الراية البيضا

الراية البيضا
أداء حالم على وتر واقعي.
ميسلون هادي
-في حب الاسكندرية الجميلة وإلى كل ماهو جميل وأصيل.. أسامة انور عكاشة ومحمد فاضل يفدمان روايتهما الجديدة : (الراية البيضا)
هكذا يقول الصوت الرخيم في مقدمة مسلسل (الراية البيضا) الذي قدمه تلفزيون بغداد مؤخراً.. وروايتهما الجديدة هذه رائعة أخرى تُضاف إلى روائع هذين الفنانين القديرين: اسامة أنور عكاشة كاتباً ومحمد فاضل مخرجاً. وفي هذا العمل بالذات فانهما استطاعـا (حياكة) غلالة شفافة من (السحر) حول أحداث شديدة الواقعية في عالمين شديدي التناقض والاختلاف.
تدور أحداث المسلسل بين عالم مفید أبو الغار المفعم بالثقافة والقيم والفضائل، وعالم فضة المعداوي المغرق في السـوقيـة والانحدار والابتذال، وقد شاء الكاتب أن يجعلهما (متجاورين تماماً) وعلى أرض واحدة يتنازعان من أجل (الفيلا)، التي يريد أحدهما تحويلها إلى عمارة، بينما يرفض الثاني نهائيا فكرة التخلي عنها، وهي فكرة قد تبدو في غاية البساطة للوهلة الأولى، ولكنها في حقيقتها فكرة لماحة وذكية جداً، وأوحت لنا منذ البداية بالمعنى الرمزي الكامن وراء العمل ككل.
اما (الفيلا) محور الصراع فهي في ظاهرها البيت الدافيء الجميل الذي يتشبث السفير السابق للحفاظ عليه ماتبقى له من أيام العمر، وما هي في جوهرها إلا رمز لكل القيم الأصيلة التي تكاد تدوس عليها أقدام القوة الضارية المتمثلـة بـ (الفلوس)! الدفاع عن هذا البيت هو الدفاع عن تلك القيم والتاريخ الذي يقف وراءها، والتخلي عنها يعني التخلي عن ذلك كله، وإخلاء السبيل للقبح والإنحطاط لكي يحلا محل الجمال والسمو.
منذ البداية أوضح لنا المخرج عمق الفرق بين العالمين.. ربما بالغ في إظهار جمال الأول وبشاعة الثاني، ولكنها مبالغة لابد منها. فليس من الضروري أن يكون الفن مطابقاً للواقع.. بل هو يجب أن لا يكون، لكي يتمكن من اكسب المشاهد إلى صف الجمال، ويعطيه صورة هي أقرب إلى التشكيل منها إلى الفوتوغراف.. صورة تشبه – الحلم – عما يجب أن يكون عليه الجمال، ليتأملها المتلقي ويتمنى أن يجد مثلها في مكان ما، سواء في حياته أو في حياة الآخرين.
عالمان متضادان تماما.. الشياطين فيه يملكون الأفيال والتماسيح والخنازير(يبرع أشقاؤنا المصريون في اشتقاق المصطلحات الملائمة لمستجدات الحياة). والملائكة فيه لايملكون سوى الأحلام والكتب والموسيقى، وعندما ينتقل بنا المخرج بين مشاهد هذين العالمين نكتشف عمق الفرق وبعد المسافة : مشهد في بيت أبي الغار لفهرست کتب نیتشه وديكارت وبرناردشو، يقابله مشهد آخر في وكالة فضة لقراءة أخبار الممثلات والراقصات في المجلات الفنية الرخيصة . ومشاهد في بيت أبي الغار لسماع الموسيقى أو ارتشاف فنجان قهوة، تقابلها في بيت الحاجة فضة مشاهد للشيشة وقزقزة اللب ومنسف للانقضاض على الرز والفراخ واللحمة بشراهة.
حتى تكوين الجسد والوجه لبعض الممثلين لعب دورا في تجسيد هذا التناقض بين العالمين .. فاختار المخرج لاداء شخصيات أبناء (فضة) ممثلين من ذوي الاجسام الضخمة والوجوه التي لاتخلو من بشاعة (حتى سمحة ذات الوجه المليح أظهرت بادائها المتقن ونبرات صوتها هذه البشاعة والسوقية)، وينطبق ذلك أيضا على المحامي(ابو طالب) والمعلم (حنفي) والصبيان (حمو ونونو).. في الوقت الذي اختار فيه لأبناء الفريق الآخر وجوها رومانسية ذات تعبيرات نبيلة وأجساد ناحلة.
(أمل) التي أضفی أداؤها سحراً خاصا لوجهها، و(هشام) أكثر تلك الوجوه وسامة ورومانسية، و(مطاوع) الذي قدم لـ (الحديني) واحداً من أجمل أدواره في هذا المسلسل.. ناهيك عن (الدكتور مفيد) بشخصيته الجذابة وحركاته المثقفة وطابعه المميز… لكل عالم من هذين العالمين لغته الخاصة.. وليس بينها لغة مشتركة على الإطلاق، ولحسم الصراع فقد تحدث كل منهما على طريقته: (فضة) بالشراء بالفلوس، و(ابو طالب) بالحيل والثغرات القانونية، و(حنفي) بالعزب والفتـوات، و(الأبناء) بالواسطات ودفع الرشاوى، أما عالم (مفید ابوالغار) فقد كانت وسائله مختلفة، ولغته سليمـة ونظيفة، مفرداتها الصحافة وإثارة الرأي العام والتحلي بالاخلاق والأمانة.
(سناء جميل) قدمت لونا مختلفاً عن لونها تماماً، ولكنها استطاعت أن تجسد شخصية امرأة متسلطة وحديثة النعمة وذات ذوق رخيص، وأن تقنعها بهذا الدور الجديد (عليها) بادائها المدهش الذي منحته الكثير من القوة والبراعة .
تفاصيل المسلسل كانت كثيرة ومتشعبة، وقد رسمها الكاتب بذكاء لعبت فيه حتى الصدفة دوراً مقصوداً من أجل تحقيق الهدف النهائي للمسلسل، وجسدها المخرج بمهارة وإيقاع حيوي للغاية ليس فيه جرجرة ولا فضفضة. كما ان الشخصيات الكثيرة، التي ساهمت في العمل، صنعت جميعها (وبدون استثناء) نجاح المسلسل وتألقه، وكان للأداء في هذا العمل سحر خاص أضفى على جو المسلسل نوعاً من الرومانسية تذكرنا بمسلسلات مثل (الشهد والدموع). و (لحب وأشياء اخرى) و(أبو العلاالبشري)، وكعادته، أسامة أنور عكاشة، فانه يبرع في جعل الحوار نقطة جذب مضافة إلى نقاط الجذب الأخرى في الأعمال التي يكتبها، فلا جملة تقف (حجر عثرة) في طريق النص، ولا كلمة تنزل (كالطابوقة) فوق رؤوس المشاهدين !
أما مكملات المسلسل الأخرى كالموسيقى التصويرية والديكـور والملابس والاكسسوارات … الخ فقد ساهمت جميعها في جعل هذا العمل متسربلاً بالنجاح من قمة رأسه وحتى أخمص قدميه.
جريدة القادسية، 2-2-1989

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *