كلُلوش عرض كتاب

عرض كتاب
كلُلوش ولعبة القص الدائرية*
ميسلون هادي
April 22, 2018
جريدة الزمان

من تخصص الأحياء المجهرية جاءت الدكتورة رغد السهيل لتضع العالم الواسع تحت مجهرها، وتجمع في منطقة واحدة بين احساس الفنان، وعبثية الواقع الذي تنظر إليه. تظل اليرقات مع الأقدام مع الوجوه تتكاثر تحت عدسة هذا المجهر ولا تنتهي.. تثير دهشتنا، وتحاول أن تدهشنا أكثر، فنخرج من مجموعة (كُللوش) وقد اكتشفنا بأننا كنا داخل عالم الأحياء المغلق، حيث كل قصة تقود إلى القصة التي بعدها في فكرة جذابة ومبتكرة تتسلسل فيها الحكايات كما لو كانت سِفراً واحداً.
(كانت كللوش تضع فوق رأسها إكليلاً من الخوص المحمل بالرطب البرحي كقوس دائري تثبته بدبابيس على شعرها، وقبل أن تخرج للعمل تطلق زغاريدها فتتجمع فوق رأسها العصافير وهي تزقزق، وتنطلق مع عربة جدتها الخشبية لتجمع النفايات وهي تغني تارة وتزغرد تارة أخرى).. هكذا تصف الكاتبة رغد السهيل بطلة القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، وهي ليست أميرة أو وصيفة، وإنما ذبابة من سلالة الذباب الملكي الأصيل تغادر قرية لا تنتهي معارك قومها فيما بينهم بالحجارة والسكاكين.. . فالكاتبة إذن لا تنظر من خلال مجهر مختلف حسب، و إنما تدون ما تراه بطريقة مختلفة أيضاً، وقد قدمت في مجموعتها القصصية الأولى (ضحكة الخاتون) بواكير هذا الاختلاف، ثم ألحقتها بـ (سايكو بغداد)، ثم (أحببت حماراً) ذات النفس الساخر المتهكم على المجتمع الذكوري.

عندما تنتهي قصة (كُللوش) بهذه الفقرة: ( ثم كتبت قصة، ليست هذه القصة، إنما قصة الأفندي دال نقطة)، سنجد القصة التي تليها من المجموعة هي (الأفندي دال نقطة). وهكذا تسلم كل قصة نفسها إلى القصة الأخرى التي تليها، كما هو الحال في ركضة البريد، فنصل إلى قصة (ركلة قدم) وهي قصة تمزج فيها الكاتبة، بين سحر الفانتازيا ورثاثة الحياة الارضية التي نعيشها. تقول فيها: (طلب مني والدي السير بهدوء، فقلت له: هناك قدمان تركلانني، لا أعرف السير بروية)….. لم يصدقها أحد، فآثرت الصمت…. القدمان تظهران من جوف الأرض خلفها، بحيث تظهر القدم الأولى من شق في الأرض، ثم تلم الأرض نفسها حول مكان بزوغه، لتتفتق وتنشق مرة أخرى عن شق جديد تظهر منه القدم الثانية، فالأرض حبلى بكائن مقلوب، يظل يركل بطن أمه كما فعلت هي ببطن أمها.. وبمثل هذه الصور الخلاّقة تقدم لنا رغد السهيل مجموعتها الجديدة التي تعمل في منطقة سردية تسترعي الانتباه بالفعل، ولهذا استوقفتني ودونت ملاحظاتي عنها، فهناك في ثناياها ما هو أكثر إيلاماً من نظرية الركل هذه، ومن الموت نفسه، إنها يوميات أم الحارث الجارة الجميلة الطيبة ذات الشخصية الآسرة التي قُطعت نخلتها المدللة، بعد أن ماتت صاحبتها في أيام بغداد الرمادية، فلم يبكها أحد، ولا أُقيم لها مجلس عزاء، إنما عُلقت على جدار بيتها لافتة تقول بأن البيت للبيع، مع رقم هاتف الوريث الوحيد للاستفسار عن سعر البيت.
السرد أشبه بفن النحت، وليس عليه إلا إزالة الشوائب من الصخر كما تقول القاصة رغد السهيل.. وعندما تأتي على ذكر النخلة، ستستدعي الروائي غائب طعمة فرمان، مثلما استدعت جمعة اللامي عندما جاءت على ذكر حديقة زينب، وشخصيات أخرى من أعماله السردية. وحتى ديستوفيسكي سيكون له حضور، وبعض الشخصيات الحقيقية لها حضور أيضاً من خلال قصة (موت أم)، عندما يسند طفل رث الثياب ظهره إلى أحد المحلات، ويضع ميزاناً بقربه.. ستقترب الحسناء منه وتقيس حذاءه القديم، لكي تشتري له حذاءً جديداً يؤدي إلى تداعيات كثيرة تبدأ بنعال (ابو تحسين)، وتنتهي بحذاء منتظر الزيدي.. فالمكان هو بغداد، والزمان كان شهر نيسان.
هناك حضور لشخصية القاصة أيضاً يكسر حاجز الوهم، ويعزز عنصر الغرائبية التي تحفل بها المجموعة، وقد يُؤخذ على القصص أحياناً غلوها في عنصر الغرائبية هذا، بحيث بدت لنا قصة (التركة)، وهي القصة الأخيرة في المجموعة، خارجة عن ذلك الإطار الفانتازي في انتمائها لواقع أرضي عارضت فيها الكاتبة قصة الملك لير بقصة أخرى.. غير أن لعبة (كلُلوش) الذكية تبقى مستمرة فتقودنا قصة (التركة) بشكل دائري إلى (حديقة جمعة اللامي)، وهي القصة الأولى من المجموعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“كللوش” لرغد السهيل صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

الأحلام لا تتقاعد

لو أنَّ حدّاداً تعب وهجر مهنته أو نجّاراً شاخ فتوقف عن العمل أو محاسباً بارعاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *