أكثر من حياة
أكثر من رحلة
ميسلون هادي
لا يستطيع الإنسان قط معرفة ما ينبغي عليه أن يريده، لأنه لا يملك سوى حياة واحدة،، ولا يمكن مقارنتها قط بحيوات سابقة، ولا تصحيحها وتعديلها في حيوات لاحقة!))
(میلان کونديرا)
- خفة الكائنات التي لا تحتمل-
إن مرة واحدة لا ” تُحسب” وعجزنا عن أن لا نحيا غير حياة واحدة شبيه بعدم حياتنا على الاطلاق))
-قول ألماني مألوف –
في منتصف العمـر… وبالضبط في النصف الثـاني مـن الثلاثينـات، و (لاحقا )، يبدأ الرجل بـالنظر إلى نفسه في (المستقبل)، وتبدأ المرأة بالنظر إلى نفسها في (الحاضر)، ويطلق الاثنـان نظـرة أقرب إلى الحسرة، ويلوذان بالعزاء الجاهز والصالـح للاستعمـال حتى الـرمـق الاخـير من خط النهائية : (لايزال هناك متسع من الوقت).
فهل هناك متسع من الوقت حقاً !؟
الحاضر عملياً غير موجـود لأن اللحظة الحاضرة سرعان ما تمضي لتصبح مـاضياً.. وتأسيساً على ذلك، فإن الماضي والمستقبل هما اللذان يتجاذبـانك من الناحية العمليـة.. وعندما نصل إلى ذلك العمـر، الذي يبـدأ فيه النظر إلى الماضي، من أجل الإمساك بالمستقبل، ينهمر وابل من التساؤلات حول مافات أو مات وما قد تحقق..
إنها محطة للتوقف والتامـل كانت تبـدو بعيدة جداً حتى إذا وصلناها ونظرنا إلى الوراء بدت لنا قاب قوسين أو أدنى من المحطات السابقة.
الذين عاشوا الحياة (بالفعل) لا (بالخيال) سيتشبثون بها أكثر (وهذا أمر جيد إن لم يقد إلى مبـالـغـات صبيـانيـة أو سخـافـات غـير محسوبة النتائج)! أما الذين عاشوا الحياة بالوعود المؤجلة فسيحاولون استدراك الخطأ بخطأ آخر: سيموتون!!!
والموت في الحياة هـو حـالـة شائعـة بين المثقفين والأدباء والفنانين ومرهفي الحس على عكس ما يفترض أن يتمتعوا به من تمسك أبيقـوري بمبـاهـج الحيـاة واحتفـالاتها ومعزوفاتها الشجية.. هذه الحالة الشائعة من الموت اليومي اليائس هي في وجهها الاخـر أقصى حالات الهيام بالحياة لأنها باختصار، وكمـا افترض أنـا (زعل) على الحياة، التي حرمتهم المباهج، تشبه إلى حد كبير(زعـل) المحب على حبيبته، التي تتمنع عليه، وما انتحار الروائي المعروف آرنست همنغواي إلا حالة متطرفة من حالات هذا (الزعل)، ذلك إنه قال قبل انتحاره، وبعد أن اتعبتنه الشخيوخة: (ما قيمة الحياة حين لا تكون فيها قدرة على اللهو أو كلمات للادب او وقت للحب). ومع ذلك فان الاثنين: الحيويين واليائسين سيبهضهمـا قصر الحياة وسرعتها البرقيـة الفائقة.. وسيصـل الاثنان إلى خط النهاية بفارق بسيط جداً: الأول سيغص بـالـحـيـاة والثاني سيختنق.
شاعر من اولئك الشعراء الحيويين جداً قال لي ذات مرة بعد أن اجتاز الستين من العمر: (أخرج من البيت مرعوباً وأنا أكاد أصرخ كلمـا فـكـرت بقصر الوقت المتبقي لدي كي أحياه.. إنه الخوف من الموت).
فكـرتُ مع نفسي أهذا هو نفس الإحساس الذي يحس به شيخ متقاعد يجلس على مصطبة المقهى ويلهو بحبات المسبحة، أم أن الشاعر يشعر أن حياته أثمن من حيوات الآخرين.. وكلمة (حرامات) نقولها نحن جميعاً عندما يموت العالم العبقري أو الشاعر الفذ .. فهل لو كان أحدهما قد عاش أكثر مما عاش سيمنح الحياة أكثر مما منحها.. أم أن ما أصابه وما أخطأه قد اكتملت دورته كما يكتمل كل شيء في الطبيعة، ولم يعد هناك ما يضاف إليها؟
يقول أشد روائيينا حيوية وانتاجاً: (بل ثمة ما يضاف، فلدي أفكار لم أكتبها بعـد، وكتب لم أقرأها بعد، وترجمات لم أنجزهـا بعد !) وشباب الستين والسبعين أولئك نصادفهم دائما بيننا أو بعيداً عنا في كتاب ورسامين وفنانين مثل جبرا ابراهيم جبرا وفائق حسن وعلي جواد الطاهر والجـواهري وبيكاسو وسلفادوردالي وانتوني كوين وتولستوي، فهل يرتبط الأمر بفسلجة الدماغ وكيميائية خلاياه فلا تصاب تلك الخلايـا بالعطب حتى بعـد تجاوز سن الشباب.
نعم.. يرتبط. فالمشتغلون بالفكر والعلم والأدب تكون أدمغتهم، دون قصد منهم، في حالة تريض مستمرة، الأمر الذي يبقها في حالة تيقظ وتوقد مستمرين لفترة أطول مما يعيشه الأشخاص العاديون. وفي الوقت الذي لم يتوصل فيه الباحثون إلى اعطاء تفسير واضـح لبـايـولـوجيـة الشيخوخة قرروا، كحد أدنی، تحلیل أسبابها، ومن بين أبرزها الفكرة التي تؤكد على أن الشيخوخة مبرمجة جينياً كبقية مراحل الحياة، فكما أن جينات النضوج الجنسي تبدأ بالعمل في مرحلة الشباب، كذلك تفعل جينـات الشيخوخة في مرحلة لاحقة من الحياة، وبالطبع ليس هناك شك بأن للجينات دوراً كبيراً في الشيخوخة، ولكن من الصعوبة ان نتصور سبباً منطقياً يفسر تطور جينة عاقلة لاغراض الشيخوخة!!
وبدلاً من أن يرفض العلماء النظرية الجينية للشيخوخة تماماً قلبوها رأساً على عقب.
فقد تساءل البعض منهم قائلاً: لربما يمتلك الناس جينات لأطالة العمـر بدلاً من إلحـاق الشيخوخة بهم، وعلى الرغم من عدم العثور على جينات من هذا النوع بين البشر، إلا أن دودة مدورة اسمها (النيماتودا) تمتلكهـا، وتزيـد معدل عمرها بنسبة ستين بالمئة من المعدل الطبيعي.. والعلم يحاول جاهداً التعرف على كيفية تأخير هذه الجينة للموت..
ومع ذلك، فلابد للجينات في آخر المطاف أن تصاب بالبلى والتلف، وتبدأ هذه الحالـة عند الإنسان بعد الثلاثين من عمره تقريباً. كما إن الزمن قد يشيب في داخلنا قبل أن يشيب في الخارج.. وعندما تنبثق الشعرة البيضـاء الأولى في هذا الداخل ندعوها إلى المبارزة وفق عناد عجيب من أجل البقاء والاستمرار.
يعتقد الكثير من المبدعين الذين سألتهم حول هذا الموضوع أن دورة الحياة قد تختلف من إنسان لاخر، وقد تكتمل في وقت مبكر كما حدث مع (رامبـو) الشاعـر، الذي قـال أعظم شعره في العشرين، ثم مات وهو في الثلاثين، ومع ذلك لو أتيح لنا أن نسال رامبو نفسه عن موته المبكر أو السياب أو أدغـار ألن بو أو جيمس دين، لما سمعنا منهم على الأغلب جواباً يتعلق باكتمال دورة الحياة.. فهناك دائمأ ورقة تُركت ناقصة..
أو فكرة ظلت مؤجلة..
أو درج مقفل لم يحن أوان فتحه بعد.
وعنادنا العجيب من أجل البقاء هو في الحقيقة المواساة العظيمة التي تمنحنا أياها الحياة في كل مرحلة من مراحـل العمر، فهـا هـو الـزمن الصديق قد انقلب عدواً، ومع ذلك فانظروا إلى الجد الذي يلاعب أحفاده، أو الجدة التي تحيك لهم الملابس الصوفيـة، وتأملـوا هذا التكيف العجيب مـع الـزمن والاستسلام لقسـوتـه الحميمة. ينفر من قطيع هـذا الاستسلام الجمـاعي للزمن، ويتمرد على قانونه القاسي نفر ضـال.. عربات خارج الموكب.. طيور خارج السرب.. فيعيشون ويعيشون.. ويعيشون وتستدعي حيويتهم الفائقة أكثر من حيـاة وأكثـر من رحلة..
وحتى أولئك الذين ينظرون خلفهم فلا يجدون سوى رميات متباعدة من الحظ، وأكوام مكـدسـة من الفشـل: حتى أولئك سيبهضهم الإحساس بعدم وجود فرصة أخرى لتصحيح الخطـأ وتـلافي الإحباط.. أولئك سيكـون (زعلهم) على الحياة أشد لأنهم خسروها وهم أشد الناس هياماً بها.
مجلة ألف باء 1992