أصحاب الذوق الرفيع
ميسلون هادي
ليس الجمال دائما أن تكون ذا بشرة شهباء صافـيـة وعـيـون حـوراء واسعة وملامح رقيقة منمنمة، فكـم مـن رجل وسيم الملامح (سقط من أعيننا) بسبب بشاعة سلوكه وافتقاره إلى الليـاقـة، وكم من امرأة باهرة الجمال ضقنا بها ذرعا بسبب تفاهة كلامها أو حماقة ملبسها، إنما الجمال، كما أراه هو أن تكون ذواقـا فـي مـلـبـسـك ومـأكـلـك ومـشـربـك ومسكنك ومشيتك ومجلسك وملفظك، أي باختصار أن تكون ذواقـا فـي إسـلـوب حـيـاتـك، وكلما تأنقت فيه وتلطفت أكثر، فهذا يعني إنك جميـل وإنك محبـوب وإنك لطيف.
وإلی سـنـوات خـلـت كـان أصـحـاب الـذوق الرفيع يستطيعون التعبير عن هذا الذوق في مختلف تـفـاصـيـل حـيـاتـهـم الـيـومـيـة، فيملكون وبما في حوزتهم من نقود قليلة، أن يقتنوا أشياء بسيطة ولكنها جميلة ولطيفة وتفرح القلب، بل كان بمقدورهم أن يتوسعوا في التعبير عن ذوقهم الرفيع بتقديم لمساتهم الجميلة كل الاشياء التي يصادفونها في حياتهم، ليقتطعوا من جمالهم وذوقهم جمالا وذوقا يضفونها على المكان الذي يتواجدون فيه، وبذلك تكبر دائرة الجمال وتتسع وتتألق، فمن بين آلاف المدارس الـتـي تـتـشـابـه فـيـهـا الـصـفـوف والرحلات والجدران تاتي معلمة جميلة مـن هـذا الـنـوع لـتـحـيـل صـفـهـا إلى واحة نظيفة مختلفة عن كل الصفوف ترتاح لها عيون الصغار وتطيب لها انفسهم، ومن بين آلاف الـبـيـوت الـتـي تـتـشـابـه فيها الظروف والميزانيات تأتي ربة بيت جميلة من هذا النوع لتحيله إلى جنة من جنائن الارض، وفي زاوية صغيرة تتشابه مع باقي الزوايا الثلاث في الغرفة الواحدة يصادف جلوس موظفة جميلة من هذا النوع، فتحيل تلك الزاوية الجرداء إلى بستان من الأضواء والألوان، فـالـجـمـيـل لا يمكن أن يجلس إلا فـي مـكـان جـمـيـل، وأن يـقـول كلاماً جميلاً، وأن يهب هذه الأشياء الجميلة للآخرين، حتى وإن كانت بسيطة جداً، ولا تلتمع إلا ببريق هادئ وحميم. ولكن غلاءالمعيشة وما نتج عن الحصار من ارتفاع فاحش في الأسعـار جـعـل حـتى الجمال مكلفا وباهظ الثمن، ولم يعد بمقدور صاحب أرفع الاذواق أن يـعـبـر عـن ذوقـه وحـبـه للنظافة والجمال، إلا إذا كان من أصحاب الآلاف المـؤلـفـة، إن لـم نـقـل مـن أصـحـاب الملايين، فهو مجبر على أن يكتم غيظه إذا نظر إلى الجدار المتسخ الذي يواجهه كل يوم في بيته، لأن طلاءالجدار يكلف آلاف الدنانير، ومجبر على أن يرتدي الحذاء الأسود نفسه، الذي خيط في أكثر من مكان، لأن شراء آخر جديد يكلفه آلاف الدنانير، ومجبر على أن يغتال رغبته في الـقـمـيـص الجـمـيـل المـعـلـق في واجهةالمتجر لأن ابنه أحق منه فيه، ومجبر على أن يستغني عن المصباح المنضدي الذي يحتاج إليه في غرفـة الـنـوم لأن مـجـرد التفكير فيه جريمة لا تغتفر بحق ميزانية العائلة.
كم هو مؤلم هذا الحصار.
مجلة عشتار. التسعينات
شاهد أيضاً
الأحلام لا تتقاعد
لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …