(التبر) لإبراهيم الكوني
الوهق و الدمية و الوهم … أم ألمهري الأبلق ؟
ميسلون هادي
منذ ان فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988 ونحن نقرأ بين الحين و الحين الأخر إشارات و أخبار مترجمة تشير إلى أن أعمال نجيب محفوظ الروائية و القصصية لم تلق في الغرب , و بعد ترجمتها إلى لغاته المختلفة , الرواج الكبير الذي لاقته أعمال نظراء له فازوا بالجائزة نفسها و ينتمون إلى ثقافات غير أوربية يكتبون بلغاتها , و اشهرهم بالطبع الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل للآداب في عام 1983 و الذي لاقت أعماله رواجاً منقطع النظير بعد ترجمتها إلى اللغة الانكليزية وتصدرت قوائم أفضل المبيعات لفترات طويلة دارت خلالها دور النشر في شتى بلدان العالم لتطبع منها نسخاً بالملايين .
و تستثني تلك الأخبار المترجمة , التي اشرنا إليها قبل قليل , ومازال حديثنا عن نجيب محفوظ _ عمله الروائي الشهير أبناء حارتنا _ و الذي ترجم إلى اللغة الانكليزية بعنوان آخر قريب الصلة إلى العنوان الأصلي هو أبناء الجبلاوي (Sons Gabalaui’s ) إذ نال هذا العمل نصيباً أوفر من الانتشار و الذيوع بسبب السمعة الحسنة التي رافقته كونه طبع خارج موطنه الأصلي بعد منعه من قبل الأزهر في القاهرة … وهو أمر معروف . ومثل نجيب محفوظ كتاب كثيرون فازوا بجائزة نوبل ولكنهم لم يحققوا الذيوع الانفجاري الذي حققه ماركيز بين أوساط القراء خلال مدة قياسية نضرب مثلاً حول ذلك بوليم كولدنغ وجوزيف برودسكي وديريك والكوت وشيموس هيني وآخرين . و تأمل هذه الظاهرة يقودنا إلى الاستنتاج بان تصنيف الكاتب نقدياً ضمن خانة الكتاب الكبار و تكريسه على مستوى الكم و النوع في بلاده ككاتب متفوق ومتربع على القمة بين إقرانه قد يقوده للفوز بالجوائز المحلية و العالمية ولكنه لايعني بالضرورة حيازته المجد من طرفيه العاجي .. و الجماهيري, لان ذيوعه وانتشاره بين القراء و استمالته لهوى المترجمين ودور النشر في الآونة الأخيرة أصبح مرتبطاً بأمر آخر يتطلب توفر عنصر الغرابة في موضوعات الكاتب و اختراقها لثيمات بكر لم يسبق لأحد من قبل ان وضع على أرضها موطئ قدم , وربما لهذا السبب أتجهت مجسات الترجمة في الفترة الأخيرة إلى كاتب عربي مغترب بقوة من الكتاب العرب هو الكاتب الليبي إبراهيم الكوني , والذي ترجمت روايته المهمة ( التبر ) إلى لغات مختلفة , وهي ليست الرواية الأولى التي تترجم لهذا الكاتب إلى لغات أخرى .
ان أهم ما يميز رواية ( التبر ) لابراهيم الكوني ويجعلها بكراً في موضوعها ان كاتبها استطاع ان يحول علاقة بدوي مع دابته و تعلقه الشديد بها إلى موقف فلسفي ليس فقط من الموضوعات الاجتماعية المتعارف عليها في بعض المجتمعات العربية المتخلفة حسب , وإنما من الثوابت الإنسانية المتعارف عليها في المجتمعات المتقدمة أيضاً .وأكثرتلك الموضوعات مدعاة للرثاء , من وجهة نظر الرواية , المارثون اليومي اللاهث من اجل الفوز بالمرأة و الذرية و المال الذي يجعل من كل مقيم وراء جدار أو كوخ عبداً مريداً أعمى اذ لايعرف معنى الطمأنينة من كان مكبلاً بقيود الواحات , بالوهق و الدمية و الوهم , بهموم الحياة و دسائس الناس , يعاند بالنهار ويسهر بالليل مهموماً فلا تزداد القيود إلا ضيقاً وشراسة.
إذن الرواية تلعن التعلق بالزوجة و الابن و التقاليد أو كما يسميها الكاتب على لسان روايته ( الوهق و الدمية و الوهم ) كما وتلعن كل الأغبياء الذين يقاضون حريتهم بالوهق و الدمية و الوهم ممن يقتنون لأنفسهم القيود الشيطانية كما يفعل كل الناس في الدنيا .
وقال لنفسه كما يقول الجميع هكذا وجدنا إباءنا يفعلون الآن فهم معنى هذه الآية عندما سمعها من الشيخ موسى و حفظها , لم يكن يعلم انه سيسير في الطريق نفسه الذي سار فيه قوم إبراهيم وهم يصرون على عبادة الأصنام لمجرد أنهم ورثوا التقليد أباً عن جد .. وهو تزوج وأنجب وصنع مكاناً للغار كي يحبس نفسه في قيود أقوى من سلسلة الحديد التي يزيد طولها على السبعين ذراعاً .
و الجميل في الخلوص إلى هذا الموقف ان وعي الرجل البدوي به لاينبثق هكذا فجأة بإرادة الكاتب و رغبته وإنما يتطور بشكلية مقنعة من حالة الهيام بالمرأة و الانجذاب إليها ثم الحصول عليها و تملكها إلى حالة الزهد بها و النفور منها, لنسمعه يقول في الحالة الأولى : ( الجاذبية الجاذبية ) , آه من جاذبية الأنثى , أنها ذلك الجانب الخفي في المرأة , أنها واضحة وبسيطة مثل الصحراء ولكن ليس ثمة شيء يفوقها غموضاً و خفاء , أنها كهمهمات الجن في جبل الحساونة تسمعها ولكنك لا تستطيع ان تميز الكلمات , تسمع النطق و يغيب عنك المعنى .
هذه هي الجاذبية لا احد يعرف ما هي ولكنها تجذب وتجذب قد توحي بها التفاتة , أو ابتسامة خفيفة أو نظرة عابرة , أو هزة رأس , أو طريقة نطق بكلمة , أو حتى مجرد رنة , نغمة في الصوت , الجاذبية هي الجمال الخفي الذي خلق كي يصرع أمثاله من الرجال .
ثم ينتهي إلى القول في الحالة الثانية : ( لايشتهي لحم المهري إلا امرأة …أوه ياربي أين السحر ؟ أين الشعر ؟ أين الشرر ؟ أين الجاذبية ؟ ) ليجد الرجل خلاصه بعد ذلك في النزوع إلى سكينة الصحراء و سكينة القلب , إلى الصمت في الأذن و الصمت في القلب حيث الصحراء وحدها تغسل الروح , تتطهر , تخلو , تتفرع , تتفضى , فيسهل ان تنطلق لتحدد بالخلاء الأبدي, بالأفق , بالفضاء المؤدي إلى مكان خارج الأفق وخارج الفضاء بالدنيا الأخرى, بالآخرة , ان الكوني إذن يقدم البيئة الصحراوية بديلاً عن عالم المادة الموحش , ويدعو إلى التبيؤ مع الأطراف الثلاث للصحراء : العراء , الأفق , الفضاء , ليركب الناجي سفينته نحو الأبدية , وخير مافي الرواية أنها لا تقدم هذا الموقف الوجودي من خلال بطل مثقف أو متصوف أو فيلسوف وإنما تقدمه من خلال بدوي بسيط ينشأ مع مهر أبلق ( بعير ) يتخذه رفيقاً بشرياً له ويضحي من اجله بزوجته وولده ليفك رهنه ويهرب به من وطأة عالم الغافلين إلى طلاقة الصحراء العارية الموصولة بالآخرة :
( كاد يغرق , الأبلق أنقذه من القيد , الأبلق رسول , الأبلق روح بعثه الله كي يحرر قلبه المقيد بالأصفاد لولا الحيوان الطاهر لاقتفى اثر إبليس و لتخلف عن السفينة ولهلك مع الهالكين , كاد يتوغل في زحمة الغافلين الذين ورثوا الأعباء عن الآباء , الوهق والدمية و الوهم ).
- الوهق : الحبل يرمى في انشوطة فتؤخذ به الدابة و الإنسان ( القاموس المحيط ) .