درس بورخس

درس بورخس للعراقيين
ميسلون هادي

منذ أن حط الاستشراق عينه على مزايا وخفايا هذه الأرض، وهو لاينظر الينا، وانما ينظر من خلالنا الى مايريد ولايعتبرنا الا معبرا للهدف الذي يبتغيه، سواء كان النفط أو المعادن أو الموقع الاستراتيجي .وبالعرف غير المعلن لديهم فأن ميكافيلية الهدف لاتبرر الوسيلة حسب، وإنما تشرعنها كيفما تشاء، سواء بالتدمير البربري والهمجية المطلقة، كما حدث في العراق وأفغانستان منذ بوش الأب ولحد الان، أو بالتفرقة وشق الصفوف كما حدث ويحدث في المنطقة العربية، منذ لورنس سيء الصيت ولحد هذه اللحظة. وبهذا المعنى شهد شاهد من أهلها، هو المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي عندما قال في كتابه “السلطان الأخير” أن تعريف الإرهاب يأتي في معيارين في الحسابات الأمريكية. أي أنه ارهاب اذا كنت تقوم به ضدنا، ولكن إذا كنا نحن نمارسه ضدك، فهو تدخل انساني وله غايات حميدة.
وقد أثبتت الهجمة الأمريكية على العراق بالواقع الملموس، ونحن شهود على ذلك، تلك النظرة المتعالية التي لاتعتبر حيواتنا وأحلامنا الا معبرا أو طريقا تدوسه الأقدام الهمجية والبساطيل العسكرية من أجل بلوغ أهداف السعادة الأمريكية وحمايتها من كل شر أو مكروه. وقد مكنتهم أقمارهم الصناعية من كل صعب وبعيد المنال، وحقق لهم تفوقهم العلمي الدعم الذي يفرش ذلك الطريق بالورود والرياحين. هذه الهجمة الفضائية العسكرية العولمية، التي تبدو في ظاهرها رسولا للحضارة والسعادة والسلام، تعكس في حقيقتها تحفظا وازدراء خفيا تجاه العرب بشكل عام، والمسلمين منهم بشكل خاص، وهو شعور باطني متوارث من نظرة استشراقية مزمنة، أشار اليها المفكر الراحل أدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق “عندما قال: “والمستعمرون الخاضعون،كما راّهم جورج أورويل في مراكش عام 1939، لاينبغي ان يعاينوا إلا بوصفهم نوعا من الفيض القاري الهائل، الافريقي او الاسيوي أو الشرقي.”
إن هذه المنطقة من الفيض القاري،لا زلازل تحدث فيها ولا براكين ولا كوارث طبيعية، ولكن مدن العربان التي تسف فيها الكثبان، تموج تحتها بحور من الذهب الاسود الذائب على شكل كراميل شهي يسيل له اللعاب، ولأن فيها بشرا يختلفون مثل كل البشر ( عثمان ضد عثمان وعباس ضد عباس) فأن (أبو ناجي وغير أبو ناجي) يؤججون هذا الاختلاف لكي ينجوا هم وتنجوا مصالحهم، وفي الوقت نفسه، العربي المتخلف، من وجهة نظرهم، يتحرك و يتقدم الى أمام. فاذا ما رفع أحدهم رأسه وضرب بالسيف، ضربوه على أم راسه وذبحوه بالشوكة والسكين. وأحيانا يضربوه أو يبيدوه عن بكرة أبيه، حتى قبل أن يضرب فيما يسمى عندهم بالضربة الاستباقية. ألم تسمعوا بـــ (الضربة الاستباقية) لنمرود وفرعون اللذين تنبأ لهما العرافون ومفسرو الاحلام، بأن طفلا سيولد ويأخذ منهما الربوبية، فأمرا بقتل جميع الاطفال الذين يولدون تلك السنة، ولكن نبي الله ابراهيم نجا من بطش نمرود، كما نجا نبي الله موسى من بطش فرعون ،أما الأطفال فلا زالوا يقتلون على أيدي فراعنة العالم الجدد كل يوم.
ويبدو أن العرب هم عجينة طيعة وأرض خصبة لزرع واستقبال مثل هذه الفتن والخلافات، كونهم من أصحاب الشخصية الفردية المستبدة التي لاتتقبل النقد أو المزاح والمنغلقة على ذاتها وأسرارها، أو كما في الحالة العراقية، من أصحاب الشخصية التي تتميز بالعصيان والتمرد وعدم الرغبة بالخضوع لأحد، وعندما تقرأ تاريخ الوزارات العراقية في العهد الملكي ستجد حكومات الهاشمي والمدفعي ونوري السعيد تتغير على مدار الأشهر ،لا على مدار السنين، مما دفع السفير البريطاني في العراق حينذاك إلى القول بأنه لم ولن تدوم وزارة مشكلة في العراق لأكثر من تسعة أشهر،أما الانقلابات التي حدثت في العهد الجمهوري فحدث ولا حرج (أو ربما بحرج )عن كثرتها وغرائبيتها، فكيف اذن يحكم السلطان في بلد كل واحد فيه “شايف نفسه” سلطان الزمان؟؟
لعل الدرس العراقي يحتاج لمن يقرأه أن يقرأ أولا قصة بورخيس الشهيرة “مكتبة بابل” والتي يصف بها هذا الكاتب العبقري، وهو بالمناسبة من أشد المعجبين بالثقافة العربية والإسلامية، يصف الكون على شكل مكتبة ضخمة بسلالم وأروقة وممرات عديدة مفضية إلى فراغ لا نهائي أراد به ذلك الكاتب أن يقدم معادلا رمزيا للعالم الواقعي، بكل طلاقته وابديته وغرائبيته اللامتناهية. في تلك القصة يقول بورخس :
( إن الذين يتباكون على “الكنوز “التي دمرها العته لا يقدرون حق القدر حقيقتين معروفتين عموما، إن المكتبة بالغة الكبر لدرجة أن كل محاولة بشرية لافقارها تبدو صغيرة إلى ما لا نهاية . والثانية هي أن كل كتاب هو الوحيد ولا يمكن ان يأخذ مكانه أي كتاب آخر).
إذن تقودنا حكمة الرجل الضرير إلى حكمة الاختلاف الضروري بين البشر، وعدم القدرة على الالغاء القسري للآخر عندما يكون الآخرعقلا من العقول الكثيرة التي تتناسل إلى ما لا نهاية، فلا الالغاء ممكن ولا العقول ستنتهي … وفي مكان آخر يخبرنا الفيلسوف العظيم إبن رشد، الذي تفلسف على يديه رواد النهضة في الغرب، بأن الحقيقة واحدة ولكن المسالك اليها مختلفة وينبغي الايمان بتعدد الطرق التي تفضي إلى الحقيقة ذلك إن الدين والفلسفة والعلم ماهي إلا دروب مختلفة للحقيقة الواحدة، ويجب الأخذ بحرية الأسباب التي تؤدي إلى المعرفة مهما كان مصدرها. حدث ذلك منذ الف عام، ولو لم تنج مؤلفات ابن رشد من الحرق، لظلت أفكاره تتكون في عقول أخرى، فما أحوجنا اليوم وأحوج الغرب قبلنا الى احترام اختلاف العقول، لان الذين أرادوا فرض إيديولوجياتهم الواحدة على الآخرين ضربوا وحدة الأوطان، وجعلوا العالم يدفع أنهار الدم ضريبة لتلك الفكرة ومازال البعض واهما بإمكانية حدوث ذلك.
جريدة الزمان 2010

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *