الحلوة.. بغداد
ميسلون هادي
منذ أن وضعت الامتحانات أوزارها، وحيثما نلتفت أو نذهب نسمع بالعوائل من أهلينا وأحبتنا وأقربائنا وهم يشدون الرحال إلى بلاد الله الواسعة هجيجاً من ضجيج الانفجارات والمروحيات والمولدات، وهرباً من هذه المدينة التي تئن تحت أنقاضها وحواجزها وأخبارها الحزينة. لقد دخلنا السنة الرابعة بعد الحرب، ولا نسمع بغير الخطط الأمنية المتتالية ذوات الأسماء المعتبرة والمبتكرة والتي، على أهميتها, يجب أن توازيها خطط خدمية مبتكرة لا تقل عنها استنفاراً للجهود والأموال، ويا حبذا لو تحفل، هي الأخرى، أي خطط النظافة والعمران، بأسماء الألوان وأنواع الورود والأشجار والفواكه وطيور الزينة، فتُخترَع للناس المشطورين بين ساعات القطع المبرمج وساعات حظر التجوال، خطط الجوري والقداح، أو عمليات الكناري والقرنفل والياسمين، لتجعلهم تلك الخطط، التي نقترحها جادين، يرون بين الكتل الكونكريتية أفقاً يريح العين ويهدّئ الأعصاب ويطرب النفوس، وليس صحيحا أن ينتظر المنتظرون هدوء الأوضاع واستقرارها لكي يباشروا إعمار بغداد والنهوض بواقعها الجمالي، لأن الخراب إذا استمر على هذا المنوال سيدور في حلقة مفرغة مع العنف وأحدهما سيتنافس على مسابقة الآخر والفوز عليه لحين القضاء على الروح الجميلة لبغداد، فيكون الخاسر الأكبر هو هذه المدينة العظيمة التي لا يكاد يتبقى منها سوى الصيت.
إن العراقيين اشتهروا فيما مضى بعاطفيتهم الشديدة تجاه الوطن وصعوبة ابتعادهم عنه.. وقد كنا نتوقع بعد سقوط النظام السابق هجرة معاكسة من بلاد المنافي إلى العراق وعودة مئات الآلاف من العراقيين إلى بيوتهم وديارهم التي هجروها لمختلف الأسباب من السبعينات ولحد الآن.. وقد عاد الكثير منهم فعلاً وبعضهم بسرعة شديدة توازي شوقه المتراكم الممتد على مدى عشرات السنين، وبعضهم حاول الاستقرار والراحة بعد العناء، ولكن سرعان ما صدمتهم الأوضاع الأمنية السيئة والمباني الخربة والشوارع المحطمة والكهرباء المتردية، فلملموا أغراضهم وعادوا إلى منافيهم آمنين.. لتنضم إليهم فيما بعد أعداد جديدة وآلاف مؤلفة من العراقيين سجناء البيوت الذين يريدون الخلاص من هذا الحبس الجماعي الذي يلزمهم بيوتهم من الساعة السادسة عصراً، والشمس مشرقة في كبد السماء، والنجاة بأنفسهم وعقولهم من هذه المخاطر والحواجز التي حفرت في الروح عميقاً أخاديد من الكآبة وخيوطاً من الجنون.
فيا بغداد.. يا من تتسربين كالرمل من بين الأصابع، قولي لهم.. صبراً أيها الصابرون.. قولي لهم إن كل شارع يهجره المثقف والمتعلم وصاحب الذوق الرفيع سيزيد من وضع بغداد سوءاً على سوء، وإن كل محب للجمال والنظافة والألوان البهيجة سيزيد من بهجة المكان، إذا ما عاد إلى بلاده، وتشبّث بها، ووضع قيد التنفيذ فكرة جميلة واحدة أمام بيته أو في محلته.
قولي لهم إنكِ تنتظرين بفارغ الصبر يوماً يعبرون فيه دجلة إلى شارع النهر ويتمشون في أجمل أسواق الذهب والفضة والنحاس والقرطاسية والأقمشة والتوابل والعطور.
قولي لهم إن دجلة وحيد وحزين وظمآن كظمأ الجواهري، وهو الذي يلوذ بكم ويحييكم، فمتى تردوا التحية بأحسن منها..
قولي لعبود الكرخي، وعزيز علي، وجواد سليم، وفائق حسن، وشاكر حسن آل سعيد، وغائب طعمة فرمان، وعلي الوردي، وسليم البصري، وناظم الغزالي، ومحمد القبانجي، وعمو بابا، ورضا علي، وعباس جميل، إنكم وكل المبدعين أفضل من يحرس الذكريات ويحميها، بل إنكم أفضل من كل الخطط الأمنية لوزارتي الدفاع والداخلية في حراسة بغداد.. قولي ليوسف العاني أنْ يعاود نزهته الصباحية بين الكرخ والرصافة عابراً جسر الأحرار أو الشهداء على قدميه. قولي له عندما يعود من جولة كل يوم أن يروي لنا حكاياته مع جان، وناجي جواد، وجلال الحنفي، وباقي علية القوم، ثم يسترسل صعوداً إلى الصيادين والكبابجية والبسطاء في الشواكة وخضر الياس.
قولي لنوارس (دجلة الخير) أن تحمل تحايا الجسر الحديدي إلى الجسر المعلق، وللسفح أن يحفظ لكل عراقي ملاذ الحمائم حتى يعود.. قولي لشارع المطار أن يعاود خضرته من جديد، ولأبي نؤاس أن يحرس نصب الحرية.. قولي للرصافي أن يعبر السراي ويسأل عن المتنبي قبل أن يتحوسم ويتحول إلى سوق لبيع الخردة، قولي لجسر الأئمة أن يحفظ عهد الشطين وهما يتبادلان الهواء والماء والمحبة منذ الأزل.. قولي له أن ينشد الصوبين عن البدور اللواتي بالأمس كانت هنا، وعن عيون المها، أين الهوى الذي يأتي من حيث ندري ولا ندري؟ قولي للعصافير أن تخرج على برد الهوى وأن تملأ الصبح باللعب والزقزقات. قولي للمساء أن الظلام لا يليق إلا بعصور الظلام.. قولي للشوارع أن تعاود تجوالها الصباحي بلا حواجز، ولا همَرات، ولا أصوات اطلاقات نارية.. قولي للقاعات أن لا تغلق أبوابها، وللمسارح أن لا تتوقف، ولباعة الصحف أن لا يغادروا التقاطعات.. قولي للورد أن يزهر، وللبيوت أن تحلو، وللناس أن تصبر.. قولي لهم إن الغربة سراب وحياة مؤجلة وأبواب مواربة لا تنفتح أبدا.
قولي لهم يا بغداد إن البيوت تسأل (وين أهلنا). قولي لهم إنك لن تنهضي من هذه الشدة إلا إذا كانوا بقربك، وعيونهم شاخصة إليك. قولي لهم إنك مريضة وجريحة، فكيف يترك الأبناء أمهم المريضة وحيدة ويرحلون لحين انجلاء الدخان؟
جريدة الزمان. 2007