أشقاء الألفية الثالثة

أشقاء الألفية الثالثة
ميسلون هادي
ذهب الوقت.. وطوى معه أسماء الذوات والأكابر والسلاطين.. ولكل حقبة أقلام لا تُنسى.. امتلكت العين التي ترى، واليد التي تكتب.. مدادها هو الألمع بين رماد السلاطين .. لأنه أبى أن يحصر الحقيقة في نعت واحد. ثم جاءت الألفية الثالثة، فجعلتنا نشهد انتشارا كثيفا لجيوش هواء خفية تداهم بيوتنا عبر اللوحيات والهوتف الذكية، وتفتح نوافذ المستخدمين على العالم من الجهات الأربع… أصبحنا لا نلتقي فقط مع مداد العظماء والشعراء الخالدين، وإنما نطالع وجوهاً قد نعرفها وقد لا نعرفها وأسماء مألوفة وقديمة وأخرى جديدة نتعرف عليها لأول مرة.. فنقرأ نصوص أولئك وهؤلاء، ونتأمل قصائدهم وقصصهم ومقالاتهم ونحاورها بالكتابة أو مع أنفسنا لنكتشف، من خلال ذلك، صلات القرابة الروحية بيننا وبينهم وأرومة الأفكار الواحدة التي تجمعنا وتوحدنا بل التوارد والتخاطر بين تلك الافكار والكتابات.
في ترجمة جميلة للكاتب والمترجم المبدع عدنان المبارك لقصيدة عصا بورخس يصف الأخير علاقته بصانع العصا التي يحملها ويقول أنه ينظر اليها ويفكر بالحرفي الذي لوى الخيزران، ولكنه لايعرف ان كان ذلك الحرفي مازال حيا أم مات ثم يقول في تتمة القصيدة:
لن نلتقي نحن الاثنين أبدا
لقد ضاع هو بين الملايين التسعمائة والثلاثين
لكن هناك شيئا يجذب اليه.
وليس بالأمر غير الممكن أن أحدهم فكر بهذه الصلة منذ قديم الزمان.
وليس بالأمر غير الممكن أن يكون الكون بحاجة الى هذه الصلة.
وهذه الصلة التي تحدث بورخس أن الكون بحاجة اليها، تبدو لنا بين ذوي القربى الثقافية متواصلة بشكلين: أولهما أفقي راهن بين أبناء الجيل الواحد والأجيال التي تسبقه وتليه، وثانيهما عمودي تاريخي موصول من أقدم أجيال الكتاب وأوائل مبدعيهم ونحاتهم ورواتهم إلى يومنا هذا. فالذي نجا ووصل الينا بعد أن (مات المؤلف) قرأته البشرية جمعاء وتأثرت به، والأدباء منهم على وجه الخصوص انفعلوا به وتناصوا معه… وربما أعادوا انتاجه بهذه الطريقة أو تلك، دائرين في فلك دورة لاتنتهي من التأثير والتأثر ومن الفعل ورد الفعل لحين وصلوا في هذه اللحظة من التاريخ الى هذا المنتج الذي ينظر اليه على أساس أنه عصري أو منتم للحداثة ، ولكنه لم ينكتب من تلقاء نفسه، وانما جاء نتيجة لهذا التراكم والتواصل ووقوع الحافر على الحافر.
لقد كنت واحدة من الذين يتباكون على انحسار الكتاب في عصر الفضائيات، ولا زلت أفعل ذلك أحيانا من باب الرومانسية التي هي جزء من طبيعة الكاتب، ولكن لا أجد بدا من الاعتراف بأن الانترنت العجيب هذا، جعلنا نقرأ لكتاب كنا نسمع عنهم ونحن داخل العراق ولكننا لا نقرأ كتبهم ولا نعرف أعمالهم، بسبب ظروف بغداد المعروفة سابقا ولاحقا، أما ونحن نراهم عبر شاشات المواقع، فنشعر بأنهم ليسوا غرباء ولامجهولين، بل أحبة وأقرباء نعرفهم ويعرفوننا ومن المؤكد أننا في هذا المكان الواحد نلتقي بفضل موج الهواء المستقيم. فقد تقرأ جملة فلسفية تشبه مافي جعبتك من أفكار وتأملات، أو مقالة سياسية تنزل على قلبك كالماء البارد لأنها تترجم حرفيا مافي رأسك من آراء وانطباعات. ولو كان العالم النفسي يونغ حاضرا بيننا الان، لوجد في أحوال هذا العصر الالكتروني تطبيقا آخر من تطبيقات نظريته التي تقول أن البشر الذين يعيشون في زمان واحد تردهم الأفكار نفسها أو يفكرون بالطريقة ذاتها حتى وان اختاروا العيش في أمكنة مختلفة.
أصبحنا جميعنا نلتقي في هذا المكان الجديد وإن كنا بعيدين. وهذا المكان متعب أيضاً لأنه يحشد مليون شخص في مكان واحد.. ويتحدث سكان الهواء إلى سكان آخرين… فتظل الأحاديث تدور من مشرق الشمس وحتى مغربها… تطير الكلمات فوق رؤوسنا الآن؟ والى أي بريد هي ذاهبة في القمر الصناعي؟ من كتبها؟ ولمن كتبها؟ وماهو موجود فيها؟ وهل يأتي اليوم الذي نستطيع فيه أن نقرأها مباشرة دون الحاجة الى وسيط، وذلك بأن تهسهس في رؤوسنا كما تفعل الجن؟؟ في هذه الحالة كيف سنحافظ على أنفسنا وعقولنا من الجنون.
هذا العالم الصاخب يجعل الوقت يمضي سريعاً، وهذا البحر المتلاطم من الكلمات والأرقام والمنشورات أغرقنا في عالم مزدحم ومتعب أصابنا بالتيه والذهول، بحيث لا ندري كيف نلاحق مستجداته ومنشوراته التي تتعدد وتتغير باستمرار.. الإشارات والمنشورات والصور والملصقات والأغاني والوجوه التي تغني وتمثل وتعزي في الوفيات أو تهنئ في الولادات.. جورج وسوف مثلاً غنى حلف القمر يمين يوم أمس، واليوم يشيب ويشيخ على الملأ، ووحيد المنزل الذي شاهدناه طفلاً أصبح في عداد الكهول…. إنهم يكبرون أمام أعيننا.. بالأمس كانوا هناك ثم تساءلنا أين هم. لم يتبق منهم أحد.. جميعهم يتبخرون كالبنزين أو يختفون كالبخار.. فما أغربه هذا العصر العجيب… وما أكثرهم أشقاء الروح الذين تدور أسماءهم حولنا في الهواء ولا نحتاج لكي نراها الا الى هذا الأثير الذي يجمعها في مكان واحد.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *