السرداب

كان موجوداً معهم … في السرداب !
ميسلون هادي .
(( لو لم يكن هذا الشخص هو جدك لكان من الصعب ان نسمع عنه)) هذه الكلمات التي وردات في كتاب يروي جوانب من مشاهدات ومذكرات هيرمان هسيه لا تحتاج فيما اعتقد إلى الكثير من الإيضاح , فالتجارب التي يمر بها الكاتب لا تلبث ان تصبح مع مرور الزمن مادة روائية أو بيوغرافية معلنة ومتاحة للجميع لتدل على الكثير من تفاصيل و أبطال تلك التجارب مهما حاول ذلك الكاتب تكييفها أو حجبها وراء رموز ومتاهات ولمسات من الواقع أو الخيال.
ورواية الكاتب و الشاعر و الروائي العراقي يوسف الصائغ الجديدة ( السرداب رقم 2) تقترح علينا ان نتبنى مثل هذا الاعتقاد ما دام الكثير من سيرة الكاتب الشخصية معروفة للقارئ خصوصاً وانه واحد من القلائل الذين كتبوا في أدب السيرة , وقدموا جوانب من حياتهم الخاصة بشكل اعترافات تجربة القارئ و أضافت للكاتب وللثقافة العراقية رصيداً مهماً يمكن اعتباره ريادياً ومختلفاً في مثل هذا التنوع الجريء و الحيوي من أنواع الكتابة .
تدور أحداث رواية يوسف الصائغ الجديدة داخل معتقل للموقوفين ينخفض تحت سطح الأرض بعدة سلمات متخذاً اسمه (السرداب ) من ذلك الوضع الخانق و المحاصر و المعزول في باطن الأرض , وهذا النوع من المكان قد استهوى الصائغ في كتاباته السابقة ( المسرحية منها على وجه الخصوص ) , فجعله بطلاً لأكثر من عمل الأمر الذي يحيل المتتبع لأعماله إلى ضرورة إضاءة هذا الجانب من أدب الصائغ , وهو جهد نقدي يدخل في اختصاص علم النفس الإبداع الذي اخذ يستهوي الكتاب من الأطباء النفسيين بممارسته , مقدمين من خلاله قراءات مشوقة لنماذج مضيئة من الأدب العراقي .
تروى الرواية بصيغة الشخص الأول المتكلم , وإذ يفرد الكاتب فصلاً لكل معتقل من المعتقلين يعرف فيه بشخصيته , فان ذلك الشخص المتكلم هو الوحيد الذي يبقى غير معروف لا بالاسم و لا بالمهنة و لا بالعمر ولا بالسبب الذي من اجله يشارك أولئك المعتقلين وجودهم في ذلك السرداب , وحتى عندما خصص له الكتاب فصلاً منفرداً هو الفصل الأخير من الرواية فقد جعل ذلك الفصل يحمل عنوان ( أنا) مكتفياً بتلك الأنا , وفيما يبدو عن أي تعرف آخر واضعاً فيها ماقل ودل من الإيحاء أو التمويه وهذا الإغماض قد اكسب ذلك الشخص طابع الشاهد المختفي خلف حاضر وهمي , يحس ولا يرى , لكي يشهد بالعقل و القلب و اللسان على محنة السرداب التي هي محنته , إلا ان الصائغ وبما عرف عنه من مهارة لغوية وفنية يتجنب الوقوع في الخطأ الذي يرتكبه حتى بعض كبار الكتاب أحياناً عند استخدامهم لضمير الشخص المتكلم أثناء رواية الأحداث .. فلا يمارس دور الراوي العليم ولا ينتقل من وعي إلى آخر دون استخدام الوسيلة التي تبرر له مثل هذا الانتقال فيلجأ إلى سرد التفاصيل التي تقع ( خارج حدود علمه ) عن طريق سماعها من شخص ثان , عندما يتعلق الأمر بشخص ثالث , وهكذا يروي كل شخص جانباً مما يعرفه أو يتذكره عن الأخر لتكتمل الصورة قطعة بعد قطعة مثل لوحة الفسيفساء , بعد ان تكون كل تلك الروايات قد صبت في مصب واحد هو وعي الشخص المتكلم ليكون هذا الشخص الذي يروي الأحداث ليس متهماً وشاهداً حسب .. ولكن قاضياً ينصت أكثر مما يتحدث ويراقب أكثر مما يفعل .. وسواء قصد الصائغ ان تكون المنصة المنزوية الوهمية والتي يجلس خلفها الرواي هي منصة المتهم أو الشاهد أو القاضي فان كل واحد منهم على حدة قد مارس دوره بإقناع وإتقان : المتهم بان يكون موجوداً في السرداب , و الشاهد بان يشهد على ما يجري في السرداب و القاضي بان لا ينحاز إلى لغط الآخرين أو ينجر وراء انفعالاتهم , وإنما يتصرف بحكمة محاولاً كقاض من نوع خاص , تفهم سلوك الآخرين و ملتمساً للأخطاء أعذارها وللحظات الضعف البشرية حاجاتها الإنسانية العميقة , وبعد ان يصل إلى نقطة معينة تكون فيها الكثير من الأسئلة و الإشكالات معلقة وغير مشبعة بعمد الصائغ إلى ترك الرواي مع نهاية مفتوحة توحي بأنه قد تسلم ورقة مدعوكة من احد المعتقلين بعد مواجهة ذلك المعتقل لأبيه وان هذه الورقة تتبعثر فيها الكلمات و تتناثر بشكل يعطي الانطباع ان مشكلة جديدة قد حدثت وأدت إليها تلك المواجهة .. وبهذا تخلى الكاتب عن إشباع الفضول الذي أثاره في نفس القارئ عن مصائر بعض المعتقلين وترك خيوط الرواية متوترة بدون ان بفضي ذلك إلى نتيجة , وذلك نقص في الرواية لم تبرره لعبة الاستمرارية التي أوحت بها النهاية الحالية و التي أثارت بحد ذاتها التباسا جديداً بقي هو الأخر معلقاً دون إشباع .
ان ما يؤخذ على الرواية أيضاً أنها وان كانت قد شهدت على تجربة إنسانية خاصة تستحق الالتفات إليها وتسجيلها إلا أننا نعرف أين ومتى حدثت تلك التجربة … ويبدو ان التعتيم على تاريخيتها جاء مقصوداً لكي تصبح ( الحالة ) هي الموضوع تحت الضوء وليست ( الواقعة ) .. كما جاءت كلمة المؤلف التي استهل بها الرواية كافية لتوضيح هذا القصد , ومع اخذ تلك الكلمة بنظر الاعتبار , فانه لا مفر من الاعتقاد , وعلى ضوء بعض الإشارات الواردة في النص , بان تلك التجربة تعود إلى فترة زمنية سابقة تمتد إلى عدة عقود وان هذا العمل قد اكتمل كمخطوطة منذ فترة طويلة .
وهنا أحب ان أقول , ومن خلال هذه الملاحظة , ان كل جيل زمني من الأجيال الأدبية يشهد ازدهار موضوعات معينة تسود دون غيرها داخل كل جنس من أجناس الأدب , فازدهرت الرومانسية في فترة و الواقعية في فترة أخرى و التجريدية في فترة و الوجودية في فترة أخرى و اللامعقولية في فترة و الواقعية السحرية في فترة أخرى … ولا اعتقد ان أدب السجون والمعتقلات هو من القيمات التي يطلبها قارئ هذا العقد .. لذلك أجد من الضروري ان ينشر الكاتب عمله ( إذا كان من هذا النوع ) بعد كتابته مباشرة أو على الأقل خلال السنوات التي شهدت أجواء وملابسات كتابته وان لا يحتفظ به في الأدراج طويلاً لئلا يكون النشر في أوان متأخرة حاجزاً بين القارئ وبين ذلك العمل .. صحيح أننا يمكن ان نعود الآن لنقرأ عملاً مكتوباً عن الحرب العالمية الثانية , مثلاً قدمه ريماك أو همنغواي ..ولكن لو لم ينشر ذلك العمل في أوانه فاعتقد ان مثل هذا الحاجز سيقف حائلاً دون تعاطف القارئ وتقديره لشجاعة العمل , وهذا رأي شخصي ليس إلا ولا اعتقد انه يقلل من أهمية السرداب رقم 2 كعمل فني جميل يحمل بصمة يوسف الصائغ المميزة منذ السطر الأول فيه وحتى سطره الأخير .

السرداب رقم 2 صدرت حديثاً عن قصور الثقافة في القاهرة _ 1997.

عن fatimahassann23

شاهد أيضاً

النصف الآخر للقمر

ميسلون هادي مجلة الأديب العدد 2 2025 القادم من المستقبل قد يرى أعمارنا قصيرة، وعقولنا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *