علامات بغداد الفارقة
ميسلون هادي
في ثمانينات القرن الماضي، أصدرت أمانة بغداد تعليمات صارمة تلزم البيوت التي تقع على الشوارع العامة بإضاءة واجهاتها الخارجية بالليل، كما الزمت البيوت الاخرى آينما يكون موقعها بزرع نخلة وشجرة زيتون في كل حديقة من حدائقها الغناء. ومنذ ذلك الوقت تشكل هاتان الشجرتان علامتين فارقتين من العلامات الفارقة في بيوت العراقيين، وعندما يأتي فصل الصيف تجد عثاكل التمر المثقلة بثمارها تزين قامات النخيل كما الأقراط بينما يظل يتساقط زهر الزيتون الابيض، لشدة كثافته وكثرته، على الأرض، ويغطيها كالفراش، لحين يأتي موسم القطاف في الخريف، فتمتلأ الجرار بالزيتون المخلل وتفيض السلال بالتمور بالألوان والاشكال التي تتجاوز أعدادها المئات ويتبادل أطباقها الجيران في هذا الموسم من مواسم بغداد التي قال فيها الملا عبود الكرخي ( بغداد مبنية بتمر فلش واكل خستاوي ).
ثم جاءت الحروب وفعلت مفعولها واصبحت اللافتات السود التي تتسلق الجدران وتنتصب في الساحات العامة علامة فارقة اخرى من علامات بغداد التي انتقلت من محنة الى محنة فأصبحت هناك ،بعد غزو الكويت ،علامة جديدة أخرى هي المطر الاسود الذي هطل علينا بعد حرب الخليج الأولى، ليرسم على أسيجة البيوت ذؤابات سوداء ناصلة لا تزال آثارها موجودة لحد الان، لأن سنوات الحصار العجاف التي مضت على العراقيين طويلة وثقيلة جعلت الطلاء مادة من مواد الكماليات وحاجيات الترف التي امتدت قائمتها لتشمل الكتب والملابس والآثاث وألعاب الاطفال والحلي والستائر، بل وحتى خواتم الزواج .
بعد ذلك جاءت الحرب الأخيرة التي شنتها أمريكا على العراق، والتي لم تبق ولم تذر، فاختفت الخدمات وانتهى عصر الاضواء، وأوشكت الاشجار على الهلاك وجُرد شارع المطار ،الذي اشتهر بمقاومته للغزاة، من أشجاره الكثيفة وسُلب منه جماله الأخاذ، أما ليل بغداد الذي كان يتلألأ للناظر اليه من الطائرة كالخرز الملون فقد اصبح عاريا من القلائد التي كانت تزين عنقه منذ سنوات. ولم تعد الشوارع بله واجهات البيوت تضاء بالنيون.. لا ولم تعد الأخبار القادمة من بغداد إلى العالم خافية على أحد، وأصبحنا كالصندوق الزجاجي الذي يتفرج عليه الآخرون، فبكى علينا من بكى وضحك علينا من ضحك. وكف البعض عن النظر الى الأخبار لكي لايقتله الألم.
ان هذه الأخبار على قتامتها، لاتبدي انتباها للتفاصيل اليومية الصغيرة ،التي تشكل عصب الحياة ولاتقل أهمية عن مظاهر الخراب الأخرى، ومنها مثلا ان رنين الهواتف الأرضية قد اختفى تقريبا من البيوت، إلا في مناطق نادرة، بسبب خراب البدالات ونقص الوقود في بلد الوقود، واختفى مع اختفاء هذا الصديق الأرضي العزيز على الانسان صديق أرضي اّخر، هو صوت الجرس هذا العازف الصغير الذي مر عليه الأحبة والأهل والأصدقاء، ومر عليه الشحاذون بالعشرات الصادقون منهم والكاذبون والباعة والمقايضون، وقرعه الأحبة من الآباء والأمهات والأخوة من الأبناء والبنات، وعزفت بقربه ألحان الربيع عندما خرجت الزفات تباعا في الأعراس أو مواكب الحجيج، وخمش القلوب بمخلبه القاسي عندما قرعته أيادي العائدين بالنعوش. هذا الجرس هو العلامة الفارقة، التي تميز البيوت عن الخرائب والأطلال، هو الآخر صامت منذ عدة سنوات بالكاد يقرعه أحد، وإن قرع فالكل يفزع ويستغرب لأن زيارات الأهل والأقارب تناقصت إلى حد كبير وسياق الحياة قد تغير عندما أصبحت تعثر على الكهربائي والبستاني والمكوجي والحلاق وبائع الصحف بشق الأنفس. أما العائلة الواحدة فقد أصبح (طشارها ماله والي) فتجد الأب والأم في مدينة والأولاد في مدينة أخرى أو الأخ في دولة والأخت في دولة أخرى وهكذا هو الحال منذ ضحكة بوش الملعونة التي أعلن فيها انتهاء المهمة (مهمة تدمير العراق) ولحد الآن.
أما إذا قررت العبور من الكرخ الى الرصافة أو من الرصافة الى الكرخ فان نياط قلبك لتتمزق لرؤية الدبابات الأمريكية وهي تعبر الجزرات الوسطية باستهتار لانظير له مدمرة الأشجار والأزهار الصغيرة المسكينة التي تكون أمانة بغداد قد زرعتها للتو، وأحيانا يحدث مالايحمد عقباه، عندما تقترب ونظرك ضعيف مثلا، فلا ترى اللافتة على ظهر الهمر كتب عليها (لاتقترب تخويل باطلاق النار)، فتذهب حياتك هدرا في لحظة واحدة كما حدث مثلا مع شهداء ساحة النسور أإو مع عشرات الضحايا الذين سقطوا عن طريق الخطأ سواء في حديثة أو كربلاء أو أبي غريب أو مع الشباب المساكين ،طلاب الكلية الطبية الذين كانوا يعودون الى بيوتهم، وبينهم ابن الشاعر المعروف غزاي درع الطائي، فانفتح على باصهم وابل من الرصاص أرداهم قتلى في الحال. فهل هذه هي بغداد التي كان اسمها في التاريخ تشتق منه الصفات لشدة حسنها ودلالها أم أنها بأسلاكها الشائكة وحواجزها وأنقاضها وسواترها الترابية ،جبهة من جبهات القتال أو قرية نائية من قرى المجاهيل الافريقية؟
ثمة شىء واحد أخير لم تمتد أليه يد الحرب هو الذي يدلك فعلا على إنك في بغداد وهو إنك عندما تستيقظ صباحا ستسمع غناء البلابل و زقزقة العصافير أوهديل الحمائم في أعشاشها بين سعفات النخيل ، فتعرف انك لازلت في بغداد. وهذه العلامة من علامات بغداد الفارقة قد لا تكون موجودة في الكثير من دول الجوار وأهلنا وابناؤنا الذين يسكنون علب الكونكريت في تلك المدن التي لا ماء فيها ولا أنهار، يقولون أن أكثر ما يفتقدونه هناك، هو أصوات الحمائم والعصافير في الصباح ورائحة التراب المرشوش وقت المساء. هذه هي رومانسية العراقيين التي ما أستطاعت السياسة أن تدمرها في مدينة أصبح فيها حتى الماء والخضراء والوجه الحسن ضحية من ضحايا إلاعيب السياسة وأهوال الحروب.
2005