أسلوب في الحياة

أسلوب في الحياة
ميسلون هادي
مثلما هناك خيروشر، وحق وباطل، ونور وظلام، هناك دائما من ينظر إلى الاشياء بجدية وتفاؤل وأمل، وهناك من ينظر إليها بیأس ولاجدوى وتشاؤم.. وإنما من صراع تلك الأضداد تولد الحياة وتنمو وتتقدم، ومن صراعها أيضاً تكتسب هذه الحياة حلاوتها وقيمتها واستمراريتها، ولكن بالقدر المحسوب لكل كفة، وليس على حساب طغيان كفة الأسود على كفة الأبيض، أو الظلمة على النور، لأن هذا سيجعل مساحة الموت في الحياة أكبر، ووقت
الذبول لكل ثمرة تتفتح أسرع وأقصر طريقا إلى الفناء.
وفي الآونة الاخيرة تكاثرت بيننا أنواع من الكائنات تجعل من هذا اليأس إسلوبها في الحياة، وترفع شعار «يللـه دمشي» و «يلله يامعود» أينما ذهبت وفي كل مكان تحل فيه.. هذه الطريقة في التفكير سواء كانت متأصلة بالبعض، أو هي جزء مماجبلوا عليه من طمع، إلا انها راحت تصُيب الكثيرين، أو تمسهم بعدواها فيما بعد، وتشـاء ظـروف الحصار وأجـواؤه الخانقة، أن تسهم بأنتشار هذا النوع من التفكير الطارىء مثل انتشار العفن على فاكهة طازجة، أو خبـز شهي، حتى أصبحنا نتعثـر بجماعـة تسخيف الأشياء والنظر إليها بلا جدية اينما تردد وقع خطی واثقة في الطريق .
إن حـالة اليـأس التي يشعها هؤلاء وتسـورهـم كـالمجـال المغناطيسي، هي مما يمكن أن يصيب آخرين ممن يجاورونهم أو يصادقونهم أو يعملون معهم، ولكم ان تتصوروا خطـورة أن يوجد كائن من هؤلاء على رأس دائرة أو مدرسة أو قسم أو شعبة أو ماشابه.. وبأي حال من انعدام الأمل يترك دائرته ومرؤوسيه، إذا كان هو نفسه غير قادر على أن يمنح نفسه الأمل والجدوى.
إن هذا الأنموذج أصبـح يفرز عـلى الآخرين عصـارة ضجره ويأسه، ويسخر من أية طريقة أخرى في التفكير تنظر إلى الأشياء بجدية وحب وتفاؤل.. ولو (على سبيل المثال لا الحصر) سألت سائق أجرة أو حافلة أو باص عن سبب اتساخ سيارته، لأكتشفت على الفور ومن نبرة صوته، قبل أي شيء آخر، أن هذه الطريقة اليائسة في التفكير تسوّغ له تقصيره وتقوده إلى السخرية من الإقبال على الأشياء، والنظر اليها بشوق وحماسة.
إنها الظروف المعيشية الصعبة.. وهـذا أمر يسـوغ هذه الحالة ويعطيها العذر إلى حد ما، ولكن لنا ان نتصور أن تنتقل هذه الطريقة اليائسة في التفكير إلى جيل آخر يكبـر، ويتفتح، ويتلقف الأفكار الجديدة مثل أوراق بيض لم يُكتب عليها شيء بعـد.. ماذا يمكن لهذا الجيل أن يحتضن من قيم وأساليب صحيحة في الحياة، إذا كان ينشأ تحت ظل مثل هذه النماذج، وإذا كان ظرف الحصار هو الذي ينتجها، وهو ظرف طـارىء سيزول ذات يوم، فكيف يمكن أن نمحـو من أذهان الناشئين، أو البعض منهم ممن تبنـوا هذا الأسلوب الغريب في الحياة، شيئاً قد ترسخ فيهم، لنزرع بالتالي الشيء الآخر الطبيعي والصحيح والأكثر شوقاً واحتضاناً للحياة
إنه أثر اجتماعي من آثار الحصار بدأ يظهر وينمو وينتشر. وهو لا يقل في خطورته عن أمراض التلوث التي تفشت بين الناس بسبب نقص الغذاء أو الدواء أو بسبب ما أطلق الأعداء عـلى العراق من أسلحة تدميرية وكيمياوية ضارة..خطورته تكمن في أنه يشكل أسلوباً في الحياة..وياله من أسلوب خطير ذلك الذي يسخف الأشياء ولاينظر إليها بحب، ولا يترك أي مكان يحل به، إلا وهو ميت لا تسمع فيه غير صمت الخرائب، بل أن الحلم عـلى أرضه الرخوة مبتلع إلى الظلام، وذاهب إلى غياهب العدم.
الف باء، 2-4-1995

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *