي به وحده ترتهن حرية المرأة وقدرتها على نصب قامتها في وجه مجتمعات ما قبل التاريخ المستمرة في تاريخنا.
ويقيس فرّاج عمق وعي الكاتبة العربية- بشتى تدرجاته وتفاعلاته مع محرّضاته- على مدى مرحلتين زمنيتين، تبدأ الأولى عام 1958 تحديداً، وهو العام الذي صدرت فيه رواية ليلى بعلبكي “أنا أحيا”، وتنتهي بالهزيمة الحزيرانية عام 1967، التي تبدأ بها مرحلة ثانية تتميز ببدء البحث عن الحرية خارج الذات، وبمنظورات اجتماعية تعي المرأة بواسطتها حجمها الإنساني الكبير الذي ينكمش في ظله الجنس الأحادي والأنوثة المنسحقة وما يورثه هذا الحسّ من ردود وترجيعات جنسية أحادية. ثم ينتهي فرّاج إلى القول إن الوجه الأنثوي الأحادي عندما يتكرر بشكل طاغ في معظم ما أبدعته المرأة، وباستثناءات قليلة، إنما يعني إن البطلات النسائيات يعانين من ضمور في همومهن الإنسانية والاجتماعية والفكرية، وأن هذا الضمور لا بد أن ينعكس سلباً على فهمهن للحرية.
إن الحرية التي يشترطها فراج لإبداع المرأة الجديدة وفعلها العقلي الخلاق هي نفسها شرط الإبداع الأساسي لكل عمل إنساني خلاق، والأدب هو أكثر النشاطات الابداعية حاجة إلى هذا الشرط وتخصيباً له في الوقت ذاته: فإذا ما وضع الكاتب سلطة الرقيب أمام عينيه وهو يكتب، اعترضت الكوابح قلمه وشلّته عن الحركة وجعلته يتلكأ ويرتجف قفزاً فوق الحواجز والممنوعات. ولما لم تكن ثمة وسطية في علمية الكتابة الأدبية (وإلا جاء العمل باهتاً وبلا معنى)، فإن الكاتب الذي يتوجس أو يتهجس أثنناء الكتابة سيتطوع لاختراع الحواجز، وسيقوده الحاجز الواحد إلى حاجز آخر، فينعدم فضاءُ المعيش المتأني والطلق وتصبح الكتابة سريعة ولا هثة وغير مشبعة للنظر ولا للفكر.
إن تلك الحواجز التي يستنكرها فرّاج، قد تكون غير مخترعة، وإنما هي مما تصنعه الكتابة نفسها طوعاً بفعل تراكم الخبرة وتطور أدوات المعرفة، فالكاتب يتغير ويتطور باستمرار، وبالتالي يدرك أبعاد سجنه المترامي من حيث مركزية اللغة وكيف تكون هذه المركزية هي انعكاس لمركزيات أخرى تتشكل اجتماعياً وفق مواضعات ومظاهر تتراكم بمرور الزمن، مما يعني ابتعاده عن الأيمان بمعطيات خالصة أو بوجود حقيقة موضوعية.. أو قد تكون تلك الحواجز من صنع الشرطي المتيقّظ الذي قد يوجد لا شعورياً داخل كل واحد من المشتغلين في المهن الجمالية التي نتحدث هنا عن حاجتها إلى شرط الحرية. مع ذلك فقد استطاع الأدب العربي أن يقدم روايات عربية كثيرة طرحت وجهات نظر جريئة تتسم بالاعتراض والرفض لأفكار سائدة في المجتمع، أو بالدعم والمساندة لأفكار أخرى جديدة. ولم تتعرض هذه الروايات للمساءلة القانونية أو القضائية، أو أنها تكون قد تعرضت للمصادرة والمنع ولكنها لم تتعرض لرفض القارئ النوعي لها أو لاحتجاجه عليها. وإلى جانب فؤاد التكرلي هناك كتّاب كثيرون اتسمت أعمالهم بالجرأة الفكرية في اقترابها من منطقة الثالوث الشهير الذي قيل إنه من المحرمات على الأدب العربي. ومن هؤلاء الكتّاب والكاتبات، على سبيل المثال لا الحصر: عالية ممدوح وليلى عثمان وسلوى بكر ونوال السعداوي وعلوية صبح والحبيب السالمي ويوسف الصائغ وعبد الرحمن منيف ويوسف إدريس وإدوارد الخراط، والطاهر بن جلون وأمين معلوف.
ويكتب الباحث الدكتور رشيد العناني في جريدة الشروق المصرية وفي عددها الصادر في 7 نوفمبر 2010 عن مؤتمر أكاديمي علمي، عنوانه الكامل هو: «الرغبة، اللذة، وخرق المحظورات: الأصوات الجديدة وحرية التعبير فى الأدب العربى المعاصر». والمؤتمر عُقد في يونيو 2010 فى «جامعة سابينزا» Sapienza فى روما، العاصمة الإيطالية، وتحت رعاية «قسم الدراسات الشرقية» والأستاذة إيزابيللا كاميرا دفليتو، اختصاصية الأدب العربى الحديث، ومترجمة العديد من آثاره إلى اللغة الإيطالية. يقول العناني:
“دارت الأبحاث فى المؤتمر حول محظورات الكتابة فى الأدب العربى الحديث. كان الغرض هو الحديث حديثاً علمياً موثقاً عن كل ما هو ممنوع على الأديب العربى المعاصر. كل ما هو محظور، أو محرّم، أو منهى عنه. كل ما هو خاضع للرقابة، سواء القانونية، أو المؤسساتية، أو السلطوية، أو العرفية، أو الدينية، أو حتى ما هو خاضع للرقابة الذاتية التى يلجأ إليها الكاتب تطوعاً، وهرباً من مساءلة كل الجهات السابقة أو بعضها..دارت الأبحاث والمناقشات فيما دارت حول لاءات الكتابة الثلاثة الشهيرة: السياسة والجنس والدين. كيف تكون الكتابة عن السياسة فى ظل أنظمة القمع الشمولى؟ كيف تكون الكتابة عن الجسد والجنس، فى ظل سلطة مجتمعات ذكورية، بطريركية، تهيمن عليها الحساسيات الزائفة، والأعراف الكارهة لحق البشر فى اللذة والتمتع بالحياة. كيف تكون الكتابة عن الدين فى ظل مجتمعات تسيطر فيها المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، المسلمة والمسيحية، على النص الدينى وتفسيره، وتحتكر التفكير فيه، إلى حد هدر دم من يجرؤ على التفكير لنفسه والمجاهرة بفكره. تحت كل هذه القيود، وسط حقول المتفجرات هذه، كيف يتجنب الكاتب العربى الخطو فوق الألغام؟ ما هى التقنيات الفنية التى ينتهجها طلبا للسلامة؟ ما هى الاستعارات والكنايات والمجازات وأساليب التورية التى يلجأ إليها التفافاً حول الرقباء، والمانعين من النشر، والمهددين بالسجن والقتل؟ وكأننا كنا نناقش قضية الديمقراطية فى الأدب، تماما كما تناقش فى الدوائر الغربية قضية الديمقراطية الغائبة وحقوق الإنسان المهضومة فى الدولة العربية. “
ثم يؤكد العناني انتصار الكاتب العربي على قيود الرقيب واقترابه الحثيث من فضاء الحرية بالقول: “جاء المؤتمر بمن احتشد له من الباحثين والمبدعين ليؤكد انتصار الكاتب العربى والكاتبة العربية على جميع مضطهديهم، المرئيين وغير المرئيين. من الخليج العربى شرقاً حيث بعض من أكثر المجتمعات والأنظمة العربية محافظة وتشدداً إلى المغرب العربى غرباً، ومن سوريا ولبنان شمالا إلى اليمن جنوبا، من أقدم المجتمعات على سبيل التمدن الحديث إلى آخرها فى اللحاق بالركب، ثبت أن الكاتب العربى والكاتبة العربية (ومن ورائهما القارئ العربى والقارئة العربية) لم يرضخوا للقيود، وإنما دائما ناضلوا من أجل زيادة هامش الحرية. من أجل حرية التعبير. من أجل حرية نقد المجتمع، حرية نقد الحاكم، حرية نقد التراث الدينى وغير الدينى، حرية تقويم التجربة التاريخية”. انتهى الاقتباس.
ومن هذه الجهة نفسها نستطيع القول إن بعض أعمال الكتاب العراقيين والعرب كشفت، وبجرأة شديدة،عن كثير من خفايا المجتمع واقتربت ، بلاخوف، من بعض مناطقه الحساسة دون أن تتعرض لسوء الفهم أو التوجس أو الاعتراض. وقد أرتأيت أن أضرب بكاتبنا الكبير فؤاد التكرلي مثلاً للجرأة في الطرح، لأنه استطاع ببراعة نادرة أن يجعلنا نكتشف مايريد اكتشافه من الجوهر الانساني المعقد والغامض والمتطرف دون أن يقع في فخ الجرأة الاستعراضية، فصال وجال في مناطق تبدو صعبة ووعرة ومصطفة في خانة المحظورات، ولكن جرأته في الطرح كانت فكرية بحتة ولم تكن هناك إثارة مقصودة لذاتها أو مرغوب افتعالها لمجرد مخالفة السائد واللهاث وراء الانفعالات الآنية الطارئة. والحق يقال أن السياق الأخلاقي لشخصياته هو الذي فرض عليه أن يكون أصيلاً في تتبع مساراتها ومصائرها الحقيقية، فتمكن، بما عرف عنه من ندرة في المهارة، أن ينجو بأعماله من كل الأفخاخ، وأن يرقى بها من شوائب الجرأة الاستعراضية التي تحفظنا عليها في بداية موضوعنا هذا.
لقد فرض الموضوع الكبير على فؤاد التكرلي ذلك النوع من الجرأة الفكرية التي سيتقبلها منه القارئ النوعي ويرحب بها، أما القارئ التقليدي فسيحترمها وإن تحفظ عليها. ولذلك فعندما كتب التكرلي روايته (خاتم الرمل) في تونس ونشرها في بيروت لم يبتعد عن هذا الإطار الفكري للجرأة التي اتسمت بها كل أعماله، وإن كان كتب تلك الرواية في مكان آخر بعيد عن الذي كتب فيه (الرجع البعيد) و(الوجه الآخر) وهو العراق. وكلنا يعرف أن ماركيز الذي امتلك هذا الموضوع الكبير في كل أعماله قد خاف من نشر بعض أعماله في موطنه الأصلي، ولكن ذلك الخوف لم يمنعه من أخذها والسفر بها الى باريس ليطبعها ويقيم هناك.
نلّخص رأينا بالقول إنه عندما يوجد الموضوع الكبير توجد الجرأة وينتفي الخوف.. وعندما يوجد هذا الموضوع ستكون أدواته أذكى من فخ السقوط في فخ الجرأة الفجة المفتعلة المقصودة للإثارة أو للفت الإنتباه أو المخالفة، فتبقى حدود جرأته داخل حدود الاطار الأخلاقي والموضوعي لمسار الشخصيات، بل داخل حدود الإطار الفني والجمالي للإبداع. وهذا النوع من الأعمال الذي تكون فيه ثقة الكاتب بموضوعه الكبير أكبر من اجتهادات الرقيب هو الذي يستحق أن يوصف بالجرأة… أما أعمال (الجامخانات) التي تستعرض النزوات والانفعالات الطارئة، فاعتقد أن القارئ يطلع عليها من باب الفضول فقط، وإن حاجته اليها شبيهة بتغيير القناة أثناء مشاهدة مادة مهمة وضرورية، لمعرفة ماتعرضه القناة الأخرى، ثم العودة سريعا الى المادة الأولى، لأنها هي الأحق فعلا بالمشاهدة والمتابعة واستثمار الوقت.
مجلة الآداب

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

النصف الآخر للقمر

ميسلون هادي القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا صغيرة، لأنها انشغلت بالصور المتلاحقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *